ماهر عشم يكتب.. بعد هدوء العاصفة

بقلم د. ماهر عشم شريك مؤسس ورئيس تنفيذي لشركة اليفيام للتكنولوجيا المالية _ غير خافٍ على أحد أن الاقتصاد المصري واجه تحديات جسامًا بعضها انعكاس لأحداث عالمية أعقاب فيروس وباء كورونا، التي كانت علامة فارقة في ارتفاع تكلفة الشحن واختلال انتظامه وتوزيع الحاويات بين موانئ العالم. تلى ذلك حرب روسيا وأوكرانيا التي أدت إلى مزيد من التضخم خاصةً في أسعار الوقود والمواد الغذائية الرئيسية كالقمح والزيت، وأخيرًا الحرب الدائرة في قطاع غزة وقرصنة البحر الأحمر التي أثرت على حركة الملاحة بقناة السويس.

بالإضافة لما سبق واجه اقتصادنا تحديات داخلية نتجت عن قرارات مثيرة للجدل، أدت إلى هروب الكثير من رؤوس الأموال الوطنية وظهور السوق السوداء وخروج الكثير من العملات الاجنبية من القنوات الشرعية إلى السوق السوداء.

E-Bank

وبعد ارتفاع التضخم وانخفاض الجنيه إلى مستويات غير مسبوقة، تنفس الجميع الصعداء بعد نجاح الحكومة إبرام صفقة لجذب الاستثمار الخارجي بالعملة الصعبة هي الأكبر في تاريخ مصر تلتها إعلانات عن قروض جديدة من صندوق النقد، والذي عادة ما تتزامن مع تخفيض لقيمة الجنيه بالسوق الرسمية والإعلان عن تعويمه. وأخيرًا حزمة مساعدات من الاتحاد الأوروبي نجحت في كبح جماح السوق السوداء وإعادة التوازن إلى السوق إلى حد ما. في نفس الوقت اتخذت الدولة حزمة قرارات جريئة متعلقة بالسياسة النقدية وسعر الصرف لإعادة الهدوء والاستقرار للاقتصاد. ومع أننا ما زلنا في الأيام الأولى لتطبيق تلك الإصلاحات -التي لم نكن لنكمل المسير دونها- إلا أن البوادر طيبة ومبشرة.

أخيرًا تابعنا نهاية الأسبوع الماضي تقرير وزارة التجارة والصناعة مبشرًا بانخفاض العجز للميزان التجاري إلى درجة كبيرة، نظرًا لانخفاض الواردات وزيادة الصادرات وهو أمر طبيعي عند انخفاض القيمة لأي عملة محلية وفرض القيود والإجراءات المستندية غير المسبوقة على الواردات.

بناء على ما سبق أود أن أستعرض في مقالي بعض الاقتراحات التي قد تكون مفيدة بعد هدوء العاصفة ومهمة لاستدامة النجاح في استقرار السوق وزيادة معدلات النمو لوطننا الأغلى:

أولًا: أن تشجع الدولة على زيادة صادرات منتجات الصناعات الغذائية القائمة على المنتجات الزراعية. فمثلًا سعر كيلو الفواكه المجففة كالمشمش او التين اللذين يزيد استهلاكهما في شهر رمضان المبارك يقدران بخمسة وعشرين ضعفًا من ثمن الثمر الطازج. زيادة صادرات الحاصلات الزراعية المجردة أدت إلى مزيد من التضخم في أسعار تلك الحاصلات التي تشكل مكونًا أساسيًّا للاستهلاك في السوق المحلية، بينما صادرات الصناعات الغذائية ستعظم الفائدة والقيمة والعائد وتقلل الاستيراد وتخلق فرص العمل وتحافظ على الأسعار في السوق المحلية.

ثانيًا: انتقاء القطاعات المفتوحة للاستثمار والتي تساهم في خلق فرص عمل ذات انتشار جغرافي وليست مرتكزة على مناطق معينة، لتجنب التكدس السكاني وهجرة المواطنين من الأرياف إلى العاصمة. فالصناعات القائمة على الزراعة مثلًا لها وجود بأنحاء القطر المصري قريبة من مناطق الإنتاج العمراني والاستثمار بها له دورة سريعة تزيد من عجلة دوران النقد بالاقتصاد، وبالتالي من معدلات النمو بينما الاستثمار في الإعمار خاصة في المباني غير المستغلة وعدم وجود سوق ثانوية لها له تأثير مبطئ للاقتصاد والنمو.

ثالثًا: لا بد من إنشاء آلية شفافة لتداول العملات الأجنبية بين الأفراد أو الشركات من جهة والمؤسسات المالية من مصارف وشركات صرافة من جهة أخرى، لتحصين السوق من احتمال عودة السوق السوداء إن حدث -لا قدر الله- أي نقص في العملة الأجنبية مستقبلًا. تلك الآلية لا بد أن تعتمد على التكنولوجيا المالية وقدرتها الهائلة على تحليل البيانات لحظيًّا وتمكين البنك المركزي من التدخل في الوقت المناسب وبالكميات والطرق المطلوبة لضبط السوق.

رابعًا: الاستثمار في التكنولوجيا الرقابية والتي كانت يمكن أن توجد آليات وقائية تضبط السوق وتقيه من ممارسات مستغلة مثل ما حدث من فرض القيود على الكروت الائتمانية، والتي تضرر منها كل العاملين بقطاعات كثيرة على رأسها التكنولوجيا والتسويق الإلكتروني.

خامسًا: تبني إستراتيجسة قومية بداية من المناهج بالمرحلة الابتدائية وحتى تقليل العوائق أمام السياحة، خاصة في الأماكن التي قد تشكل مقاصد سياحية بخلاف السياحة الشاطئية. فما زالت السياحة في مصر أقل بكثير من القدرات والمقومات الموجودة وإن توفرت الإمكانيات لساهمت السياحة بشكل أعظم وسرعة أكبر في نمو الاقتصاد.

أخيرًا: إزالة المعوقات الموجودة أمام رأس المال الوطني، فالمؤشر الحقيقي لتعافي الاقتصاد واستدامة النمو هو شهية رأس المال الوطني، والذي عانى كثيرًا في الفترة الماضية وهو العماد الحقيقي المستدام لتوفير فرص عمل والذي ما زال ينتظر ويترقب الكثير من التغيير المطلوب حتى يتمكن من العودة والنماء.

لقد بدأنا طريقًا شاقًّا بإصلاحات جريئة كانت لازمة لتغير المسار الاقتصادي –كل الشكر والتحية للقائمين عليها- وعلينا بالاستفادة انطلاقًا منها نحو النماء والاستدامة اللذين يليقان بتاريخ ومكانة وحجم مصر وأهميتها.

 

 

الرابط المختصر