بعد رحلة عامرة شملت قطاعات الاستثمار والتمويل بشقيه المصرفي وغير المصرفي، استضاف برنامج حابي بودكاست – الرحلة، في حلقته العاشرة، شريف سامي رئيس الشركة القومية لإدارة الأصول والاستثمار والرئيس الأسبق لهيئة الرقابة المالية، في حوار شهد إلقاء الضوء على رحلته منذ فترة النشأة والتعليم وحتى وصوله إلى رئاسة الهيئة والبنك التجاري الدولي، بجانب عضويته لمجالس إدارات العديد من المؤسسات المالية والاستثمارية.
وكشف سامي خلال الحوار عن التحديات والصعوبات التي واجهته منذ دخوله مجال البنوك والاستثمار، وكيف تغلب عليها، وسبب حرصه على عدم الالتحاق بأي جهة خاضعة لإشراف هيئة الرقابة المالية بعد ترك مسؤوليتها، ولماذا تولى رئاسة شركة عقارية وليس أي مجال آخر، كما قدم رؤيته للتحديات الاقتصادية المختلفة التي تواجه مصر، وكيف ساهمت إعادة هيكلة القطاع المصرفي في بداية القرن العشرين في مواجهة مصر للتحديات المالية والأزمات العالمية التي شهدها العالم خلال السنوات الماضية.
وإلى تفاصيل اللقاء
أحمد رضوان: بسم الله الرحمن الرحيم، أهلًا وسهلًا بحضراتكم، في لقاء جديد من حابي بودكاست الحلقة الأخيرة من الموسم الأول «الرحلة»، معنا اليوم رحلة جديدة اخترناها لتكون مسك الختام فهي رحلة زاخرة بالخبرات والتنوع.. لن أطيل عليكم ضيف اليوم هو الأستاذ شريف سامي رئيس الشركة القومية لإدارة الأصول والاستثمار والرئيس الأسبق للهيئة العامة للرقابة المالية ضمن الكثير من المناصب والمهام والمسؤوليات.
دعنا نبدأ حديثنا بالمحطة التي ترى أنها كانت مؤثرة على أكثر من مستوى في حياتك ودورك واستطعت من خلالها تحقيق أهدافك وأحلامك.. نود معرفة المحطة الأكثر تأثيرًا في مسيرتك وكانت في أي مهمة من المهام التي توليتها خلال رحلتك؟
شريف سامي: بداية أود العودة خطوة للخلف، لأذكر محطة صغيرة كانت السبب في وضعي في مسار حياتي العملية والمهنية، في مرحلة الثانوية العامة كنت طالبًا بشعبة علمي رياضة والمعروف أن المتفوقين في هذه الشعبة يدخلون إلى كليات كالهندسة والعلوم وما شابه، ولكنني اخترت كلية التجارة كرغبة أولى.
كنت متفوقًًا في الثانوية العامة وحصلت على مجموع 94% علمي رياضة ولكن اخترت دراسة التجارة
ما حدث أنني ذهبت بمفردي حينها إلى مكتب التنسيق وكنت حاصلًا على مجموع 94% ورفض الموظف المسؤول استلام استمارة الرغبات نظرًا لاختياري كلية التجارة رغم تفوقي ووجودي بمفردي ولكن أصررت على تسليمها وعلى قراري.
دراستي الجامعية كانت محطة مؤثرة في مساري المهني
ظلت حكاية دخولي لكلية التجارة بمجموع 94% علمي رياضة محط إثارة لفترة طويلة بين المعارف والأصدقاء، وبدأت بذكر هذه المحطة لأن مساري المهني كله كان مرتبطًا بكلية التجارة وما درسته سواء في مجال المال والاستثمار والتجارة والنظم والمعلومات، إذ وضعتني دراستي على مسار معين.
أنصح أولادي والشباب اختيار دراسة ما يحبون وليس ما جاء به مجموع الدرجات أو السير وراء الكليات الرائجة في وقت ما
وأعتقد أنه لم يحدث يومًا أنني راجعت نفسي في خياري هذا، وأقول ذلك لأولادي وكذلك أي فرد مهتم بالسؤال والاستشارة، أنصحه باختيار ما يحب وما يميل إليه وليس ما جاء به مجموع درجاته أو اختيار الكليات الرائجة في وقت ما.
دراستي الجامعية بكلية التجارة كانت مؤثرة في مسيرتي المهنية فكلها متعلقة بإدارة الأموال والاقتصاد والمحاسبة وكان هذا هو القرار الأهم الذي وضعني على هذا المسار.
العمل العام يترك أثرًا كبيرًا وبصمة يفتخر بها
وعودة إلى سؤالك أتصور دائمًا أن العمل العام يترك أثرًا كبيرًا بالمكان والناس تفتخر به كبصمة مؤثرة تركتها، فليس شرطًا أن يكون التأثير مرتبطًا بأن أكون رئيسًا لمكان أو كيان ما، حدث هذا بالطبع في فترة تولي مسؤولية هيئة الرقابة المالية، ولكن أحيانًا في جهات أخرى قد يكون دورك مؤثرًا وأنت عضو مجلس إدارة ورئيسًا لإحدى اللجان. تستطيع من خلال هذا الدور ترك بصمة بتعديل توجه معين أو استحداث بعض الأمور أو حل مشكلات تواجه العاملين قد تكون هذه أمور بسيطة ولكن أحيانًا أصحاب المشكلة قد يكون لديهم صعوبة في الوصول إلى متخذ القرار.
ليس شرطًا أن تكون رئيسًا للكيان لتكون مؤثرًا وصاحب بصمة
فمن خلال المشاركة في اجتماعات مجلس الإدارة أقوم بطرح مثل هذه الأمور سواء في هيئة التأمينات الاجتماعية أو هيئة الاستثمار أو غيرها من الجهات، وأعتقد أن هذا الأثر هو الأهم وليس العائد المالي إذ إن العمل العام ليس له عائد مادي، وإنما ترك بصمة مؤثرة للعاملين بهذه الجهة.
حرصت دومًا على المشاركة في العمل العام وكنت عضوًا بمجلس إدارة هيئة الاستثمار لنحو 8 سنوات
بالنسبة لي هذا هو المهم، وإذا تحدثنا عن المشاركات في العمل العام أثناء لقائنا هذا ستجد أنني كنت حريصًا دومًا على المشاركة فيه لا أسعى إليها ولكنها تعرض وتأتي إلي، فقد كنت عضوًا بمجلس إدارة الهيئة العامة للاستثمار لنحو 7 أو 8 سنوات قبل أن أتولى مسؤولية هيئة الرقابة المالية، وبعدما تركت هيئة الرقابة المالية، توليت أعمال الاستثمارات بهيئة التأمينات الاجتماعية وكنت في لجنة مراجعة التأمينات بعد عملية دمج الصناديق، وعملت أيضًا فترة ببنك ناصر الاجتماعي كرئيس للجنة الاستثمار.
كل هذه المشاركات أنظر إليها كتأدية الخدمة العسكرية وأعتبر أنها مساهمتي تجاه الوطن والمجتمع، جنبًا إلى جنب الأنشطة والأعمال الخاصة.
ياسمين منير: نرحب بحضرتك مرة أخرى في بودكاست حابي..
حضرتك لعبت أكثر من دور في القطاع المصرفي، منها دور عام كعضو مجلس إدارة في البنك المركزي بشكل رئيسي وفي بنوك أخرى.. وفي الوقت نفسه كنت رئيس البنك التجاري الدولي لفترة.. حدثنا عن هذا القطاع وكيف كانت هذه المحطة مهمة ومؤثرة في رحلتك؟
شريف سامي: سؤال مهم.. أول تعرضي للقطاع المصرفي كان في التسعينيات عندما كنت أعمل في أكبر شركة استشارية في العالم بمنطقة الخليج ولبنان في مجال ميكنة وإعادة هندسة العمليات والفروع، كان هذا مدخلًا ولكن لم نكن ننظر إلى الجانب المالي والمخاطر والأثر الاقتصادي.
بعدها بفترة أصبحت عضوًا في مجلس إدارة بنك القاهرة لمدة 3 سنوات.. ثم رئاسة هيئة الرقابة المالية، وعضوية مجلس إدارة البنك المركزي بالتبعية.. ثم قررت الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية السابقة تعييني في مجلس إدارة بنك الاستثمار القومي منذ 6 سنوات، ثم رئيسًا للبنك التجاري الدولي في 2020 لمدة سنتين.
أكبر قصة نجاح وإعادة هيكلة في تاريخ مصر الحديث هي القطاع المصرفي
أعتقد أن أكبر قصة اقتصادية لنجاح وإعادة هيكلة في تاريخ مصر الحديث هي قصة القطاع المصرفي. قولًا واحدًا كنا في وضع سيئ حتى مطلع الألفينات لأن البنوك لم تتطور وقتها، ولم تكن هناك ميكنة أو ربط للفروع والقرارات الائتمانية، وربط المخاطر كان تقليديًّا جدًّا، وكذلك الخدمات المالية للأفراد .
حدثت نقلة جوهرية لإنقاذ محافظ البنوك من قرارات لم تكن موضوعية في فترات سابقة، وهذا ما يجب عمل عليه مجلد إذا كان هناك شيء نجحنا فيه في المجال الاقتصادي، وبالتأكيد ينسب الفضل في ذلك للدكتور فاروق العقدة محافظ البنك المركزي وقتها، وبالتأكيد لم يكن يعمل بمفرده بل كان معه مجموعة من رؤساء البنوك الذين تولوا في ظروف صعبة جدًّا، بجانب فريق جديد في البنك المركزي. ووقتها لم تظهر قواعد المستقلين وعدم تعارض المصالح التي تم تعديل القانون لمراعاتها، فقد كان هناك من بين الأعضاء رئيس أكبر مكتب محاسبة، وأكبر المحاميات ورؤساء مكاتب الاستشارات القانونية، ورؤساء بعض البنوك، ولذلك يمكن اعتبار هذه الفترة فترة طوارئ بعيدًا عن قواعد الحوكمة.
لولا إعادة هيكلة القطاع المصرفي لكان الاقتصاد سيعاني
ما حدث كان مصدر فخر لنا، ولولا هذه الإجراءات الإصلاحية التي شهدها القطاع المصرفي كان الاقتصاد سيواجه معاناة.
وفي هذه الفترة اتذكر أنه أثناء الأزمة المالية العالمية في 2008 كنا ننظر إلى بعضنا البعض ونقول أين الأزمة؟ فالبنوك المصرية كانت تسير بشكل جيد، وذلك لأننا استفدنا من الإصلاحات التي أجريت على القطاع المصرفي.
البنوك تظل هي الوزن الأكبر في التمويل وهناك منافسة قوية حاليًا من القطاعات المالية غير المصرفية
في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، ستظل البنوك هي الوزن الأكبر في التمويل، رغم أننا نرى الآن المنافسة القوية من القطاعات المالية غير المصرفية، سواء في التحويلات أو الإقراض أو التمويل منتناهي الصغر أو التمويل العقاري والتخصيم والسندات والتوريق بأرقام كبيرة.. وهذا أمر جيد وصحي.. وبالمناسبة البنوك داعمة لهذا القطاع لأن جزءًا من تمويله يأتي من البنوك.. إنما لكل قطاع دور خاص به .
نحن مع الشمول المالي لكننا في واقع الأمر نريد من المواطنين التعامل مع البنوك ووضع أموالهم فيها، وليستفيدوا من الإقراض ويجدوا من يحمي حقوقهم.. ويسعدنا بالتأكيد الدور الذي يقوم به البنك المركزي في إشرافه على البنوك، وخاصة مسألة شكاوى العملاء والبت فيها.. وهذا الأمر مهم لأن الرقيب دوره السلامة المالية .
البنوك العامة كان لها دور رائد في التطبيقات الإلكترونية
هناك أيضًا منتجات مالية بنكية جيدة جدًّا بدأت في الظهور، ومنها تطبيق إنستا باي الذي يقوم بتحويل الأموال في ثوان.. كما أن التحدي الرقمي أمام البنوك أصبح أقل.. لأنه منذ سنوات كان عدد قليل فقط من البنوك لديها تطبيقات رقمية يتعامل عليها العملاء، بينما الآن التطبيقات البنكية أصبحت في متناول الجميع وجزءًا من حياة البسطاء أيضًا .
قد لا نرى الجهد الذي يقوم به الأمن السيبراني والحماية لأنها أدوار داخلية، لكن في الوقت نفسه نشاهد في حملات التوعية كمية كبيرة من عمليات النصب التي يتعرض لها المواطنون، سواء من خلال المكالمات أو الرسائل أو غيرها من طرق النصب، فالشعب يمر بمرحلة التعلم، وفي بعض الأحيان البنوك تقوم بتعويض العميل عن خطأ ما كان يجب أن يرتكبه بافتراض حسن النية، وبدأنا نرى تقلصًا في كشوف الحساب التي ترسل عبر البريد .
أكثر شيء جعل الناس تتجه إلى التكنولوجيا، بعد مكتب التنسيق الإلكتروني، هو التكنولوجيا البنكية بسبب حرصهم على أموالهم، وبالتالي تم توفير جميع الخدمات المالية عن طريق التطبيقات البنكية، وبدأ العملاء يعرفون رصيدهم ويصدرون شهادات ويكسرونها وغيرها من الخدمات، ما أعطى ثقة للعملاء في التكنولوجيا المالية، ويجب القول إن البنوك العامة كان لها دور رائد في التطبيقات الإلكترونية، وكان هناك بعض البنوك الخاصة والأجنبية تلاحق بنك مصر والأهلي في تطبيقاتهم وهذا شيء طيب، لأن الأصل هو خدمة أكبر عدد من العملاء، وهذان البنكان يمتلكان أكبر عدد من العملاء وكانا يشعران بحاجة شديدة بأن العميل لا يجب أن يضطر للذهاب للفرع، وهذا التطور كان خطوة مهمة تشير إلى أن لدينا تقدمًا في هذا المجال.
ربما كانت البنوك مصدر شكوى لسبب ليس لها علاقة به، في الفترة التي شهدت وضع قيود على تعاملات النقد الأجنبي، والتي كانت بسبب عدم سماح الوضع الاقتصادي بالتعامل في النقد الأجنبي دون قيود، وأيضًا لأسباب تتعلق بسوء استغلال بطاقات الائتمان في المشتريات الخارجية.
البنوك التجارية ليس دورها في الاستثمار بالمعنى التقليدي القديم
في اعتقادي الخاص أن البنوك التجارية ليس دورها في الاستثمار بالمعني التقليدي القديم، كان يقال حتى 20 عامًا مضت أنه إذا كان هناك مشروع فيجب إدخال البنوك للمشاركة والمساهمة به. البنوك دورها استثمار الأموال في آجال متناسبة مع آجال الودائع.
وأغلب الودائع إما جارية أو توفير أو شهادات، وبالتالي لا يجب أن يجمد البنك أجزاء كبيرة من أموال المودعين في استثمار داخل شركة صناعية أو إسكان أو سياحة. دور البنك إقراض هذه الشركة أو توفير تمويل أو الترويج لإصدار سندات، إنما يجب أن تكون هناك آليات أخرى للاستثمار.
وهناك خلط بين الناس حاليًا لأسباب تاريخية بأنه أين دور البنوك في الاستثمار والمشروعات. إذن سيكون السؤال من سيستثمر غير البنوك؟ هناك التأمينات الاجتماعية لأن آجال أموالها طويلة، وهناك أيضًا البريد، وهيئة التأمين الصحي الشامل، وصناديق الاستثمار، وكيانات أخرى كثيرة، ليس من بينها البنوك.
رضوى إبراهيم: ننتقل إلى محطة أخرى من رحلة حضرتك الحافلة بالكثير من الجوانب المهمة، نود التوقف كثيرًا عند المحطة الخاصة بالهيئة العامة للرقابة المالية، حيث إن اختيار حضرتك للمنصب اتسم بكونه اختيارًا به تغير نوعي عن السابقين لك. فطالما اعتدنا أن يتم اختيار رجال من ذوي الخلفية القانونية.
شريف سامي: أو من الداخل.
رضوى إبراهيم: بالضبط.. فقد كان اختيارًا به تغير نوعي، وقد تعاملت مع الرقابة على هذه الأسواق المهمة، بشكل به تغير نوعي كبير أيضًا، فلم تكن الرقيب الصارم، الذي يستهدف أن يهابه الجميع، بل دائمًا ما كانت تُوصف حقبتك بكونها من أيسر الفترات التي مرت على الهيئة. صحيح هناك آخرون قاموا بتكرار ذلك فيما بعد، ولكن كنت من بدأ هذا النهج. لذا أخبرنا كيف جعلت الرقابة مجرد إدارة سلسة؟
شريف سامي: نحن نتحدث عن الرحلة.. أليس كذلك؟
رضوى إبراهيم: بالطبع.
شريف سامي: إذن لنتحدث عن كيفية وصولي إلى هذه المحطة.
رضوى إبراهيم: بكل تأكيد.
شريف سامي: بعد 30 يونيو.. خُلع رئيس وتغيرت حكومة، فكان يتم تشكيل الهيئات والوزارات آنذاك، كان ذلك خلال شهر يوليو، وقتها تلقيت مكالمة من الحكومة لأتولى منصب رئيس هيئة الاستثمار، وكان ردي وقتها أنه في ظل وجود وزير الاستثمار فلن أكون صاحب القرار النهائي، وإذا أخبرت أحدهم بأمر ما، سيتجه إلى الوزير في الطابق الأعلى ويخبره، وهو ما قد يعتمده الوزير أو لا، وعليه سأشعر دائمًا أن هناك سلطة أعلى، لذا أخبرتهم أنني أرى أن هذا غير مناسب.
كُلفت برئاسة هيئة الاستثمار واعتذرت.. ثم عُرضت عليّ مسؤولية رئاسة الرقابة المالية
فليس من المناسب أن يكون هناك رئيس هيئة يتبع وزيرًا يحمل نفس المسمى، حيث إن ذلك لن يتيح المرونة الكافية لممارسة الدور المنوط بي، ومن ثم قمت بتوجيه الشكر ورحلت.
وفي اليوم التالي، تم التحدث معي حول الهيئة العامة للرقابة المالية، وكانت إجابتي أن هذه قصة مختلفة، سأفكر فيها، وقد كنت آنذاك العضو المنتدب المؤسس لشركة استثمارات بنك مصر، وتم إدخال نشاط إدارة الصناديق، فضلًا عن عدد كبير من المساهمات في شركات وبنوك، وكان رد الفعل الأول أنني على علم بما تقوم به هيئة الرقابة المالية في ملف سوق المال، بحكم أنه كانت هناك هيئة سوق مال في السابق.
قطاع التأمين لا يقل أهمية عن سوق المال
طلبت الحصول على مهلة يوم للتفكير في الأمر، وقمت بالاطلاع على الأدوار الأخرى التي تقوم بها الهيئة، فليس كل شخص يكون لديه الصورة كاملة. لذا قمت بدراسة الأمر، فوجدت أن قطاع التأمين الذي لا يقل أهمية عن سوق المال، تابع للهيئة أيضًا.
رضوى إبراهيم: والتمويل العقاري.
شريف سامي: وكذلك التمويل العقاري، فضلًا عن التأجير التمويلي والذي يعد نشاطًا مشتركًا بينها وبين هيئة الاستثمار، بالإضافة إلى التخصيم، وبالطبع قمنا بإصدار أول قانون بعد تولي هذه المهمة، وبناء على ذلك وجدت أن هذا الأمر مهم، وحينها كانت هناك إشكالية تتمثل في توقف زيادات رؤوس الأموال، نظرًا لما تطلبه الهيئة من إجراءات غير مفهومة كدراسات الجدوى، في حين أن الدول الأخرى لا تطلب ذلك، وهو ما جعلني أشعر أن هناك ما يمكنني القيام به، وأن هذا هو التوقيت المناسب، وهو ما قد يكون مفيدًا للسوق، وذلك هو الغرض.
دراسة السوق كشفت وجود إشكالية بالإجراءات غير المفهومة التي تطلبها الهيئة لزيادة رؤوس أموال الشركات
وفي اليوم التالي تم التواصل معي، قبل أن أرد عليهم، وسألوا عن القرار الذي توصلت له، حتى يتم إبلاغه لرئيس الوزارء، فأبلغتهم أنني سأتواصل مع المسؤولين في بنك مصر، ومن ثم وافقت.
ذهبت للهيئة في توقيت كان نصف كبار الموظفين بها بمنازلهم، نظرًا للاضطرابات التي كانت موجودة في ميدان رابعة وعند جامعة القاهرة، وتساءلت عن سبب عدم تواجد الموظفين، وطلبت أرقام هواتفهم، علمًا بأن صغار الموظفين كانوا متواجدين بالهيئة آنذاك، وتواصلت مع جميع الموظفين المتغيبين، ومن المؤكد أنني لن أنفعل عليهم في أول يوم عمل لي بالهيئة، فقد كنت أتحسس طريقي في البداية، وخلال الاتصال الهاتفي أبلغت كل موظف أنني متواجد بالهيئة، وانتابني القلق لعدم تواجده، وتساءلت عما إذا كان يعاني من وعكة صحية، وطمأنتهم بتواجدنا بالهيئة مع سائر الزملاء، وأن الحركة في الشوارع لا تدعو للقلق.
رضوى: نعمل بشكل طبيعي.
شريف سامي: في اليوم التالي، تواجدوا جميعًا في الهيئة، وقد كان هذا المدخل الذي اتبعته، علمًا بأن هناك مداخل أخرى يمكن الاعتماد عليها، فكما تعلمون أساليب القيادة مختلفة.
التعامل مع 3 هيئات تم دمجهما وتواجد مقرات «الرقابة المالية» في 4 مبان بمناطق مختلفة.. أبرز التحديات التي تم تخطيها
وقد يكون التحدي الأكبر –بعيدًا عن الجوانب الفنية في العمل– متمثلًا في دمج 3 هيئات، وهي سوق المال والرقابة على التأمين، والتمويل العقاري، بالإضافة إلى نشاطين كانت هيئة الاستثمار هي المنوطة بهما.
كان التحدي كونهم 3 هيئات، في حين أن التحدي الثاني كان يتمثل في أنهم متواجدون في 4 مبانٍ بمناطق مختلفة، في عماد الدين وشارع البحر الأعظم وطلعت حرب، وكانوا يقومون ببناء مبنى كبير في القرية الذكية، وهو المقر الذي يتواجد به رئيس الهيئة، مع 5 أو 6 موظفين.
تساءلت عما إذا كان رئيس الهيئة سيذهب للجلوس وحيدًا في القرية الذكية، فبقيت خلال الشهر الأول أتحسس طريقي، ومن ثم قلت إن هذا لا يصح، وأخذت حقيبتي، وقررت التواجد في مقر الهيئة بشارع عماد الدين، وذلك بغرفة تمثل ربع مساحة غرفتي الموجودة بمقر القرية الذكية، وتطل على الجيران، بدلًا من الغرفة التي تطل على النوافير بالقرية الذكية، وذلك للتواجد بالقرب من الموظفين.
وهذا يعد أمرًا مهمًّا، فلا يجب أن تقتصر مقابلة الموظفين في الحصول على مواعيد ليتمكنوا من لقائك، بل الأفضل أن تكون بينهم فتلقاهم خلال تنقلك بين الأروقة وفي المصاعد، فتلك العلاقة الإنسانية تفوق أهميتها التعليمات الفوقية، ثم فوجئت أن العاملين في الهيئة لا يعرفون بعضهم، وهو ما تعجبت منه، فتوجهت إلى مركب تابعة لنادي المقاولون العرب، تقع على كورنيش الدقي خلف مجلس الدولة ومنزل السادات القديم، علمًا بأنني كنت أعرف هذا المركب منذ أيام المهندس إبراهيم محلب، حيث كان يقوم أحيانًا بعقد اجتماعات هناك، خلال فترة توليه رئاسة شركة المقاولون العرب، وطلبت من إدارة المركب تجهيز عشاء في قاعة تسع 200 فرد، ثم قمت بدعوة كل من هو مدير عام ورئيس قطاع، أي المستويات العليا، وذلك بهدف التعارف، وهذا عقب مرور شهر تقريبًا.
ما أثار الاستغراب آنذاك، أنه على الرغم من أن الهيئة كان قد تم تأسيسها منذ 4 سنوات، إلا أنه بعد أن قمت بإلقاء كلمة الترحيب، وعرض الفكر الذي نستهدفه، وتحدث الموجودون، توقف الجميع ليؤكدوا أن هذه هي المرة الأولى التي يلتقون فيها معًا، وهو أمر غريب للغاية، حيث يجب أن يجتمعوا، ليكون كل واحد على علم بالدور المنوط به، كما أن كونهم قادمين من هيئات مختلفة، يعكس ضرورة القيام بمجهود أكبر للتكامل، فكما نعلم أن أي اندماج يكون صعبًا.
أحمد رضوان: نعم، بالتأكيد.
شريف سامي: وكذلك اختيار من يتولى مسؤولية رئاسة هذه الهيئة، وقد كنا نقوم بعمل المذكرة بهذه طريقة.
أحمد رضون: أعلم أن لكل جانب من التفاصيل أبعادًا أخرى.
شريف سامي: كانت هذه الخطوة تمثل لي علامة بأن الجهد الأول يجب أن يكون في جعل كل الموظفين يعملون سويًّا، وأن تكون بينهم، وقد استمر هذا الوضع على مدار عامين، إلى أن تم العمل على إنشاء المبنى الكبير المتواجد في القرية الذكية، علمًا بأن الانتقال لهذا المبنى كان خلال عام 2015 أو 2016، وهو ما مَنحني شعورًا بالارتياح، حيث كنت أحاول التواجد دائمًا في المباني الأربعة على مدار الأسبوع، فلا يجوز أن يقتصر تواجدي على أحدهم فقط، فكنت في حاجة للتواجد بأحدهم ومقابلة البعض في الآخر، حتى يشعر الجميع بوجودي وسطهم، وعليه فإن تجميع العاملين بالهيئة في مبنى واحد، يجعل الوضع أفضل.
وهذا كان مدخلًا لهيئة الرقابة المالية، وكما تفضلتِ لا أظن أن هناك من اشتكى في السوق بصورة كبيرة.
رضوى إبراهيم: أبدًا، بالعكس.
شريف سامي: وذلك لأننا كنا دائمًا نضع أنفسنا، أو يمكنني القول إنني كنت أضع نفسي محل الشركات أو المعاملات أو من سيقرأ التشريع، وكيف سيجده، وكذلك الأمر فيما يخص القرارات، وأن تكون هناك قدرة على توضيحه.
فعلى سبيل المثال، بدأت في أمر بسيط للغاية، أتمنى أن تلتفت له الحكومة، وقد تحدثت حول ذلك مع الدكتور مصطفى مدبولي في المؤتمر الاقتصادي الذي انعقد في أكتوبر 2022، فقد كنا عندما نقوم بإصدار أي قرار تعديل، لأي قاعدة موجودة، كنت أطلب منهم توفير الراحة للجميع، فبالطبع سنذكر أنه قد تمت إضافة المادة المعنية، وحُذِفت إحدى المواد المكررة مع ذكر رقمها، بالإضافة إلى ذكر رقم المادة التي تمت إعادة صياغتها، ولكن الأهم أن يتم إرفاق القرار الأصلي بعد التعديل.
رضوى إبراهيم: بالضبط.
أحمد رضوان: المادة التي تم تعديلها.
رضوى إبراهيم: حاليًا يتم الإعلان عن الأرقام فقط.
شريف سامي: بالضبط.
ياسمين منير: يتم كتابة أرقام وفقرة.
شريف سامي: هذا إجراء سهل وبسيط.. أليس كذلك؟
ياسمين منير ورضوى إبراهيم: نعم.
شريف سامي: كما أن هذا لا يتطلب إصدار قرار ولا تشريع ولا دستور، ولا أمر آخر، بل هو احترام لمن يقرأ، لذا عند إصدار ذلك يتم توضيح الصياغة الجديدة، وهو ما يتزامن مع إتاحة القرار بعد التعديل على الموقع الإلكتروني الخاص بالهيئة، كما يتم إرساله للفئة المستهدفة.
عند تعديل أي قانون في هذه الأيام، يحدث ارتباك، حيث يتم السعي لمعرفة أصل هذا القانون، وحتى يتم التعرف على الفقرة التي تمت إضافة تلك المادة إليها.
ضرورة توضيح القوانين والقرارات بسهولة ويسر ليتسنى للمسؤول المحاسبة على عدم الالتزام
رضوى إبراهيم: كيف يمكن وصف الرقابة التي تتم بهذه الطريقة؟
شريف سامي: أود أن أقول هنا، إنه من الضروري أن يتم الشرح وتوضيح وتوصيل المعلومة بطريقة سهلة، حتى أتمكن من المحاسبة على عدم الالتزام بها، حيث إنه حينها سيكون لدي عذر، لذا قد نطلق عليها اسم “البعد عن الغموض”.
كما يجب الأخذ بعين الاعتبار، أن هيئة الرقابة المالية وهيئة الاستثمار وغيرهما من الهيئات، لا يقتصر تعاملهم على المستثمر المحلي، بل على المستثمرين الأجانب أيضًا، فهم يتابعون للتأكد إذا كانوا سيعانون في ضوء القرارات الكثيرة التي يتم إصدارها، وسيحتاجون إلى البحث في الملفات لمعرفة ما تم تعديله، والاطلاع على المادة القديمة، وذلك على سبيل المثال.
خلال الأشهر الأولى من تولي رئاسة الهيئة، كان هناك من يتواصل معي لتقديم شكوى تفيد بأنه قام بالتقدم بطلب، ولم يتم الانتهاء منه، أو أن أحدهم يرغب في إطلاق صناديق المؤشرات آنذاك، ولكن الزملاء لا يفهمونها بالشكل الكافي، وكنت أذهب إلى الموظفين مباشرة في مكاتبهم للاستفسار عن مشاكل المستثمرين. وهو ما يحقق أكثر من ميزة، أولها أن الموظفين يشعرون حينها بأنني توجهت إليهم خصيصًا، مما يجعلهم حريصين على سماعي، والميزة الثانية تتمثل في القدرة على التحكم في الوقت، وهو الذي يكون صعبًا في حالة استقبال أحدهم في مكتبي، ولكن وأنا في مكتبه بإمكاني تحديد موعد انصرافي.
ياسمين منير: القدرة على إنهاء الاجتماع.
شريف سامي: ومن كثرة استفساراتي عن أسباب التعطل أو التأخر في الملفات، وكان منها على سبيل المثال ملف زيادة رأسمال شركة القلعة، شعرت أن الموظفين يفسرون اهتمامي وسؤالي المتكرر عن الملف، وكأنني سأحصل على ميزة من شركة القلعة لإتمام زيادة رأسمالها. وحينما تكررت الملفات التي أتابعها بصورة مستمرة، تأكدوا أن المسألة ليست لها علاقة بأي مزايا أو منفعة، وإنما هذا هو أسلوب العمل والمتابعة.
رضوي إبراهيم: ذلك لأنها تعطلت كثيرًا قبل هذه الخطوة.
شريف سامي: لقد أعطيتك هذه الحالة كمثال، والتي تلاها بعدة أيام سؤالي عن شركة أخرى، فقال أحدهم في باله «هل حصل على أموال من هذه الشركة أيضًا؟»، فمثل هذه التساؤلات تظهر على الوجوه.
رضوى منير: نعم.
شريف سامي: ولكن بعد مرور أسبوع، واثنين وثلاثة، تأكدوا أنه من غير المعقول أن أكون قد حصلت على أموال من كل هذه الشركات، علمًا بأنني كنت أقوم بذلك إلى جانب قيامي بالشق المتعلق بالتأمين سواء على صعيد إطلاق منتج جديد أو منح ترخيص بزيادة أحد الأنشطة، وهو ما لم يعتادوا عليه، فقد اعتادوا إما على من ينفعل عليهم في الهاتف لإنجاز أمر ما، أو من لا يسأل، ولكن بمرور الوقت تبين لهم أن أعداد الشركات التي نعمل عليها تتزايد بشكل تدريجي من 3 و4 شركات إلى 10 شركات، وهو ما يتزامن مع الاجتماعات الخاصة بالعمل على إصدار الضوابط الجديدة، ومن ثم أصبحت أشعر بعد مرور شهر أو أثنين، أنهم تفهموا أن ما أقوم به أمر عادي، قد يراه البعض اهتمامًا مرضيًّا، ولكن من المؤكد أنه لا يبدو أنه ناتج عن الحصول على منفعه.
رضوى إبراهيم: لست محسوبًا على جهة.
شريف سامي: دعونا ننتقل سريعًا إلى الأمام، ونتحدث عن الفترة التي تركت فيها مسؤولية الهيئة، فقد كنت حريصًا بصورة كبيرة على أن أنتظر عدة أشهر قبل تولي منصب آخر، فالقانون يُلزم بمدة 3 أشهر لا يجوز القيام خلالها بأي عمل، علمًا بأنني لم ألتحق بعد هذه الفترة بجهة خاضعة لإشراف الهيئة، سواء في سوق المال أو الصناديق، وذلك لأتخطى هذا الأمر.
حرصت على عدم الالتحاق بأي جهة خاضعة لإشراف الهيئة بعد ترك مسؤوليتها
وبالفعل كان التحاقي بالبنك التجاري الدولي في وقت لاحق، ومن ثم تقدم لي عرض من شركة صناديق البنك الأهلي لتولي منصب عضو مجلس إدارة، ورئيس أحد اللجان، ونظرًا لطبيعة البنك الأهلي شعرت أنني بعيد عن الحرج، ولأكون صريحًا معك إذا كان هذا العرض قد جاء من بلتون أو سي أي كابيتال أو هيرميس، كنت سأشعر بالحرج إن حدث هذا قبل أن تمر فترة طويلة للغاية، ولكن الخطوة الخاصة بالبنك الأهلي منحتني إحساسًا بكونها خطوة مُحصنة، ثم توليت رئاسة شركة عقارية مملوكة للشركة القومية، وذلك بفكر متمثل في إحياء صناديق الاستثمار العقاري، ووضع أصول الدولة غير مستغلة بها، على أن يكون هذا بعيدًا عن أي تعارض مصالح، فكنت من ناحية مساند بصورة كبيرة للكيانات الخاصة والأفراد حتى تتمكن من العمل، ومن جانب آخر كنت أحافظ على البعد عن أي شبهة لتعارض المصالح.
أحمد رضوان: نود التحدث عن وضع الاقتصاد، ولكن قبل الدخول في تفاصيل عن الوضع الاقتصادي الحالي أوتقييمه أوالتحديات التي يشهدها.
شريف سامي: لا بد أن أروي لك قصة أخرى قبل هذا السؤال.
يجب أن يكون لدى الرقيب أنياب إلى جانب كونه متعاونًا وصديقًا للمستثمر
أحمد رضوان: من الممكن أن تقصها علينا، وبعد ذلك سأطرح السؤال.
شريف سامي: كما ذكرتم أن الشخص المنوط بالرقابة قد يكون صديقًا للمستثمر ومتعاونًا وسلسًا، إلا أنه من الضروري أن يكون للرقيب في بعض الأحيان أنياب وكرامة.
أحمد رضوان: ديمقراطية لها أنياب.
شريف سامي : بالضبط، فإذا لم يحدث ذلك تنتفي هيبة الرقيب، وهو الذي حال حدوثه يكون الوضع سيئًا، سأروي لكم قصة دون ذكر أسماء، في ضوء اهتمامي بجميع الشكاوى الواردة إلى الإدارة المنوطة بذلك، سواء كانت على صعيد التأمين أو سوق المال، والتي كنت دائم الحرص على قراءتها، لا سيما أنها تمنحني نبض السوق، فضلًا عن أن إحالتها للإدارات المعنية تعطيها انطباعًا بأنني قمت بالاطلاع عليها، مما يحفزهم لإنجازها في أسرع وقت.
وذات مرة، كانت إحدى الشكاوى الخاصة بنشاط التأمين، تتمثل في قيام أحد العملاء بمطالبة الشركة بتعويض قيمته 10 أو 15 مليون جنيه، وهو ما ماطلت الشركة في تلبيته، وخلال تنقلي في أروقة الهيئة التقيت بالمسؤول عن قطاع التأمين وسألته عن هذه الشكوى التي تدعو للاستغراب، لأستوضح إن كان العميل لديه حق بالفعل أم أنه يتسبب في مضايقة للشركة دون داع، فكان جوابه أن هذا الأمر غير واضح، وعليه سيتم استيفاء البيانات من شركة التأمين، وبعد مرور يومين التقيت به مرة أخرى في أحد الأروقة فتذكرت المشكلة وسألته على رد شركة التأمين.
وفوجئت بإجابته، حيث قال إنه خاطب الشركة منذ يومين ولم يتلق ردًّا، وفي هذه اللحظة شعرت بضيق، لأن الرقيب سواء بنك مركزي أو هيئة رقابة مالية، عندما يطلب من الشركة معلومة، لا تتطلب تجميع بيانات منذ 40 عامًا. ويجب أن تقوم الشركة بإرسال الرد فورًا، احترامًا للرقيب، لذا تعجبت مما فعلته الشركة، وطلبت منه أن يتواصل معهم ويبلغهم أنه لا يصح أن نطلب إفادة ويتأخرون في الرد، فكان جوابه أن رئيس الشركة غير متواجد نظرًا لدواعي سفره، وحينها سألته متعجبًا إذا ما كانت هذه الشركة متوقفة على وجوده.
رضوى إبراهيم: ليس بها سواه.
شريف سامي: طلبت منه إبلاغ الشركة، أنه في اليوم الذي يعود به من السفر، يجب أن يأتي إلى مكتبي، وعندما وصل بالفعل وكان ذلك يوم السبت، تحدث معي وسأل عما حدث، وأبلغته حينها أنه لا يجوز التأخر في الرد على الهيئة، واتفقنا على مهلة 48 ساعة لإفادتنا بالمستندات المطلوبة، وفكرت أنه لا داعي لاستدعائه في المكتب إذا كان المطلوب سيتم إنجازه.
وبعد مضي 48 ساعة من تعهده بتسليم البيانات التي كانت مطلوبة منذ أسبوع، لم يلتزم بما تم الاتفاق عليه، فتحدثت إليه شخصيًّا لأنه تعهد لي بذلك، وكان رده أنه يتواصل مع المستشار القانوني لشركته، وأن كل شخص يسعى وراء مصلحته، فقط قلت إذا كنت ترى ذلك، أشكرك.
وكانت الساعة آنذاك 7 أو 8 مساء، وقمت باستدعاء العاملين بإدارة التأمين، وطلبت منهم أن يفتحوا اللائحة وقانون التأمين، والذي ينص على أحقية الهيئة على التفتيش على 27 جانبًا بالشركات، بدءًا من الشكاوى والاستثمار وإعادة التأمين، وصولًا إلى مكافحة غسل الأموال، وأبلغتهم أن يقوموا في صباح اليوم التالي، بتحرك الإدارة بالكامل في أحد الأتوبيسات المخصصة لنقل العاملين، ليتجهوا إلى تلك الشركة للتفتيش على الـ 27 بندًا، على أن يلتزم الجميع بالتعامل بأدب شديد، وأكدت عليهم أن يكونوا متواجدين بمقر هذه الشركة بمجرد أن تبدأ عملها صباحًا، والدخول للتنفتيش بجميع الإدارات بهدوء ودون تعسف، وهو ما يعد حقًّا للهيئة بموجب القانون، وهذا الإجراء لا يتسم بكونه انتقاميًّا، بل هو الدور المنوط بالهيئة، علمًا بأنه عند التفكير فنيًّا سنلاحظ أنه إذا كان هذا هو رد الفعل ..
أحمد رضوان: مع الرقيب.
شريف سامي: هذا كان رد الفعل مع الرقيب، على الرغم من أن رئيس الهيئة تدخل شخصيًّا وتحدث مع رئيس الشركة بشكل مباشر، مما جعلني أقول في ذهني إنه على الأغلب هناك عدم التزام شديد في عدة جوانب أخرى، وهو ما يؤكد أنه ليس إجراء انتقاميًّا، ولكنه تأكيد لهيبة الهيئة.
أحمد رضوان: كما أنه مؤشر لأمر ما.
شريف سامي: بالفعل هو مؤشر لوجود جوانب أخرى غير صحيحة لدى الشركة.
المهم أنهم قاموا بالدور المنوط بهم في التفتيش على مدار يومين أو ثلاثة، ومما لا شك به أن الشركة شهدت حالة من الفزع، ولكن كانت توصياتي الدائمة لموظفي الهيئة أن يتم التعامل بأدب ودون ارتكاب أي أخطاء، ومن ثم قاموا بإعداد التقرير والذي كشف عن وجود مخالفات كثيرة، ونظرًا للقلق الذي يعتريني من أن يكون هناك تعسف، كنت حريصًا على تطبيق قاعدة، أتمنى أن يكونوا مستمرين في العمل عليها، حيث كنت أقوم بإرسال هذا التقرير للشركة، مع منحهم مهلة 3 أو 4 أيام للرد، ليتم تنبيهنا حال وجود أخطاء في التقرير، ولكن رد الشركة جاء مبررًا، وليس نافيًا، حيث تبين أنه يتعامل مع وكلاء تأمين غير مرخص لهم، وقد تم عرض التقرير على مجلس إدارة الهيئة، وكانت هذه المرة الأولى التي يتم فيها عزل رئيس شركة.
حينها كانت رسالة مهمة لكل من العاملين في الهيئة والسوق والشركة، أنه دون أن تتعسف وبهدوء، يجب أن تحترم الرقيب، وكانت هذه دعوه للزملاء بالتفكير في ما يمكن قبوله، وما لا يصح أن يحدث، لأنه تترتب عليها أمور أخرى، وهذه كانت القصة التي أود أن أوضح من خلالها وجود جوانب أخرى من هذا الوجه للرقيب.
أحمد رضوان: نعود إلى الوضع الاقتصادي، كبداية وقبل الدخول إلى تفاصيل هذا المحور، ما هي الفترة التي ترى أن سياسة مصر الاقتصادية كانت خلالها شديدة الوضوح، وأن الخط العام للاقتصاد كان محددًا وواضحًا للجميع من حيث دور الدولة والتعامل مع القطاع الخاص؟
شريف سامي: سوف تحزن من ردي.. لأن الخط الواضح كان خلال الفترة من عام 1960 إلى منتصف السبعينيات.
الخط الواضح للاقتصاد كان بين عام 1960 ومنتصف السبعينيات
هذا كان الخط الاقتصادي الواضح ولم يكن هناك وقتها اختلاف عليه. الدولة كانت تتجه للسيطرة على كل مفاصل الاقتصاد، حتى على مستوى الجمعيات التعاونية التي يشجعها الدستور في الوقت الراهن، كان يتم من خلالها توزيع الحصص الاستهلاكية بالبطاقة ومستلزمات الزراعة كالأسمدة والكيماويات المدعمة، وللعلم، تلك الجمعيات لم تستطع النهوض حاليًا بعد انسحاب الدولة منها.
في هذا الوقت سواء أعجبنا أم لا، كان هناك خط واضح، وكان القطاع الخاص وقتها يتمثل في مقاول، ومكتب محاماة واستشارات هندسية، وكانت الضرائب وقتها مرتفعة. وهناك شيء سيثير الغرابة لدى المستمعين والمشاهدين، وقتها كانت البنوك الأربعة العامة متخصصة بقانون. بنك مصر كان يختص بكل ما يتعلق بالقطن والحلج والتصدير والتخزين وتمويله، وبنك القاهرة اختص بقطاع المقاولات، وكان قطاع الصناعة من تخصص بنك الإسكندرية، وأعتقد أن البنك الأهلي اختص بالتجارة الخارجية.
وقتها وصلنا لمرحلة تخصص اختفت خلالها المنافسة، وهذا فكر آخر.
أحمد رضوان: ولكن الوضوح وصل إلى هذه الدرجة؟
شريف سامي: نعم كان قد بلغ هذا الحد. هذا كان الوقت الذي شهد التوجه فيه وضوحًا كاملًا. قديمًا كان الخط الاقتصادي واضحًا للدولة، ووقتها توافق مع الخط السياسي، سواء كنا راضين عنه أم لا. بدأ التغيير بعد حرب 6 أكتوبر ودعوة الرئيس السادات إلى الانفتاح، وكان تجاريًّا وليس اقتصاديًّا بالمعنى الشامل، ورأينا وقتها دخول بعض العلامات الأجنبية. أعتقد أن الشعور بالتحولات بدأ منذ فترة الثمانينيات إلى أوائل التسعينيات، فظهر قانون الشركات الجديد والمعروف برقم 159، والذي جرت عليه تعديلات كثيرة فيما بعد، ولكن لأول مرة انطلق قانون للشركات، تأسست في ضوئه كيانات عديدة من المتواجدة حاليًا.
حدثت نقلة نوعية في التسعينيات بتولي الوزارات المعنية تطوير مجالها
بعد ذلك ظهر في مطلع التسعينيات، للمهتم بسوق المال أكثر، قانون سوق رأس المال، ثم تغيرت إدارة البورصة من كونها تتشكل بعضوية السماسرة، إلى كيان مستقل، وهو الشكل الأقرب الذي نراه الآن. ثم ظهرت بعد ذلك صناديق استثمار، وكان أولها صناديق بنك مصر والأهلي المصري، وجذبت معها التطورات التي نشهدها.
ومع الوقت.. بدأ تراجع دور القطاع العام نسبيًّا في الاقتصاد، وحدثت نقله كبيرة في مطلع التسعينيات، فوقتها رأوا أن الوزارات المعنية من المفترض أن تتولى مسؤولية تطوير القطاع الخاص بها.
ولأول مرة تم فصل شركات القطاع العام، والتي أخذت من الإسكان والمقاولات مثل مصر الجديدة للإسكان والتعمير ومدينة مصر (مدينة نصر للإسكان والتعمير سابقًا) وتم جمعهم في وزارة مستحدثة في تلك الحقبة تحت اسم وزارة قطاع الأعمال العام.
وتم إصدار قانون لقطاع الأعمال العام، وتولى الدكتور عاطف عبيد مسؤولية الوزارة لأول مرة، وتلاه الوزير مختار خطاب.
بهذه المناسبة، قابلت الدكتور مختار خطاب منذ شهور، وأصدر مذكرات بعنوان تشابه أسماء، يتحدث فيها عن رحلته، ولكن نصف الكتاب يتحدث فيه عن تجربته بوزارة قطاع الأعمال العام، أدعوكم لقراءته.
هنا كان التوجه من دون أن نجري تغييرات على الدستور ودون قوانين جديدة، وكان الإحساس العام أن الدولة تقبل وترحب بدور أكبر للقطاع الخاص، وأيضًا للاستثمار الأجنبي.
الاستثمار الأجنبي ليس شيئًا مستحدثًا
الاستثمار الأجنبي ليس شيئًا مستحدثًا، ففي فترة السبعينيات، تأسس البنك التجاري الدولي CIB تحت اسم تشيس الأهلي المصري. وبالمناسبة، أول بنك أجنبي افتتح في مصر كان أبو ظبي الوطني( ( FAB حاليًا، ثم دخل البنك العربي، ثم أمريكان إكسبريس. الوتيرة ارتفعت في فترة التسعينيات، وشهدنا لأول مرة خروج شركة من عباءة القطاع العام للبورصة، وهي مدينة مصر حاليًا (مدينة نصر للإسكان والتعمير) سابقًا.
قديمًا كانوا يقومون على استحياء بطرح حصص صغيرة، إنما لأول مرة تطرح أغلبية الشركة في البورصة، على الرغم من وجود صفقات لشركات كوكاولا والأهرام للمشروبات، ولكن كانت تتم خارج البورصة.
كل هذه الأمور كانت إشارات عن أن مصر بدأت تكون سوقًا تتمتع بديناميكيات السوق الحرة والمنضبطة، وظهرت بعدها بنوك الاستثمار إي إف جي هيرميس وبلتون وسي آي كابيتال وإتش سي، وكيانات متعددة من الذين تستضيفونها في جريدة حابي.
كل ذلك كان دلالة على أن السوق تتطور، ليس عبر رسالة ضخمة، ولكن بسياسة تدريجية، كنا نرى حكومات أكثر تيسيرًا.
العقبة لم تكن في رفض الحكومة الاستثمار.. ولكن في التيسيرات
دائمًا العقبة لم تكن في رفض الحكومة الاستثمار، ولكن في التيسيرات الخاصة بالضرائب وحساب وتخصيص الأراضي والمدى الزمني لتغير القرارات والمدة المطلوبة لإصدار التراخيص.
أذكركم مرة أخرى، هيئة الاستثمار حتى منتصف التسعينيات كان دورها الموافقة على المشروعات الاستثمارية، ولم يكن دورها تيسير واستقطاب وترويج الاستثمار.
فالمستثمر قديمًا كان ينتظر موافقة من هيئة الاستثمار على صرف نقوده في مشروع ما وكأنه غير رشيد، ومن مسؤولية الهيئة اتخاذ القرار الاستثماري.
بالطبع كان ذلك توجهًا من أيام القطاع العام لترتيب أولويات الدولة، ولكن بالطبع المستثمر يعلم أين يضخ أمواله أفضل من أي جهة عامة.
ظهر أيضًا بالتدريج كيانات تنظم السوق، فكانت هناك كيانات قديمة ولكن غير مفعلة، فدور البنك المركزي شهد تطورًا كبيرًا مع نهاية التسعينيات والألفينيات وحتى الآن.
وبالمناسبة هيئة سوق المال، لم نشعر بها إلا في التسعينيات مع إصدر قانون سوق رأس المال، فالبورصة عمرها 150 سنة، ثم جاء بعد ذلك جهاز تنظيم الاتصالات وأيضًا جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار ثم جهاز حماية المستهلك.
كل تلك الأجهزة المتخصصة، تلعب دور الحكم أو حامل الراية أو تقنية الفيديو في مباراة كرة قدم. فعندما تمتلك قطاعًا خاصًّا ومنافسة، لا بد من حماية المجتمع والمستهلك والعملاء من الممارسات الاحتكارية أو الإساءة للمستهلك، ونفس الشيء بالنسبة للأمور الخاصة بقطاع الاتصالات من فواتير ومكالمات وحقوق للعملاء.
العصر الذهبي اقتصاديًّا في مجال الأعمال في الفترة من 2005 إلى 2010-2011
الأجهزة التنظيمية كانت ضرورة قصوى تسمح بدور للقطاع الخاص غير الموجه من الحكومة، كل تلك كانت تطورات صغيرة وصلت بنا إلى العصر الذهبي اقتصاديًّا وفي مجال الأعمال في الفترة من 2005 إلى 2010-2011. بالطبع كان هناك فريق متناغم وحكومة ذات توجهات واضحة، ولكنهم بنوا على التراكمات التي حدثت في الفترة التي سبقتها.
لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد حر دون وجود الجهات الرقابية المفعلة
لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد حر أو سوق دون وجود تلك الجهات الرقابية المفعلة، مثل هيئة الرقابة المالية والبنك المركزي وتنظيم الاتصالات وغيرهم، وحاليًا أصبح لدينا تنظيم الكهرباء ومياه الشرب، كل ذلك جيد، حتى وإن كان غير مثالي، ولكن هناك إطار عام يتم العمل من خلاله.
تخارجنا من القطاع العام بالتدريج، يمكن البعد ما استجد مؤخرًا، وما ظهر بعد 25 يناير وفترة عدم استقرار السياسي لمدة 2-3 سنين، بدأت ملكية الدولة تظهر بكيانات أخرى غير القطاع العام، وبدأت بعض الجهات في تأسيس شركات تعد من قبيل المال العام ولكن مختلفة عن القطاع العام.
الإعلام لم يساعد المواطن على اكتشاف دور القطاع الخاص
رأينا المثال واضحًا في الإعلام والتلفزيون بعد انتشار محطات وصحف، وأيضًا مشروعات زراعية وأسمنت ومشروعات كبرى، كان الدافع المعلن لها هو تطوير هذا المجال وإحلال الواردات، أو أن المنافسة ستصب في صالح استقرار الأسعار. وهذه أمور يمكن مناقشتها وقياس مدى أهمية الاستمرار في هذه الملكية.
أتصور أننا لدينا خبرات وتراكمات وكيانات وموارد تتيح بناء اقتصاد سوق على أعلى مستوى، لم نحقق طموحنا فيه بسبب الدولة العميقة، وأن التراخيص والإجراءات ما زالت لم تيسر بعد، وكذلك لعدم استقرار التشريع في الضرائب والتأمينات وقانون العمل وغيرها، بالإضافة إلى أن ملكية الدولة في بعض الأنشطة ما زالت غير مبررة بما يستحق أنها تكون منافسًا للقطاع الخاص.
ففي صناعة السلاح والأمصال والقمح واضح أين دور الدولة، ولكن في مجالات أخرى، من الطبيعي أن يترك التنافس حتى لا يتمتع أحد بميزة نسبية عن الآخر.
أجرينا عددًا من الاتفاقيات مع صندوق النقد للحصول على قروض بعد الحرب الأوكرانية وماحدث في البحر الأحمر من قبل الحوثيين، والدولار وغيره، دائمًا تجد أن من ضمن الشروط التي يصر عليها الصندوق، مثل إيجاد طرق أكثر كفاءة للدعم، هو اقتصار ملكية الدولة على القطاعات الإستراتيجية المهمة وألا تنافس القطاع الخاص.
ونتج عن ذلك إصدار سياسة ملكية الدولة من قبل الرئيس، التي حددت بعض القطاعات التي سيبقى للدولة دور بها، وأخرى ستقلل تواجدها، وتعد هذه الوثيقة الأولى في التاريخ الحديث منذ ثورة 1952.
ينقصنا مرصد لنتائج وثيقة سياسة ملكية الدولة
أعتقد ينقصنا مرصد أو حتى قيام مجلس النواب أو الكيانات الاقتصادية بدعوة لرصد ما تم إنجازه منذ إطلاق الوثيقة في العامين الماضيين.
ياسمين منير: هناك مؤشر.. فوفقًا لبيان لصندوق النقد الدولي تحدثوا عن مؤشر لقياس ملكية الدولة والتحرك في هذا الملف.
شريف سامي: لا يوجد مؤشر مثل EGX30 ولكن الناس يشعرون بالتأكيد، ليس سيئًا إلحاقًا بالمؤتمر الاقتصادي الذي تم في أكتوبر 2022، والوثيقة التي صدرت بعده، أن نرصد ولو لمرة سنويًّا تطورات ما تم في إطار وثيقة سياسة ملكية الدولة على مستوى الخطط والأهداف والتخارجات المستهدفة.
ياسمين منير: أود أن أطرح سؤالًا في نفس الجزء، حضرتك ذكرت أننا نمر منذ عام 2010 بمرحلة استثنائية، فرضت سياسات اقتصادية محددة، وبدأ الوضع في الاستقرار وشاهدنا مؤشرات لذلك كوثيقة ملكية الدولة، فهل ترى شكل الاقتصاد المصري وسياساته أصبحت واضحة وصريحة كاقتصاد حر، أو حر يميل إلى الاعتماد على استثمارات الدولة أم أن لك رأيًا آخر؟
شريف سامي: هذا سؤال صعب وسأذكر لك لماذا؟ لأنه ليس مهمًّا ما يكتب على الورق ولكن التطبيق هو الأهم.
فالتطبيق في الشارع أهم من نظرة الحكومة والجهات التشريعية والتنظيمية، فلا يمكنني أن أقول لأسباب كثيرة منها التراكمات التاريخية والإعلام والعديد من العوامل، الشارع قلبه يميل إلى الملكية العامة، بمعنى أن فئات كبيرة يمكن أن تقبل خدمة بجودة أقل ولكنها تقدم من قبل الحكومة، وليس مهمًّا السبب العملي، بقدر انطباع الشارع وما اعتاد عليه، والإعلام في الدراما والصحافة ووسائل أخرى لم تساعدهم على اكتشاف أن هناك جوانب أخرى موجودة غير ذلك.
تطبيق السياسات الاقتصادية أهم من الجهات التشريعية والتنظيمية
المواطن اعتاد الوقوف في طابور للحصول على خدمة تقدم من الحكومة، لأنه يرى أن الخدمة الحكومية تضمن عدم التلاعب به وأنها بسعر مميز. الشارع أيضًا يرى أن الشركة أو الجهة الحكومية لن تقوم بخداعه، وأن هناك حدًّا مناسبًا ومضمونًا من المواصفات، سواء كان يتعامل المواطن مع سلعة تقدمها جمعية تعاونية، أو في شراء ملابس جاهزة من مصنع حكومي وغيرها من الجوانب، وهذه الروح لا يمكن للمشرع أو السياسي أو غيره أن يتناساها بقدر كبير.
ويمكن الرد على هذا الرأي، بالعودة إلى الوراء 60 أو 70 عامًا، وقت انتعاش الشركات التي أسسها بنك مصر، وطلعت حرب، وعبود باشا، ومحمد سيد ياسين، وعبد اللطيف أبو رجيلة، وغيرهم، وهذه الشركات لم تكن تستغل المواطن أو تخدعه، وساعدت في نمو الاقتصاد المصري بقوة.
نحن لا نجلس مع المواطنين لرد الحجة بالحجة، ولكن لا بد من الاعتراف أن هذا الاتجاه موجود، ولا يمكن تغييره إلا بعد أن يجد المواطنون أولادهم وإخوتهم يعملون في هذه الشركات ويحصلون على ترقيات ومزايا بها، ويرون أن هذه الشركات تبيع منتجًا جيدًا لهم، يساعد على بناء الثقة بينهم.
لذلك هي رحلة شاقة للغاية ليس لنا فقط، بل في أوروبا أيضًا وتحديدًا بفرنسا التي تتمتع بنظام يميل إلى الاشتراكية عكس ألمانيا، فأحيانًا الشعوب المثقفة التي تقرأ كثيرًا ولديها فكر فلسفي تميل لذلك.
ولكن هناك تجربة في ذاكرة المواطنين كانت الأسعار فيها رخيصة، والجميع يعمل والعلاج موجود ووسائل المواصلات سهلة، ولكنهم نسوا أن عدد السكان وقتها كان 30 مليون نسمة، فإذا كان العدد بهذه الفترة 120 مليون نسمة فالوضع كان سيختلف، وهذه أسباب لا بد من التعامل معها.
وبالعودة لليوم، نجد أن هناك بعض العوامل قد تساعد القطاع الخاص، وهذا ليس سحرًا بل من خلال تيسير القوانين وتحسين الخدمة، وإذا أردنا التبسيط، فلا يمكن بسبب نسبة تلاعبات أو قلق لا تزيد على 10% أن يتم الابتعاد عن 90% الآخرين، فالقطاع الخاص مهم لمساهمته في جذب استثمارات أجنبية للدولة.
إطلاق الرخص الذهبية والفضية ليس حلًّا دائمًا للمشاكل الاقتصادية
وبدأنا بإطلاق الرخص الذهبية والفضية، وخدمات لكبار المستثمرين، ودائمًا أقول إن هذه هي أعراض المشكلة وليست الحلول. وعلى سبيل المثال، إذا جئت إليكم في الجريدة ووجدت مشكلة أن الحبر يخرج في أيادي الناس فبدلًا من معالجة الطباعة، أعلنت تقديم خدمة الصحيفة البلاستيك المتميزة لمن يخشى ظهور الحبر في يديه، هذا ليس الحل، الحل يجب أن يكون في علاج المشكلة بصورة مباشرة.
ونعاني من هذه الإشكالية ليس فقط في الاقتصاد وإنما في التعليم أيضًا، فبدلًا من العمل على إصلاح الجامعات الأهلية والمدارس العامة، اتجهنا إلى المدارس الياباني، وأصبح هناك جامعة الإسكندرية الأهلية، وعين شمس الأهلية والجلالة، وغيرها، وأتفق أنها إضافة بسبب زيادة عدد السكان، ولكن لم تحل مشكلة المدارس الحكومية.
ولذلك عندما يقدم أحد شكوى من الجامعات الحكومية التي تخرجنا منها جميعًا، أو المستشفيات العامة، سيكون رد المسؤول أن هناك جامعات ومستشفيات أخرى إذا كنت تريد خدمة أفضل.
وهيئة الاستثمار نفس الاتجاه، يجب التيسير على الناس وأن تكون الأرض بخرائط واضحة، فالناس لا يريدون توفير أسبوعين في تأسيس الشركة، حتى إذا أخذ شهرين ليس مهمًّا، وإنما يريدون التوفير فيما بعد عندما يتطلع أحدهم للحصول على ترخيص لخدمة أو توثيق محاضر، أو ارتفاع مبانٍ، يريد ألا يظل سنة أو اثنتين مع المحامين والمستشارين ولا يعرف ماذا يجب أن يفعل. الموارد موجودة والفرص أيضًا، والقطاع الخاص موجود وعندما تنظرون إلى أرقام الشركات في البورصة وهي تعبر عن الاقتصاد، أعتقد أنها أرقام متميزة في العديد من القطاعات سواء تكنولوجيا مالية، صحة، زراعة، تداول حاويات، عقارات وهذا جيد.
رضوى إبراهيم: أريد أن أسأل حضرتك عن الشكل الأفضل الذي يناسب تفضيلات الشريحة الأكبر من الشعب، مثلما ذكرت أن الحكومة تمثل له الضامن ويتجاوز عن كثير من مشاكلها التي يواجهها في الخدمات، ومع وضع مصر الاقتصادي والمرور بثورات، وأكثر من برنامج تمويلي مع صندوق النقد الدولي. ولكن حضرتك سبقت بالإجابة وبدأت الحديث عما يجب أن نقوم به.
دعني أذهب إلى وثيقة سياسة ملكية الدولة، أريد أن تقدم لنا نظرة سريعة عما صرحت به الحكومة بشأن الوثيقة وقت صدورها، مع الأخذ في الاعتبار تفضيلات الشعب وأهمية دور القطاع الخاص. ما الذي كان يحتاج إلى مراجعة في هذه الوثيقة؟ أو ما هي القطاعات التي ذكرت الوثيقة أن الحكومة ستتخارج منها بشكل جزئي أو كلي ولكن ذلك يحتاج إلى مراجعة، أو أن هناك قطاعات تمسكنا بها ولكن أيضًا تحتاج إلى مراجعة؟
شريف سامي: قد أختلف قليلًا وأذكر أن أهم شيء في وثيقة ملكية الدولة، هو أن هذه أول مرة يتم عمل توجه ويتم مناقشته مع الناس لمدة 6 أشهر، وكثير من توصياتهم كتبت على الورق، فأنا أتحدث بلغة مبسطة حتى نرى المخرجات.
حضرت 3 أو 4 جلسات حوار لهذه الورقة في جهات مختلفة، جمعية رجال الأعمال الإسكندرية، وزارة التخطيط، وغيرها. فأول نسخة من مسودة الوثيقة كانت موجودة بالأرقام، وكانوا يقولون أن نصيب الدولة سيكون 30% في قطاع ما، و20% في قطاع آخر، و40% في قطاع ثالث، فهذه كانت بداية، ووقتها كنت أجلس في مركز معلومات مجلس الوزراء وكررت هذا السؤال في كل جلسة، وهو كيف يتم قياس هذه النسب؟ هل من خلال حجم الاستثمار أم الحصة السوقية، أم الإيرادات؟ بعدها اتجهت نظرات الحضور لي دون إجابات ما يعني أنهم لم يفكروا بذلك.
وفي جلسة أخرى، كانت مع أحمد كجوك وزير المالية وكان وقتها نائبًا لوزير المالية، وكنا نقول هل ما يهمني هو الرقم ونختلف عليه؟ أم نستخدم مساحات ومستويات دون الالتزام بأرقام محددة.
وبالتقريب يمكننا أن نقول إن الدولة سيكون لها دور ما في قطاعات بعينها، وستتخارج من قطاعات أخرى، أو تحافظ على ما تملكه مع الترحيب بالقطاع الخاص، أود أن أقول إن الورقة التي صدرت بعد ذلك تضمنت هذه الرؤية.
وهذا مهم، فبدلًا من الحصول على أرقام ويتم نسيانها فيما بعد، أو نقول لماذا 28% أو 30%؟ أصبحت الفكرة هي التوجه، وبالطبع حدث إعادة صياغة للعديد من النقاط الأخرى، فكانت أول مرة تناقش فيها الدولة مع الناس للوصول لهذا التوجه.
والأهم هنا لإتمام هذا الجميل، أن نرصد ماذا فعلنا في ضوء إصدار هذا التوجه، وهذا ما كنا نتحدث عنه منذ قليل، فالمراجعة مهمة لمعرفة ما تم إنجازه في جانب أو لم يتم عمله في جانب آخر، وهذا ليس عيبًا، لأن هناك أولويات في بعض الأوقات كأزمة كورونا التي فرضت تحديات مختلفة، أو أزمة اقتصادية، فيمكن أن أغير أولوياتي، والسؤال يظل: هل أنا أسير في النهاية على التوجه أم لا؟
فأنا أتذكر جيدًا عندما تحدثوا عن قطاع النقل، وتحديدًا في قطاع السكك الحديدية تم التأكيد على استمرار دور الحكومة حيويًّا به، وهذا مفهوم أسبابه، ولكن تم التأكيد على الترحيب بالقطاع الخاص في نقل البضائع على سبيل المثال، ويجب معرفة ماذا تم في هذا الاتجاه. هل نرى مشروعات لنقل البضائع تتم بمعرفة القطاع الخاص. وهو قطاع مهم يعمل على توفير تكلفة السيارات ويساعد في عدم تكدس الطرق ومن القطاعات ضعيفة التلوث، فهناك توابع كثيرة، ويمكننا أن نتحدث عن النقل النهري بنفس الطريقة فهذه أمثلة.
نتحدث حاليًا في بعض الأخبار المنشورة عن دخول القطاع الخاص في مجال توزيع الكهرباء، وهذا توجه من الدولة، وأربط هذا بسؤال شهية الجمهور، وتقبل الناس. مسؤوليتي هنا كصانع للسياسة وموجه أنني أمسك بيد الناس ليعتادوا على أشياء جديدة، أليس كذلك؟
فلا يمكن الاستجابة لكل الرغبات، الناس لا يريدون امتحانات ثانوية عامة، ويريدون الذهاب إلى الكليات مباشرة، ولا يريدون أيضًا دفع ضرائب، وليس هناك مجتمع يسير بهذه الطريقة. إنما لا بد أن أوضح لهم أن هناك قطاعًا خاصًّا يقدم خدمات والدولة تراقبه عبر جهات مختلفة، ويمكن أيضًا أن اشتري الخدمة وأبيعها لك بسعر مناسب، ولكن على الأقل القطاع الخاص أكثر كفاءة.
واليوم نقوم بذلك في البنزين، فمن يستخرجون البترول لا يقومون ببيعه بسعر الاستخراج، فهو يصدر أو يعطى للدولة بسعر غير معلن، والحكومة لديها معادلة معينة تراجع بها سعر البنزين كل فترة بناء على تغير سعر الصرف وسعر البترول عالميًّا، وتبيعه للجمهور بالسعر الذي تقدره.
وهذا من أبرز النماذج التي يعمل بها القطاع الخاص ولكن الدول تعمل بآلية أخرى، ولدينا شيء آخر ننساه، قبل الخصخصة منذ أيام الرئيس جمال عبد الناصر، وهى إدارة الفنادق، على الرغم من تأميم عبد الناصر لكل القطاعات. فهناك خطاب له أحتفظ به عندما كان يمزح في عيد العمال، وقال ليس هناك أشياء يمكن تأميمها ونحن لم نقم بذلك.
إدارة الفنادق عبر كيانات متخصصة ضروري لجذب السائحين
فإدارة الفنادق عمل متخصص دقيق جدًّا، ففي الستينيات كان هيلتون يدير فندقًا بعقد إدارة وشيراتون يدير فندقًا بعقد إدارة وأوبروي الشركة الهندية تدير مينا هاوس الذي أصبح جي دبليو ماريوت.
ووقتها على الرغم من التوجهات الاقتصادية ووجود أجانب أدركوا أنه لا يمكن جذب السائحين أو إدارة الفنادق دون وجود كيانات متخصصة، وقاموا بذلك بالفعل.
ونفس القياس اليوم، فقد أصبح اقتصادنا أكثر انفتاحًا ومع سفر الناس وعودتهم ووجود الإنترنت والخبرات المصرية حول العالم وهي على أعلى مستوى، أصبح من الممكن الاعتماد على القطاع الخاص في الكثير من القطاعات.
فعقود إدارة الفنادق أو البناء والإدارة والتشغيل ونقل الملكية، ووجود صناديق الاستثمار، يمكن إقامة مدارس وتأجيرها لوزارة التربية والتعليم للتخفيف على موازنة الدولة، أو تأسيس مراكز صحية بنفس الطريقة، أو إطلاق سندات لإيرادات السكك الحديدية، أو لأرصفة الموانئ بالدولار، لأن إيرادات الموانئ وتداول الحاويات بالعملة الصعبة لنمو الاقتصاد. وأصبح لدينا سوق مال وبنوك أقوى وخبرات أكثر يمكننا البناء فيها، والمواطن سيتعلم مع الدولة ويتقبل عندما يجد أن الخدمات تقدم له بطريقة سلسة.
رضوى إبراهيم: عندما يختبر المواطن تجربة آمنة.
شريف سامي: وأيضًا يختبر التجربة بهدوء وبالتدريج، ولقد ذكرنا أنه بدأ تحويل أمواله عبر الهاتف المحمول ويجري خدمات أخرى.
أحمد رضوان: لدي وجهة نظر أن المواطن في هذه الفترة لديه استعداد للقبول بأي شيء.
شريف سامي: أود أن ألفت نظرك أن المواطن عندما شهد موجة ارتفاع الأسعار، عانى أيضًا من الخدمات والسلع المسعرة من الدولة، وليس من القطاع الخاص فقط.
هناك شيء مهم لا بد من ذكره وهو أننا أصبحنا نمتلك منظومة تأمين صحي شامل، وأنا أقوم بمتابعتها كوني في مجلس إدارة هيئة التأمين الصحي وبدأت في بعض المحافظات.
أحمد رضوان: محافظتان تقريبًا.
شريف سامي: أصبحت 4 محافظات بورسعيد كانت الأولى، والأقصر، وجنوب سيناء، والسويس. المنظومة الجديدة أتاحت بدلًا من الذهاب لمستشفى التأمين الصحي المحددة للعلاج، أن تتجه لأطباء ومراكز أشعة ومستشفيات أخرى منضمة للمنظومة، ولذلك يمكنك أن توجه أموالك للمكان الذي تجد فيه الخدمة الجيدة، وهذا أسلوب جيد.
منظومة التأمين الصحي الشامل توسعت لأربع محافظات
ويمكن مع الوقت تطوير هذا الأسلوب في المدارس العامة، وعلى سبيل المثال بدلًا من أنه يجب أن يختار مدرسة في شبرا الابتدائية لأن إقامته في هذه المنطقة، فأنا أعطي له كوبونًا يثبت أنه تلميذ في أولى ابتدائي ويذهب للبحث عن المدرسة التي تناسبه.
ونظام الكوبونات سيجعل المدارس تتنافس على استقطاب التلاميذ، بأدوات مختلفة مثل زيادة أنشطة، وتزيين الفصول، وجلب مدرسين مؤهلين، ولقد رأينا المنافسة في المصرية للاتصالات حينما كانت هيئة والمقدم الوحيد للخدمة ووقتها كان ما أسعد من يكون على معرفة بمدير سنترال، وكنت أيضًا تحصل على الخط في فترة سنتين أو سنتين ونصف.
نقترح إقامة مدارس ومراكز صحية وتأجيرهما للحكومة للتخفيف عن الموازنة
ولكن حينما تواجد 3 أو 4 مراكز للهاتف المحمول أصبح عدد الخطوط الثابتة أقل، وباتت المصرية للاتصالات تقدم عروضًا لجذب العملاء بطرق كثيرة.
رضوى إبراهيم: كان ذلك لفترة مؤقتة، لأن ارتباط الإنترنت بالمصرية للاتصالات عاد بها إلى مكانتها.
شريف سامي: ولكن قوائم الانتظار أصبحت غير موجودة، فهذا من أحد الأمثلة التي تشير إلى أن فتح المنافسة بطريقة منظمة ومراقبة أصبح في صالح المجتمع. وهذا ليس سهلًا فنحن مجتمع ينمو ولدينا الكثير من المهاجرين، ولدينا العديد من الأزمات في أشياء كثيرة، ولكن لدينا سوق كبيرة لا يمكن للعالم تجاهلها ولدينا خبرات متراكمة. وكل عناصر الاقتصاد المنضبط الحر الذي يحقق لك استيراد واستقطاب استثمارات متاح لك.
أحمد رضوان: نحن الآن نصل إلى المحاور الأخيرة في حديثنا، والتي تتعلق بشكل أكبر بالجانب الشخصي. في بداية الحوار، أشرت إلى أن قرارك بالاتجاه الذي اخترته في التعليم كان من المحطات المهمة في مسيرتك. ولكن نود أن نتحدث بصورة أعمق عما بعد هذه المرحلة: ما هو الدور الذي لعبه التعليم في حياتك؟ وكيف شعرت بتأثيره؟ بغض النظر عن كونه مسارًا موجهًا لك، إلى أي مدى ساهم في تعزيز كل خطوة اتخذتها في تخصصات ومهن معينة؟
شريف سامي: أود أن أستغل هذه الفرصة لأشير إلى أنني كنت الأول على دفعتي كل عام، وحققت امتيازًا لم يصل إليه أحد في كلية التجارة بجامعة الإسكندرية منذ عام 1943. أذكر هذا لأوضح أن الشخص الذي يولي اهتمامًا وشغفًا بما يفعله، يحقق نتائج استثنائية. رغم ذلك، أنا مؤمن تمامًا بأن العلم الحقيقي يكمن في المعرفة والخبرة التي نكتسبها، وليس فقط في الشهادات الأكاديمية الورقية. فالشخصية، والتعليم العملي، والخبرة هي الركائز الأساسية التي نبني عليها نجاحنا وتطورنا المهني.
الشهادات المهنية أهم من الدرجات الأكاديمية التقليدية في سوق العمل الحديث
كما أريد أن أؤكد على نقطة في غاية الأهمية، وهي أنه في الجيل الحالي تحديدًا، أصبحت الشهادات المهنية تحظى بأهمية كبيرة جدًّا، بل وتعتبر أكثر فائدة في سوق العمل مقارنةً بالدرجات الأكاديمية التقليدية مثل الدبلومات، والماجستير، والدكتوراه. حينما توليت مسؤولياتي في الهيئة، لاحظت وجود لوائح تمنح الحوافز لمن حصلوا على درجات أكاديمية مثل الدبلوم أو الماجستير أو الدكتوراه. لكنني رأيت ضرورة الاهتمام بالشهادات المهنية مثل CFA وCMA وCBA. هذه الشهادات لها قيمة كبيرة، خاصة في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات، التمويل، التصوير، وحتى إدارة الموارد البشرية. فهي شهادات عالمية يتطلب الحصول عليها اجتياز امتحانات على مستوى دولي، وغالبًا ما تكون أهم بكثير من درجة الدكتوراه في تخصص ضيق أو محدود قد لا يكون له تأثير كبير.
أعتقد أن الإنسان قد لا يكون قادرًا دائمًا على التعلم الذاتي الكامل، ولكن الشهادات المهنية توفر فرصة مهمة للتعلم والتطور أثناء العمل، لأنها عادة ما تكون محددة بفترة زمنية قصيرة ولا تعتمد بشكل كبير على الجانب الأكاديمي النظري، بل تركز أكثر على التطبيق العملي.
التعليم هو البداية.. لكن الخبرات والتعلم الذاتي هما الأساس
ويبقى الاطلاع والقراءة، التي أصبحت سهلة جدًّا بفضل الإنترنت اليوم، أمرًا أساسيًّا. لم تعد بحاجة إلى انتظار كتاب أو السفر للخارج للحصول عليه من المكتبة، كل شيء متاح بسهولة. ومن المحزن أن هناك أجيالًا ليست قارئة بالشكل الكافي، لكن من يريد المعرفة الآن يمكنه الحصول عليها بسرعة. على سبيل المثال، إذا أردنا غدًا الحديث عن بورصة السلع أو تداول الكربون، يمكن لأي شخص أن يقرأ عنها ليلًا قبل اجتماع الصباح، ويكون على دراية كاملة بالموضوع. في الماضي، لم تكن الأمور بهذه السهولة.
الاطلاع والقراءة عوامل حاسمة لمواكبة التطورات في سوق العمل التنافسي
فالقراءة والاطلاع مهمان للغاية. التعليم هو الدفعة الأولى التي تضعك على المسار، لكنه مع الوقت يصبح مجرد نقطة بداية. وأحب أن أذكر من يشاهدنا أن بعض أكبر بنوك الاستثمار التي تأسست في مصر لم يكن مؤسسوها من خريجي التجارة أو الاقتصاد، بل كانوا مهندسين، كيميائيين، أو حتى من تخصصات أخرى مثل الطيران. على سبيل المثال، الدكتور تيمور رحمة الله عليه، والدكتور خليل لوجاني، والزملاء علاء سبع وأحمد هيكل، كل هؤلاء لم يكونوا خريجي اقتصاد أو تجارة.
في النهاية، ما يهم هو أين توظف خبراتك، وما هي الممارسات التي تطورها. السفر، الاطلاع، والقراءة المستمرة هي الأهم. وهذا ما أود أن أوجهه للشباب الذين يستمعون لنا: فكر دائمًا فيما تتعلمه، وليس فقط في التخصص الذي اخترته عندما كنت في السابعة عشرة من عمرك. هذا القرار لا ينبغي أن يكون قيدًا عليك لبقية حياتك.
ياسمين منير: بالنسبة للمحور المتعلق بالخبرات، حضرتك بدأت مسيرتك في شركة دولية وانتقلت للعمل في أكثر من دولة، ثم عدت إلى مصر وتنوعت خبراتك في مجالات عديدة. سؤالي له شقان: الأول، هل ترى في هذا التوقيت أن الخبرة الخارجية أصبحت ضرورة أساسية في سوق العمل؟ والثاني، فيما يخص نقل خبراتك، أنا شخصيًّا أستشيرك في الكثير من الأمور بحكم تنوع خبراتك وطول مسيرتك. هل فكرت في إنشاء منصة أو طرق معينة لنقل خبراتك للأجيال القادمة؟
شريف سامي: دعينا نقول إن العمل خارج البلاد لفترة بهدف العودة وليس الهروب من الواقع أو الظروف الاقتصادية، هو بالتأكيد أمر مفيد. المهم أن تقوم بشيء تتعلم منه وليس فقط لتكوين مدخرات أو للهروب. بالطبع، إذا كان الشخص يواجه مشكلة اقتصادية فالأولوية ستكون للعيش الكريم، لكن العمل في الخارج ليس هدفًا في حد ذاته، بل هو فرصة للاحتكاك وتعلم مهارات وخبرات جديدة. في وقتي، كان هذا الأمر أهم بكثير من اليوم، فلم يكن هناك إنترنت أو مصادر معرفة متاحة كما هو الحال الآن، بل كان يعتمد على المحطات التلفزيونية المحلية والتعليم التقليدي الذي نعرفه.
التجارب المتنوعة هي التي تصنع القادة.. والعمل بالخارج بوابة لفهم الأسواق العالمية
الانفتاح على مجتمعات وثقافات أخرى كان ضروريًّا جدًّا. أنا شخصيًّا عملت في أمريكا لمدة سنة ونصف في شيكاغو، وكذلك في الرياض وبيروت وعمان. لم أميز بين هذه التجارب، فكل واحدة منها أضافت لي شيئًا مختلفًا، رغم أنها كانت مع نفس الشركة. في الولايات المتحدة، رأيت قمة التقدم والتكنولوجيا، وفي الدول العربية رأيت أسواقًا خليجية تنمو بفضل ثروات معينة وتراكمات اقتصادية، وكذلك دولًا مثل لبنان والأردن، التي تمتلك مهارات بشرية وخبرات تقليدية. هذه الخبرات تراكمت بمرور الوقت وأصبحت أستطيع التعامل مع مستثمرين من دول خليجية أو عربية أو غربية، وأرى أن هذه الخبرات المتنوعة كانت إضافة كبيرة بالنسبة لي.
أما عن مسيرتي الشخصية، فبالفعل، لم أخطط لكل خطوة بشكل دقيق. كان لدي اتجاه عام وهو أن أعمل في شيء يجذبني ويجعلني أشعر بالشغف عندما أستيقظ كل صباح، وأن يفي بمتطلباتي المالية ويترك أثرًا إيجابيًّا. لم تكن هناك معايير دقيقة لاختيار كل خطوة، لكنني كنت أعرف ما لا أريد القيام به، ولم أكن أرغب في عمل روتيني أو تقليدي. كل خطوة أضافت لي معرفة ومعارف وخبرات.
بدأت مسيرتي في نظم المعلومات والبورصات والبنوك، ثم تحولت تدريجيًّا للاستثمار في الكيانات العائلية وتحويلها إلى شركات تطرح في البورصة. في مرحلة ما، كنت أعمل في استثمارات البنوك العامة، ثم توسعت لتشمل صناديق الاستثمار والرقابة على الخدمات المالية، وصولًا إلى أدوار أخرى كرئاسة بنك وغيرها. هذا التوجه العام لم يكن مخططًا بتفاصيله، لكنه اعتمد على الاجتهاد وحب المعرفة، وأعتقد أنني تركت انطباعًا إيجابيًّا لدى الناس الذين تعاملت معهم، وهذا ساعدني في المضي قدمًا.
أما بخصوص نقل الخبرات، فأستطيع أن أنقل خبراتي من خلال منصة حابي بودكاست، بالإضافة إلى أنني أجد سعادتي في التفاعل مع الشباب الذين يقومون بتأسيس شركات ناشئة. بعيدًا عن الإعلام والكاميرات، يسعدني أن يأتي لي رواد الأعمال الشباب ويطلبون نصيحتي حول مشاريعهم. أتعلم منهم أشياء جديدة، وأحاول دائمًا أن أقدم لهم نصائح عملية، سواء كانت عن المشاكل التي قد تواجههم أو المزايا التي يمكن أن يستفيدوا منها. أعتبر هذا الدين الذي يجب علي أن أرده، فكما تعلمنا من الآخرين، علينا أن ننقل ما تعلمناه للأجيال الجديدة. لا أبحث عن الأضواء، ولكن أحرص على أن أوجههم نحو التفكير الصحيح.
وأخيرًا، أعتقد أن هناك شريحة عمرية معينة دائمًا ما تكون مهتمة بإطلاق مشاريع جديدة وأفكار مبتكرة، سواء في التكنولوجيا المالية أو التجارة أو حتى الزراعة. هذه الشريحة هي التي ستخرج منها قادة الأعمال والشركات الكبرى في المستقبل، وأنا أجد سعادتي في قضاء وقت معهم.
رضوى إبراهيم: دعنا ننتقل الآن إلى الحديث عن الأسرة. كثيرون يشعرون بعد تقدمهم في العمر، وبرغم ما حققوه من نجاحات مهنية كبيرة، بأنهم قد أهملوا الجانب الأسري. فالبعض يرى أن نجاحه المهني كان على حساب الأسرة. وهناك آخرون يرون أن اهتمامهم الكبير بالأسرة قد أثّر على مسيرتهم العملية. من وجهة نظرك، كيف يمكن تحقيق التوازن بين الاثنين؟ وأنت شخصيًّا، إلى أي من هذين الفريقين تنتمي؟ وفي النهاية، ما هي رسالتك لعائلتك؟
شريف سامي: لا شك أن هناك نوعًا من التقصير. العمل الذي يتطلب تفكيرًا مستمرًّا وبحثًا دؤوبًا لا يتوقف عند الساعة الرابعة أو الخامسة مساءً. فالالتزامات المهنية تمتد دائمًا؛ سواء من خلال اللقاءات أو قراءة التقارير أو حضور المؤتمرات والفعاليات. وهذا بطبيعة الحال يؤثر على وقت الأسرة، وبالتأكيد، الزوجة تتحمل هذا العبء الكبير. أذكر جيدًا عندما أنهيت الأربع سنوات في الهيئة، قالت لي زوجتي: ‹سأقابلك في النادي›، كنوع من الدعابة التي تحمل بين طياتها الكثير من المعاني مثل غيابي عن العائلة. لذا، بالطبع، هناك تأثير. ومع ذلك، أعتقد أن هذا التأثير قد يكون إيجابيًّا على الأبناء، حتى وإن لم يكن ذلك عن طريق دروس مباشرة. فالأبناء يلاحظون شغفك بالعمل والقراءة والانخراط في المجالات المختلفة.
الأسرة كانت جزءًا أساسيًّا من مسيرتي المهنية
أتذكر عندما كنت صغيرًا، كان والدي رئيسًا لإحدى شركات القطاع العام، وكان يحضر إلى المنزل ملفات قبل اجتماعات الجمعية العمومية. وكنت أقرأ تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات وتقرير مجلس الإدارة وأنا في المرحلة الإعدادية، وخلال الإجازات الصيفية، كانت الجمعية العمومية تُعقد في شهري يوليو وأغسطس، كنت أذهب مع والدي وأجلس في الصف الأخير أستمع إلى مناقشات أعضاء النقابة ومطالبهم بالزيادات والمنح.
رضوى إبراهيم: يبدو أنك تأسست مبكرًا جدًّا!
شريف سامي: إذا كنت شغوفًا بما تفعله، فإن هذه التجارب تترك أثرًا عميقًا. زوج عمتي أيضًا كان رجلًا مصرفيًّا، وكان رئيسًا لبنك مصر ثم انتقل إلى البنك الأهلي. كنت أراه دائمًا يقرأ جريدة فايننشال تايمز ويستمع إلى نشرة أخبار الـ BBC لتحليل الأحداث الاقتصادية. خلال فترة الإعدادية والثانوية، كنت أراقب اهتمامه بتلك المجالات، وإذا كنت تمتلك الفضول والرغبة، فإن مثل هذه الأمور تطور من معرفتك.
غيابي عن العائلة ثمن لنجاحي المهني.. ولكن النجاح يترك أثرًا إيجابيًّا غير مباشر على الأبناء
في الواقع، كثيرًا ما نرى أن الأسرة تؤثر بشكل كبير في مسار الأفراد. قد تجدين أسرة بأكملها تعمل في الطب أو الهندسة أو الزراعة. وليس بالضرورة أن يسير الجميع على الدرب نفسه، لكن البيئة التي نشأت فيها تساهم في توسيع مداركك وفتح آفاق جديدة. أغلب الطلاب في المدارس يفكرون في أن يصبحوا مهندسين أو أطباء، لكن قلة منهم يفكرون في مجالات مثل المحاماة أو الاستحواذات والاندماجات.
رضوى إبراهيم: لكن، في النهاية، نحن نتحدث عن حفيد طلعت حرب!
شريف سامي: قد يكون لذلك تأثير أيضًا.
رضوى إبراهيم: وما هي رسالتك لأسرتك؟
شريف سامي: رسالتي لأسرتي هي أنني ممتن لهم على تحملهم لي طوال هذه السنوات، وأشكرهم من قلبي. أما بالنسبة لأولادي، فأملي أن يسير كل منهم في مجاله الخاص. لا أتوسط لأحدهم أبدًا، ولكنني أكون سعيدًا جدًّا عندما يسألونني عن معلومة معينة أو يطلبون نصيحتي. وقتها، أقدم لهم المساعدة بأقصى ما أستطيع، لكنني لا أفرض نفسي عليهم. فأنا نشأت دون أن يسندني أحد، وأعتقد أن من الأفضل أن يعتمدوا على أنفسهم ويبذلوا جهدهم الشخصي.
أحمد رضوان: نشكرك جدًّا على هذه الرحلة الرائعة.
شريف سامي: أشكركم على الاستضافة والتحمل.
أحمد رضوان: حضرتك أضأت لنا اللقاء، ونتمنى أن تظل معنا دائمًا في كل خطوة.
شريف سامي: أتمنى لكم كل التوفيق.
أحمد رضوان: وإلى لقاء جديد في حابي بودكاست.