بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط .. يواجه العالم أزمة تنمية؛ فهكذا تؤكد مؤشراتها التي تم استعراضها في الأسبوع الماضي الذي خصصت أعماله في الأمم المتحدة لمناقشة قضايا التمويل. وقد استهل التقرير السنوي الشامل عن تمويل أهداف التنمية المستدامة بالإفصاح عن حقيقة الأوضاع بأن 15 في المائة فقط من هذه الأهداف على المسار السليم لتحقيقها في عام 2030، وأن نصف هذه الأهداف بعيدة ومنحرفة عن هذا المسار، وأن 35 في المائة منها أسوأ مما كانت عليه أوضاعها عند إشارة البدء فيها منذ 7 سنوات ونيف كان أكثرها عجافاً.
ولا تُظهر مؤشرات النمو الاقتصادي أن العالم سيعوض في النصف المتبقي من الطريق ما أضاعه في النصف الأول منه.
فالجهود الراهنة في مسارات التمويل والاستثمار والتجارة متهافتة تعوقها الحروب والصراعات الدولية وتربكها الإجراءات الحمائية المسيّسة التي تضر بشركاء التجارة ولا تحقق نفعاً اقتصادياً يذكر للمبادرين بها. بما يدرجها تحت بنود الحماقة كسلوك معيب لكل من يلحق الضرر بغيره بلا نفع لنفسه، إذ يستشري الضرر فيلحق الأذى البالغ بمرتكبي الحماقات الاقتصادية، وإن جاءت وسط صياح المشجعين لإجراءات شعبوية قصيرة النظر ضيقة الأفق امتلأت بها سجلات الأفكار السيئة البالية التي عدّ مرتكبوها دائماً أنهم يحسنون صنعاً.
ونشهد اليوم ألواناً من أذى الحماقات الدولية التي استباحت حياة الناس حرباً، وأضرت بأسباب معيشتهم بتدمير المناخ والتقاعس عن إنفاذ التعهدات المتراكمة بالتصدي لتغيراته منذ اتفاق باريس لعام 2015، وقوضت فرص التنمية بالإفراط في الاستدانة بلا عائد، وأهملت الرعاية الصحية؛ فتركت الجوائح والأمراض المعدية تحصد الأرواح، وجعلت الارتقاء بالتعليم والثقافة والمعرفة، وهي من جوانب الاستثمار الأهم في البشر، في ذيل قوائم الاهتمام. ثم يأتي من يتعجب من استفحال أزمة التنمية غير مدرك أنها من النتائج المحتومة لمقدمات معلومة.
ذكرنا في المقال السابق أن استقرار معدل النمو الاقتصادي عند رقم 3.2 بالمائة في العام الماضي وتوقع استمراره عند هذا الحد المتدني في العامين الحالي والمقبل من النذر السيئة لمستقبل التنمية المستدامة التي تحتاج لمستويات أعلى كمّاً ونوعاً. كما أن البلدان النامية يتطلب تقدمها ما لا يقل عن ضعف هذا الرقم لكي تضيق الفجوة بينها وبين البلدان المتقدمة ذات الدخل الأعلى.
وفي تقرير لجنة النمو التي قاد أعمالها الاقتصادي مايك سبنس الحائز على نوبل في الاقتصاد، أكد الحاجة إلى تحقيق البلدان النامية متوسط نمو لا يقل عن 7 في المائة لمدة 25 عاماً متصلة حتى تحقق التقدم والتقارب مع البلدان المتقدمة. والمؤسف أن بلداناً نامية، بما فيها أغلب البلدان العربية والأفريقية، يقل فيها النمو الاقتصادي السنوي عن المتوسط العالمي، مع تفاوت قطاعي وإقليمي ونوعي، يمنعنا من وصف نموها بالشمول والاطراد. فضلاً عن افتقاد لأبعاد التطور الجديدة للتنافسية؛ فهو ضعيف الإنتاجية مفتقر لإسهام الاقتصاد الأخضر والتحول الرقمي وممكنات تحقيق وثبات من خلال الذكاء الاصطناعي.
بوصفة ميكانيكية بسيطة يحتاج تحقيق أهداف التنمية المستدامة إلى معدل نمو اقتصادي مرتفع. يتطلب هذا النمو استثمارات في رأس المال البشري وفي البنية الأساسية وفي تمتين الاقتصاد والمجتمع وتعزيز قدراتهما على التوقي من الصدمات واحتوائها. تستلزم هذه الاستثمارات تدفقات مالية مستمرة، قدّرتها دراسة كلفت بها رئاستي قمة المناخ لشرم الشيخ ودبي بنحو 5.4 تريليون دولار سنوياً للبلدان النامية والأسواق الناشئة، باستثناء الصين. وتشير الدراسة التي أعدتها لجنة خبراء بقيادة الاقتصادية فيرا سونجوي واللورد نيكولاس ستيرن، إلى أن هذا الرقم يتضمن 2.4 تريليون مطلوب تأمينها من مصادر محلية وخارجية لتمويل تخفيف آثار الانبعاثات الضارة والتحول للطاقة الجديدة والمتجددة والتكيف مع تغيرات المناخ.
وللعلم فهناك تقديرات أقل لحجم فجوة التمويل، إذ قدّرها تقرير تمويل التنمية المستدامة بنحو 4 تريليونات دولار. ويرجع التفاوت إلى اختلاف منهجية التقدير وشمولها، ولعدم توافر تقديرات دقيقة عن التمويل على مستوى كل دولة يمكن رصده وتجميعه لتحديد الفجوة العالمية.
ويتوافر عالمياً من أرصدة المدخرات الأصول المالية ما يكفي ويفيض بكثير عن احتياجات التمويل المطلوبة لتحقيق أهداف التنمية. فقد أشار تقرير لمؤسسة «برايس ووتر هاوس» تحت عنوان «إدارة الأصول والثروات»، إلى أن الأصول المالية تحت إدارة مديري المحافظ ارتفعت من 85 تريليوناً في عام 2016، إلى 111 تريليوناً في عام 2020 الذي شهد جائحة كورونا، ومقدر أن تصل إلى 145 تريليوناً في عام 2025.
وعلى خلاف ما كان مأمولاً في بداية تطبيق برامج التنمية المستدامة بعبارة «من المليارات إلى التريليونات» التي صدرت كعنوان طموح في تقرير لبنوك التنمية الدولية، يشير لاري سمرز وزير الخزانة الأمريكي السابق والبروفسور سينغ في مقال أخير لهما، إلى أن الواقع يشير إلى «مليارات تخرج وملايين تدخل»، في إشارة منهما إلى تراجع صافي التدفقات المالية إلى البلدان النامية. إذ تحصلت منها المؤسسات الخاصة على 68 مليار دولار في شكل سداد لأقساط الديون وفوائدها، بينما سحبت منها المؤسسات المالية الدولية 40 مليار دولار أخرى. أفنعجب مرة أخرى من سوء أحوال التنمية المستدامة عالمياً؟ فمن أين تأتي التنمية بلا محركات للنمو؟ وكيف تعمل محركات النمو من دون استثمارات؟ وكيف للاستثمارات أن تنشط من دون تدفقات مالية ملائمة وسريعة ومستمرة توجه حيث أولويات التنمية وعوائدها على الاقتصادات والمجتمعات؟ إن لم يتغير هذا النهج المستمر البائس ذو الآثار التعسة الراهنة، فمن التضليل أن يروج البعض لمعجزات ومفاجآت قد تتحقق على المستوى العالمي. وإذا علينا أن نبدأ بانطلاقة جديدة فهي بالتوقف الفوري عن ارتكاب الحماقات، وعلى مداويها التحوط والتوقي من شرور الحمقى استرشاداً بقول المتنبي:
«لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها».