بقلم د. ماهر عشم شريك مؤسس ورئيس تنفيذي لشركة اليفيام للتكنولوجيا المالية _ صناعة المحتوى لها تأثير السحر على فكر وسلوك وحضارة وإنتاج واقتصاد الشعوب، وهي انعكاس حقيقي لمشكلاتهم ومرآة لمجتمعهم. فإذا قمت بمتابعة سبعة أفلام مصرية مثلًا، فيلم لكل عقد من العقود السابقة لاستطعت أن تلخص التغيرات التي مر بها مجتمعنا عبر تلك العقود.
وبالرغم من أنني لا أعرف الكثير عن صناعة المسرح والسينما والدراما بخلاف مادة اخترت دراستها بجانب تخصصي في تكنولوجيا المعلومات. إلا أنني تعرضت الأسابيع الماضية لتجربة فريدة وهي الدورة الثانية لمهرجان سلام للأفلام القصيرة والتسجيلية لكونها نظمت بواسطة أحد الكيانات التي نلت شرف التطوع لأكون مسؤولًا عنها.
بعدها مباشرة وعن طريق مقال للدكتور زياد بهاء الدين تابعت افتتاح مسرح استوديو ناصيبيان بعد إعادة ترميمه والتابع لجمعية النهضة العلمية والثقافية.
بعد أيام قليلة حللت ضيفًا على إحدى القنوات في برنامج كان موجهًا للشباب وله متابعة جيدة من شباب الصعيد ناقشنا فيه قضية النجاح عن طريق المساومة في المبادئ الأمانة والكذب لتحقيق التارجت في مقابل التمسك بها وتحمل التكلفة.
وتوجت بأول أمس الجمعة تلك الخبرات بما فرحني وأشعرني بالفخر كمصري صعيدي وهو خبر فوز فيلم «رفعت عيني إلى السماء» بجائزة العين الذهبية لأفضل فيلم تسجيلي بمهرجان كان السينمائي الدولي، في دورته الـ 76، ليصبح أول فيلم مصري يفوز بالجائزة في تاريخ المهرجان.
الفيلم بطولة فريق مسرح بانوراما برشا بالصعيد ويظهر شخصيات مصرية أصيلة ومواقع تصوير حية من قلب الصعيد نادرًا ما يتم تجسيدها في الأفلام.
لم أسمع عن بانوراما برشا ولا عن الجميلات فخر مصر اللائي نلن شرف الجائزة قبل الخبر، ولكن شوقني الخبر لمعرفة المزيد عنهم وعن العمل ولأنني كثير الذهاب إلى قرى الصعيد استطعت تخيل الأجواء التي نشأت فيها هذه الفرقة.
تابعت أغنية ومشهدًا مسرحيًّا لهم وهم يبرزون حقوق فتاة الصعيد في الحرية مقابل مجتمع قاهر لها تعاني فيه من سيادة الفكر الذكوري والتحرش فوجدت جرأة وبطولة وجبت الإشادة بهما.
من تلك الخبرات والأخبار نبعت الملاحظات والتوصيات التالية وهي الهدف من مقالي:
1- لم يكن الطريق من البرشا إلى كان محفوفًا بالدعم والمساندة بل بدأ -حسب ما توصلت اليه من بحثي– بجهود فتيات صعيديات مهمشات نشأن في قرية تابعة لمركز ملوي محافظة المنيا. تلك البرشا مع أن لها جذورًا ضاربة في عمق التاريخ إلا أننا لم نسمع عنها خيرًا من قبل. بطلات الفيلم قررن عدم الاستسلام وإنشاء فرقة مسرحية في شوارع القرية تعرض أعمالًا تجسد واقعهن ومعاناتهن.
2- لا أتوفع أن الدولة بكامل أجهزتها من وزارات ثقافة وتربية وتعليم وشركات إنتاج ضخمة وقنوات تلفزيونية وفضائية كان لها فضل عليهن أو مساندة أو دور في أن يسطع اسم مصر في مهرجان من أهم مهرجانات العالم. ولكن كان منبع هذا الشرف مزيج من الحقيقة والمعاناة والشجاعة والجرأة والموهبة الفطرية التي أعتقد وحسب احتكاكي بشباب مماثل لهن صقلوها بجهودهم الذاتية وإمكانيات تكاد تكون معدومة.
3- كل ما استطعت رؤيته من مشاهد عكست جمال ريف وصعيد وأهل مصر، كما أن اللهجة المستخدمة كانت صعيدية بسيطة نقية جميلة خلت من أي مشاهد قبيحة وألفاظ نابية وأسلحة وملابس تثير الاشمئزاز ضجت بها القنوات المتاحة وازدحمت بها منصات التواصل الاجتماعي. تلك الأعمال في المقابل أنتجت أبطالًا في منتهى القبح يثيرون الاشمئزاز وصدرتهم ليصبحوا هم القدوة والنموذج للشباب. أي مواطن قريب من مراهقين أو شباب في مقتبل العمر سيجد تلك السلوكيات والأغاني والأزياء بل حتى الألقاب التي يستخدمونها مستندة إلى تلك الأعمال ومتخذة أشباه النجوم.
لذلك ومن وحي تلك الأخبار واستنادًا إلى تلك المقارنات بين الجمال والقبح الذي استشرى مهددًا مستقبل أبناء الوطن فإنني أوصي بالآتي:
أولًا: على أجهزة الدولة التابعة لوزارتي التعليم والثقافة الاهتمام البالغ بمسرح المدرسة والقرية ففيه إفراغ لطاقات الشباب المهمش والمقهور والموهوب والمبدع، فمسرح المدرسة ومركز الشباب هو البداية الحقيقية لصقل الموهبة وتعبئة الوقت بما يفيد وهو البداية لإنتاج النجوم.
ثانيًا: على أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني إنشاء حاضنات للفن قدوةً بحاضنات ريادات الأعمال للاهتمام برعاية الموهوبين وتوفير ما يلزمهم وتمكينهم من إنتاج أعمال فنية تنشر الجمال والموهبة كما نشرتهن فتيات البرشا.
ثالثًا: هناك مسؤولية أخلاقية تقع على عاتق القنوات وبرامج التوك شو الشهيرة ومقدميها وشركات الإنتاج في مراعاة الضمير في إنتاج ونشر ما يفيد لتهذيب الذوق العام في مقابل ما هو ناجح نجاح سريع يهبط بذوق وأخلاق ومظهر شباب مصر ومستقبلها. فعليهم مراعاتها وتغيير سياساتهم لو كانوا يرغبون في مستقبل أكثر إشراقًا.
رابعًا: يجب علينا جميعًا تسليط الضوء على تلك النماذج والتجارب الراقية والمبهجة والمفرحة التي ارتقت باسم مصر ورفعته عاليًا وأن نجعل منها النموذج والقدوة.
مصر مليئة مواهب فنية شابة مكافحة لا تبخل بإنفاق كل ما لديها من إمكانيات لصقل مواهبها فلنساندهم ونمكنهم ونفسح لهم الطريق ليكونوا عماد المستقبل وخير السفراء لبلدنا وحضارتها وشعبها. كما أن القوى الناعمة إن وفرنا لها الإمكانات جديرة بحل جزء من مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية فالمسرح المصري كان جاذبًا للسياحة في الصيف والفيلم والدراما المصرية كانا موردًا فعالًا في اقتصادها.
أخيرًا من القلب أجمل التحية والشكر لنجمات البرشا ومخرجي العمل على مساهماتهم في إدخال الفرحة لقلوبنا برفع اسم وطننا الغالي في أهم مهرجانات العالم.