في أولى حلقات الموسم الثاني من حابي بودكاست: د. زياد بهاء الدين: تحديات الاقتصاد لم تكن لأسباب خارجية فقط
استهل برنامج الرحلة – حابي بودكاست، موسمه الثاني، بلقاء مع الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس الوزراء ووزير التعاون الدولي الأسبق، ورئيس هيئة الاستثمار وهيئة الرقابة المالية الأسبق، في حوار تدرج من توصيف عدد من تحديات الاقتصاد الكلي ومقترحات مواجهتها، إلى مناقشة بعض القضايا التفصيلية التي تخص عددًا من القطاعات والأنشطة مثل العقارات والصناعة والسياحة وريادة الأعمال، وانتهاء بمرور هادئ على جانب من النواحي الشخصية.
عبر د. زياد بهاء الدين بقدر كبير من الوضوح عن وجهة نظره حول فكرة تأثر الاقتصاد المصري بالتحديات الخارجية، وأكد أن بعض هذه التحديات حملت في طياتها فرصًا جديدة للنمو، وأكد أن النظر إلى الإجراءات التي تم اتخاذها في الماضي لا يجب أن يأتي من منطلق العتاب واللوم بقدر ما يجب أن يكون نابعًا من المراجعة وتصحيح الأخطاء.
وتطرق الحوار إلى فكرة وضع وثيقة اقتصادية لمصر، ومدى فاعلية وأهمية وثيقة سياسة ملكية الدولة بوضعها الحالي، ووتيرة وأسلوب تنفيذها، كما انتقل الحوار إلى الملف الضريبي ومشكلة تعدد وتنوع الرسوم ووتيرة فرضها، ومدى تجاوب الحكومة مع التوصيات والمقترحات التي يتم طرحها في الحوارات المجتمعية والمؤتمرات الاقتصادية.
وكشف د. زياد خلال اللقاء عن نظرته للصفقات الحكومية الكبرى، والتعامل المناسب مع ملف الصناعة، وجدوى التركيز على إعادة تشغيل المصانع المتعثرة، مرورًا بنظرته لفكرة الفقاعة العقارية، والمشكلة الرئيسية التي تواجه مشروعات ريادة الأعمال في مصر، وغيرها من الملفات والمحاور.
أدار اللقاء أحمد رضوان رئيس التحرير والرئيس التنفيذي لجريدة حابي، وياسمين منير مدير التحرير والشريك المؤسس لجريدة حابي، ورضوى إبراهيم مدير التحرير والشريك المؤسس لجريدة حابي.. وإلى نص الحوار.
أحمد رضوان: بسم الله الرحمن الرحيم، يسعدني أن أرحب بكم في أولى حلقات الموسم الثاني من برنامج «الرحلة». في هذا الموسم، تسعى” حابي بودكاست” لاستكشاف أعمق للقضايا الاقتصادية المعاصرة، مع الحفاظ على الروح التي اتسم بها الموسم الأول والاستفادة من السير الذاتية والقرارات الجوهرية في رحلة ضيف البرنامج.
اليوم، يشرفنا استضافة الدكتور زياد بهاء الدين، الاقتصادي والقانوني المرموق، الذي يتمتع بخبرات واسعة، حيث شغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير التعاون الدولي، ورئاسة هيئة الرقابة المالية وهيئة الاستثمار. لا يزال الدكتور زياد يساهم بفعالية في مجالات الاقتصاد والاستثمار والحياة العامة. نرحب بك، دكتور زياد، في أولى حلقات الموسم الثاني من البرنامج، ونأمل أن تكون بداية موفقة للموسم الجديد.
د. زياد بهاء الدين: شكراً جزيلاً لكم، وأنا سعيد جداً بالتواجد معكم، وكل عام وأنتم بخير
أحمد رضوان: وحضرتك طيب، كما أرحب بزميلتي ياسمين منير، مدير تحرير جريدة «حابي» والشريك المؤسس، وزميلتي رضوى إبراهيم، مدير تحرير جريدة «حابي» والشريك المؤسس أيضاً.
لنبدأ بنظرة شاملة. لماذا يظل الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة شديد التأثر بالمتغيرات العالمية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية؟ هذا ما يتم الإشارة إليه دائماً عقب كل أزمة أو إجراءات اقتصادية صعبة يتم اتخاذها.
د. زياد بهاء الدين: شكراً جزيلاً ،هذا السؤال يحمل أبعاداً متعددة. هل نحن نتأثر بالأحداث العالمية بشكل أكبر من السابق؟ في الحقيقة، ليس لدي يقين فيما يتعلق بزيادة درجة التأثر، لكن من المؤكد أن هناك تغييرات جذرية على الساحة العالمية تؤثر علينا بشكل مباشر.
من المؤكد أن هناك تغييرات جذرية على الساحة العالمية تؤثر علينا بشكل مباشر
في المقام الأول، كلما كان الاقتصاد أكثر اندماجاً في النظام الدولي، زادت درجة تأثره. هل نحن في وضع يسمح لنا بالاندماج المطلوب؟ أرى أن الإجابة هي لا. أتمنى أن أرى الاقتصاد المصري أكثر اندماجاً، خاصة في نطاقات أوسع خارج المحيط الإقليمي المباشر.
كلما كان الاقتصاد أكثر اندماجًا في النظام الدولي زادت درجة تأثره.. ومصر لم تندمج حتى الآن بالصورة المطلوبة
لقد شهدنا في السنوات الأخيرة معاناة كبيرة للاقتصاد نتيجة أحداث عالمية، أبرزها جائحة كورونا والحرب بين أوكرانيا وروسيا، فضلاً عن الأزمات المتكررة في منطقة غزة.
ينبغي إدراك أن جائحة كورونا قدّمت أيضًا فرصًا لم تكن متاحة من قبل
وقد تأثرنا بهم جميعًا، فقد كان لوباء كورونا تأثير عميق على جميع الدول، حيث أحدث انقطاعاً غير مسبوق في سلاسل الإنتاج، وضغوطاً هائلة على التجارة العالمية. ومع ذلك، ينبغي أن ندرك أن هذه الجائحة قدّمت أيضاً فرصاً لم تكن متاحة من قبل.
فالعديد من الدول، بما في ذلك مصر، يمكنها أن ترى في هذه الأزمة فرصة لتعزيز صناعات جديدة، وخصوصاً في المنطقة العربية والشرق الأوسط وجنوب البحر المتوسط، من خلال جذب الشركات الدولية التي أصبحت لديها مخاوف من الاعتماد على مصادر معينة في الاستيراد.
لا شك أن أزمة روسيا وأوكرانيا كان لها تأثير كبير على مصر
أما بالنسبة لأزمة روسيا والحرب مع أوكرانيا، فلا شك أن لها تأثيراً كبيراً على مصر، حيث كنا من أكبر مستوردي الحبوب والزيوت والسياحة من أوكرانيا وروسيا. لكن يجب الاعتراف بأن التأثير كان ثانوياً إلى حد كبير.
الأزمات الخارجية التي واجهتنا لا تكفي لتبرير وضعنا الاقتصادي الراهن
إذا كان السؤال يتضمن ما إذا كانت الأزمات التي واجهتنا تكفي لتبرير وضعنا الاقتصادي الراهن، فإن الإجابة قاطعة: لا. هناك، في تقديري المتواضع، سوء إدارة للاقتصاد على مدى سنوات، مما جعله في حالة من الضعف الشديد، الأشبه بجسم منهك.
لا يجب النظر إلى الماضي من منطلق العتاب واللوم وإنما التركيز على مراجعة السياسات الخاطئة
أحمد رضوان: بمعنى، لا توجد مناعة.
د. زياد بهاء الدين: بالضبط، وقد نتج عن ذلك مشاكل متنوعة. لذا، عندما جاءت الصدمات، مثل وباء كورونا، أصبحنا أكثر عرضة للتأثر. الأمر لا يتطلب منا النظر إلى الماضي من منطلق العتاب واللوم، بل من المهم أن نركز على مصلحة البلد. اليوم، لدينا فرصة لنراجع السياسات الخاطئة التي وضعتنا في هذا الوضع الصعب، وليس مجرد الاعتماد على الأزمات العالمية كأسباب وحيدة للمشكلات التي نواجهها.
فكرة الهوية الاقتصادية لم تعد تمثل رؤية رائدة كما كانت.. والدول لم تعد محصورة في تصنيفات صارمة
ياسمين منير: دكتور زياد، إذا أردنا التطرق إلى مفهوم الهوية الاقتصادية والصحوة الاقتصادية التي ننتظرها منذ فترة، هل يتطلب ذلك وجود وثيقة اقتصادية واضحة تتضمن أهدافاً محددة وآليات تنفيذ؟ هل من الضروري أن تطرح هذه الوثيقة في حوار مجتمعي واسع لضمان تنفيذها على الأرض بسرعة، وتفادي تكرار التجارب السابقة التي شهدت تغييرات بتعاقب الحكومات؟
د. زياد بهاء الدين: دعيني أوضح بعض النقاط الأساسية في هذا السياق. فكرة الهوية الفكرية والإيديولوجية للبلد، أي الهوية الاقتصادية، لم تعد تمثل رؤية رائدة كما كانت في السابق. لم تعد البلدان محصورة في تصنيفات صارمة مثل الاشتراكي أو الشيوعي أو الرأسمالي. الأمور باتت أكثر انفتاحاً، حيث يبحث الناس عن سياسات فعالة بغض النظر عن تصنيفاتها. الأهم الآن هو الحاجة إلى الوضوح في التوجهات أكثر من أي وقت مضى.
هدف وجود وثيقة اقتصادية هو ترسيخ بعض الثوابت وإعطاء الطمأنينة للمستثمرين
لذا، فإن أهمية الوثيقة التي تشيرين إليها لا تكمن فقط في تحديد الهوية، بل تتعلق بترسيخ بعض الثوابت وإعطاء الطمأنينة للمستثمرين، سواء كانوا مصريين أو من المجتمع الدولي. يجب أن نوضح أن هناك ثوابت في نظامنا الاقتصادي وآليات حوكمة الاقتصاد.
ما يشغلني هو ضرورة وجود مرجعية واضحة لبعض القضايا مثل دور الدولة في الاقتصاد
ومع ذلك، ما يشغلني هو ضرورة وجود مرجعية واضحة لبعض القضايا. على سبيل المثال، الوثيقة الأهم التي صدرت في الفترة الأخيرة كانت وثيقة ملكية الدولة، التي أوضحت الحكومة من خلالها مسارها للتخارج من بعض الصناعات.
وثيقة سياسة ملكية الدولة كانت موسعة ودخلت في التفاصيل بصورة أكثر مما يلزم
هذه الوثيقة كانت جيدة، رغم أنه كان لدي بعض الاعتراضات عليها وقت طرحها، حيث وجدتها موسعة وتدخل في التفاصيل بصورة أكثر مما يلزم. وقد حذرت من أننا سنحاسب على الالتزام بالكثير من الأمور، فلا حاجة لتحديد نسب مثل 60% من صناعة كذا و70% من صناعة كذا. من الأجدر أن نركز على تحديد توجهات عامة فقط.
بنود وثيقة ملكية الدولة لم تنفذ إلى حد كبير أو كما هو متوقع ويجب إعادة النظر بها
المشكلة اليوم أن الوثيقة، إلى حد كبير، لم تُنفذ كما هو متوقع. بمعنى أن معظم البيوع التي تمت واعتُبرت جزءاً من برنامج الخصخصة أو التخارج، في الحقيقة، تتعلق بأمور خارج نطاق الوثيقة. على سبيل المثال، كأنني أعلنت نيتي لبيع الطاولة، ثم قمت ببيع الكرسي.
إما أن نعترف بأن الوثيقة مرتبطة بتجربة معينة ولم تنجح.. أو أن نصدر وثيقة جديدة
الموضوع يتطلب إعادة نظر: إما أن نعترف بأن الوثيقة كانت مرتبطة بتجربة معينة ولم تنجح، وبالتالي نُلغيها، أو أن نصدر وثيقة جديدة أصغر حجماً، تعبر عن توجهات أكثر من أن تحتوي على مستهدفات محددة. لكن لماذا نحتاج إلى وثيقة اقتصادية؟ للأسباب التي ذكرتها، أولاً، لتقديم مؤشرات للمستثمرين حول الاتجاه الذي نسير إليه، وأن نوضح للجميع ما إذا كنا نتجه نحو اليمين أم اليسار، أم أننا نسير في الاتجاه نفسه وبأي سرعة.
الأمر الثاني هو ضمان وجود نوع من الاستمرارية في السياسات الاقتصادية. هذان العنصران، في رأيي، يعززان ويؤكدان ضرورة إصدار وثيقة ما، بغض النظر عن اسمها. ولكن، مرة أخرى، ينبغي ألا ننشغل كثيراً بتحديد هويتنا الاقتصادية.
رضوى إبراهيم: دكتور زياد، أرحب بحضرتك مجددًا. بعد هذه النظرة السريعة التي قدمتها حول الاقتصاد وما يجب أن يكون عليه، نود أن ننتقل لطرح سؤال افتراضي يرتبط بخبرتك الطويلة في المناصب الرسمية، خاصة تلك التي كانت في قلب الشأن الاقتصادي أو التي لها تأثير مباشر عليه. إذا افترضنا أنك اليوم مسؤول حكومي في الشأن الاقتصادي، وفي ظل الوضع الراهن الذي نمر به، ما هي أهم ثلاثة قرارات أساسية تراها ضرورية لاتخاذها فورًا، والتي تتوسم فيها أن تحقق تأثيرًا مباشرًا وسريعًا على التحديات التي تواجه المستثمرين، التي طالما تصاعدت شكاواهم بشأنها خلال السنوات الأخيرة؟
د. زياد بهاء الدين: أولًا، دعيني أؤكد أنني، كما ذكرتِ، قضيت سنوات عديدة في العمل العام، تنقلت خلالها في مناصب مختلفة، وكان أغلبها يتعلق بالشأن الاقتصادي بصورة أو بأخرى. لكن، للتوضيح، فالفترة التي قضيتها في الوزارة لم تتجاوز الستة أشهر، رغم أن مجمل فترات عملي في الدولة استمرت نحو 12 أو 13 عامًا. لذلك، دعيني أجيبك بصفتي مستشارًا وصاحب رأي، وليس بصفتي مسؤولًا حكوميًا.
لو تحدثنا عن الوضع الراهن، وفيما يتعلق بتحسين مناخ الاستثمار في مصر، أرى أن هناك ثلاث قرارات محورية يجب اتخاذها، وهي قرارات ستحدث، في رأيي، أثرًا ملموسًا على أرض الواقع.
القرار الأول يرتبط بالدور الذي تلعبه الدولة في الاقتصاد. هذه المسألة تظل جوهرية، وهي سبب كثير من الإشكاليات التي نواجهها اليوم. المشكلة أننا نتعامل مع هذه القضية بمنطق أبيض أو أسود، كأن الدولة إما أن تكون متدخلة بالكامل في الاقتصاد أو تنسحب منه تمامًا.
لا توجد دولة في العالم -مهما كانت ليبرالية- خالية تمامًا من تدخل الحكومة في الاقتصاد
والحقيقة أن هذه الثنائية غير واقعية. لا توجد دولة في العالم، مهما كانت ليبرالية، خالية تمامًا من تدخل الحكومة في الاقتصاد. لكن مشكلتنا الحقيقية هي أن الدولة لم تحدد بشكل واضح المجالات التي يجب أن تكون فيها لاعبًا أساسيًا، وتلك التي يجب أن تتركها للقطاع الخاص. لابد من وجود حدود واضحة لهذا التدخل، بحيث تدعم الدولة القطاع الخاص، لا أن تنافسه أو تستفيد على حسابه.
كرأي استشاري.. يجب إصدار وثيقة جديدة أكثر وضوحًا وشفافية تحدد دور الدولة في الاقتصاد
ومن هنا يأتي القرار الأول الذي أراه ضروريًا، وهو إعادة النظر في «وثيقة ملكية الدولة». يجب أن تصدر وثيقة جديدة، أكثر وضوحًا وشفافية، تحدد الدور الذي ستلعبه الدولة مستقبلًا في الاقتصاد. هذه الوثيقة ينبغي أن تكون بمثابة خارطة طريق تحدد المجالات التي ستظل الدولة شريكًا فيها، وتلك التي ستتركها للقطاع الخاص ليعمل بحرية ودون أن يجد نفسه في مواجهة الدولة كخصم اقتصادي.
إصدار وثيقة بهذه الشفافية وهذا الوضوح سيؤدي إلى رفع الكثير من الالتباس الحالي، ويعيد الثقة بين الدولة والمستثمرين، مما يساهم في تحسين بيئة الأعمال ويزيل العقبات التي طالما اشتكى منها المستثمرون.
رضوى إبراهيم: سنعتبر هذا القرار الأول. الآن، ننتقل للقرار الثاني.
د. زياد بهاء الدين: المسألة ليست فقط في أن تعلن الدولة تواجدها في قطاعات معينة أو انسحابها من أخرى، بل في تحديد دورها بوضوح. فالسؤال هنا ليس: «أين تواجد الدولة؟» وإنما: «ماذا تفعل الدولة في تلك القطاعات؟» هل هي تدعم صناعات بعينها؟ هل تتحمل مسؤولية صناعات استراتيجية أو أمنية ذات أمد طويل لا يستطيع القطاع الخاص النهوض بها؟ أم أنها تدير صناعات ذات طابع تنموي؟ وأي من المجالات ستتركها بالكامل للقطاع الخاص دون تدخل منها؟
تعدد الرسوم والأعباء المفروضة على الشركات من أسوأ العقبات التي تواجه المستثمرين
القرار الثاني، والذي لطالما تردد على ألسنة المسؤولين ولكن لم يُطبق حتى الآن، وأتمنى أن يتم تطبيقه لأنه من أهم الإجراءات اللازمة، هو معالجة مسألة الضرائب المفروضة على الشركات. في مصر، تفرض ضريبة دخل بنسبة 22.5% على الشركات، وكانت هذه النسبة نفسها مفروضة على الأفراد، إلى أن أضيفت شريحتان جديدتان فبلغت الضريبة القصوى على الأفراد 28%. إذا تحدثنا عن الشركات، فإن نسبة 22.5% ليست مرتفعة، وفقاً للمعايير العالمية، فالكثير من الدول الصناعية الكبرى تفرض ضرائب تتراوح بين 35% و40%، وفي بعض الأحيان تصل إلى 45% أو أكثر. وبالتالي، بالنظر إلى هذه النسبة بشكل مجرد، يمكن القول بأنها منخفضة نسبيًا.
لكن المشكلة لدينا تكمن في نقطتين أساسيتين: أولًا، هناك مجموعة من الضرائب والرسوم الإضافية التي تفرض على المستثمر، وعندما تتراكم هذه الضرائب والرسوم، فقد يتجاوز العبء الضريبي الفعلي النسبة الرسمية بكثير. لا يمكنني تحديد رقم دقيق لهذا العبء، لأنه يختلف من صناعة لأخرى ومن حالة لأخرى، لكنه بكل تأكيد يمكن أن يتجاوز 35% أو حتى 40% في بعض الأحيان.
التوسع في فرض الرسوم يجعل المستثمرين في نزيف مالي مستمر ويحد من قدرتهم على التخطيط
النقطة الثانية، والأكثر أهمية، هي وجود رسوم متعددة تفرض على المستثمرين بشكل مستمر وبدون آلية مقننة واضحة. هذه الرسوم تشمل رسوم نقل البضائع، ورسوم التخليص الجمركي في الموانئ، ورسوم ارتفاع المباني، وحتى رسوم تحويل الأراضي من سياحي إلى صناعي، بالإضافة إلى رسوم مشاهدة الأوراق ورسوم المطالعة. وأود أن أوضح أنني هنا لا أتحدث عن فساد، بل عن رسوم رسمية تُدفع بوصل قانوني، لكنها تظل جزءًا من العبء المالي المتزايد الذي يواجهه المستثمر.
يجب إعادة النظر في الرسوم المتعددة والمتفرقة التي تُفرض بلا مبرر واضح
هذه الحالة، مع كل هذه الرسوم المتعددة، تمثل واحدة من أسوأ العقبات التي تواجه المستثمرين. فهي ليست مجرد تكلفة إضافية، بل أسوأ من ذلك لأنها تجعل التخطيط المالي للمستثمرين صعبًا للغاية. الرسوم تفرض بشكل متقطع وغير منتظم، مما يعني أن المستثمرين يجدون أنفسهم في حالة نزيف مالي مستمر دون القدرة على التنبؤ أو التخطيط لمواجهة تلك التكاليف. وهذا هو التحدي الثاني الذي يجب معالجته بشكل عاجل.
رضوى إبراهيم: إذاً، ما هو القرار الذي ستتخذه في هذا الشأن؟ لأننا سنخصص محطة أخرى لاحقاً للحديث بتفصيل أكثر عن موضوع الضرائب.
د. زياد بهاء الدين: القرار الذي أراه حاسمًا هو ضرورة تحديد الضرائب بشكل نهائي، بحيث تكون واضحة، ولا مجال لتضارب أو غموض بشأنها.
رضوى إبراهيم: تقصد أن تكون موحدة، معلنة، ونهائية تماماً؟
د. زياد بهاء الدين: نعم، يجب أن تكون نهائية وقاطعة، ويجب أن يُعاد النظر في هذه الرسوم التي تُفرض بلا مبرر واضح. المشكلة ليست في ضريبة الدخل بحد ذاتها، لأنني أرى أن ضريبة الدخل حالياً تقع في الإطار السليم. ما يحتاج إلى معالجة هو تلك الرسوم المتفرقة والمتعددة التي يفرضها الجهاز الحكومي دون أن يكون لها مقابل حقيقي.
أحمد رضوان: هل يمكن أن يتم خصم هذه الرسوم من العقد الضريبي؟
د. زياد بهاء الدين: في الواقع، هذا ليس المطلوب. يجب أن نفرّق بين الرسوم والضرائب. الضريبة هي مساهمة إجبارية تفرضها الدولة لتمويل موازنتها العامة، بينما الرسم هو مبلغ يُدفع مقابل خدمة محددة تقدمها الدولة. الإشكالية هنا تكمن في أن العديد من هذه الرسوم تُفرض دون أن تُقدّم خدمة حقيقية في المقابل. على سبيل المثال، عندما يُطلب من المستثمر دفع رسوم لزيادة ارتفاع مبنى، فما هي الخدمة التي تقدمها الدولة له في هذا السياق؟ أو عندما يُفرض رسم على استخدام طريق تم تمويله بالكامل من موازنة الدولة، وهي الموازنة التي يدفع المواطنون والمستثمرون ضرائبهم لتمويلها، فما هو المنطق وراء فرض هذا الرسم؟
المسألة الجوهرية هي أن الرسوم تُفرض بدون مقابل ملموس، وهذا هو ما يجعلها عبئًا غير مبرر على المستثمر. ينبغي أن يكون هناك رسم فقط في الحالات التي تقدم فيها الدولة خدمة حقيقية وذات قيمة للمستثمر أو المواطن، غير ذلك، تصبح الرسوم مجرد أعباء إضافية بلا مبرر.
رضوى إبراهيم: وما هو القرار الثالث؟
د. زياد بهاء الدين: قد يبدو هذا القرار أقرب إلى الطابع الفلسفي، لكنه في جوهره بسيط للغاية، وربما تندهشين من بساطته. السؤال هنا: هل لدينا أي شك في أن حجر الأساس للنظام الاقتصادي وأي استثمار خاص هو احترام العقود؟
احترام العقود يجب أن يكون جزءًا راسخًا في الوعي الجماعي لدينا
رضوى إبراهيم: لا، بالطبع لا يوجد أدنى شك.
د. زياد بهاء الدين: بالضبط، العقود هي عماد التعاملات الاقتصادية، ومن البديهي أن تُحترم. لا توجد أي مادة في القانون المصري تسمح بعدم احترام العقود، ولكن الإشكالية تكمن في ضرورة أن تصبح هذه الفكرة جزءًا راسخًا في الوعي الجماعي لدينا، خصوصًا في أروقة صنع القرار. عندما يوقع المستثمر عقدًا ويبدأ تنفيذ بنوده، يجب أن يحظى بضمانات واضحة بأن هذا العقد سيظل محترمًا وساريًا حتى نهايته، إلا في حالات استثنائية مثل التزوير أو الفساد. ولكن أن يدخل المستثمر في اتفاقيات مع الدولة ثم يجد بعد فترة أن هناك نية للتراجع أو إعادة النظر في العقد بسبب تغييرات في الرؤية أو القرارات، فهذا أمر في غاية الخطورة.
الاستثمار يعتمد أولًا وأخيرًا على الاستقرار والثقة. المستثمر قادر على التكيف مع زيادة الضرائب إذا فرضت عليه، وسيجد حلولًا إذا شهدت العملة تقلبات أو إذا تغيرت أسعار الصرف. لكن اليوم الذي يوقع فيه عقدًا ثم يُفاجأ بعد عدة أشهر بأن هناك نية لتعديله أو التراجع عنه هو اليوم الذي يفقد فيه الثقة تمامًا. في تلك اللحظة سيقول المستثمر: «سآخذ أموالي وأغادر.»
عندما تتم دعوتي للمشاركة في مناقشة أو حوار حكومي فإنني أعتبر ذلك فرصة
أحمد رضوان: لقد شاركت في العديد من الحوارات المجتمعية واللقاءات المرتبطة بمسائل معينة، مثل وثيقة ملكية الدولة والمناقشات المتعلقة بها، وكذلك الحوارات الاقتصادية السابقة حول الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. من المؤكد أنه لديك وطرحت توصيات، كما أنك اطلعت على الآراء التي أعلنها خبراء الاقتصاد المشاركين في تلك الحوارات. إلى أي مدى يمكن تقييم استجابة الحكومة للتوصيات التي تُصدر عن الاقتصاديين المستقلين؟ بعد تجربتك في هذه اللقاءات، هل ترى أن هذه الحوارات تهدف إلى توسيع دائرة النقاش، ثم تُتخذ القرارات كما هو مخطط، أم أن هناك فعلاً استفادة من تلك التوصيات التي يتم طرحها ويتم تضمينها في السياسات والقرارات الحكومية؟
د. زياد بهاء الدين: من حيث المبدأ، عندما يتم دعوتي للمشاركة في مناقشة أو حوار، فإنني أعتبر ذلك فرصة. ليس لدي أي توجه للمقاطعة، ولا أفهم هذا المفهوم بشكل جيد. سأقاطع فقط إذا تم إخباري بأنني يجب أن أشارك دون أن أعبر عن رأيي، أو إذا قيل لي أن أغير ما كنت أنوي قوله. في أي دعوة يُفترض أن أكون فيها وأعبر عن رأيي، لا أشغل نفسي كثيرًا بالتفكير فيما إذا كان يجب أن أذهب أم لا.
عندما تتكرر الدعوات للحوار دون أن نجد أثرًا على القرارات فمن الطبيعي الشعور بفقدان الحماس
إن الموضوع لا يتوقف عند حدود الفكرة المطروحة، بل يمتد إلى الواقع العملي الذي يتجلى في تأثير هذه الفكرة على السياسات الحكومية. عندما تتكرر الدعوات للحوار والنقاش دون أن نجد أثرًا واضحًا على الاستراتيجيات والقرارات المتخذة، فمن الطبيعي أن ينتاب الناس شعور بالإحباط وفقدان الحماس. هذا ليس مجرد سلوك سياسي يتجلى في قرارات المقاطعة، بل هو تعبير عن شعور عام يسود بين الأفراد والمجتمع.
أحمد رضوان: ينتابهم حالة من الفتور.
د. زياد بهاء الدين: نعم، الفتور هو الكلمة الأكثر دقة لوصف الحالة الراهنة للحوار الوطني. تعكس هذه الحالة شعورًا عامًا لدى الكثير من الأفراد بأن آراءهم قد لا تُؤخذ على محمل الجد، مما يؤدي إلى تراجع حماسهم للمشاركة في هذه الحوارات. عندما يكون لدى الأفراد التزامات أخرى، مثل السفر أو الأعمال اليومية، قد يتساءلون: ‹ما الجدوى من إبداء رأيي إذا كنت أعلم مسبقًا أن تأثيره سيكون محدودًا؟› هذه التساؤلات تعكس نوعًا من الإحباط الذي يشعر به الكثيرون.
الحوار الوطني انطلق ومرت مخرجاته ولكن لم تصل معظم هذه المخرجات إلى مرحلة التنفيذ
لذا، إذا كانت الحكومة تسعى حقًا إلى تعزيز ثقافة الحوار واعتباره عنصرًا أساسيًا في العملية السياسية، فإنه من الأهمية بمكان أن تُظهر اهتمامًا حقيقيًا بما يُطرح من آراء. يجب أن تُعامل هذه الآراء بجدية وموضوعية، ويتطلب ذلك استجابة فعالة من الجهات المعنية للأفكار المطروحة، ومناقشتها بشكل يضمن أن يشعر الناس بأن آرائهم تؤثر على مجريات الأمور. لا يمكن إنكار أن بعض هذه الآراء قد تجد طريقها إلى السياسات الحكومية، بينما قد تُستبعد أخرى، لكن المبدأ العام للحوار والتواصل يبقى أساسيًا ولا يمكن تجاهله.
لكن هناك إشكالات أخرى، دعني أوسع نطاق سؤالك قليلاً. عندما نتحدث عن المؤتمرات التي تُعقد فلا يوجد بها أي مشكلة، ولكن بالتحدث عن الحوار الوطني، نجد أن هناك عدة مشكلات تكتنف هذه العملية. فبداية، لقد انطلق الحوار ومرت مخرجاته، ولكن لم تصل معظم هذه المخرجات إلى مرحلة التنفيذ. وبعد فترة من الركود، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات الرئاسية، عاد التركيز ليقتصر على الحوار السياسي فقط، الذي اتخذ شكلًا أحاديًا حول قضايا مثل الحبس الاحتياطي الذي يتم تناوله في قانون الإجراءات الجنائية التي يتم مناقشتها في البرلمان.
إذا كان لدينا 600 نائب منتخب يعبرون عن إرادة الشعب، فلماذا نحتاج إلى ساحة حوار إضافية؟
هذا التداخل بين الموضوعات يعكس نوعًا من عدم الارتياح، لأن الحوار الوطني يجب أن يكون له مكانه الطبيعية في البرلمان. فإذا كان لدينا 600 نائب منتخب يعبرون عن إرادة الشعب، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا نحتاج إلى ساحة حوار إضافية بين الحكومة والمجتمع بعيدة عن البرلمان؟ يجب أن نحدد إذا ما كان هذا الحوار موجهًا للشعب ككل، أم أنه مع لجان متخصصة أو خبراء سيتم إحالتهم إلى الرئاسة أو البرلمان أو الحكومة؟، هذه الحالة من الارتباك تجعل الأمور أكثر تعقيدًا. ولكن يبقى مبدأ الحوار ضرورة لا مفر منها.
أحمد رضوان: إذا افترضنا وجود مقياس من 1 إلى 10 لتقييم مدى التجاوب مع ما اطلعت عليه وما تم تناوله في لقاءاتك السابقة مع الحكومة، كيف ستُقيم هذا التجاوب؟
د. زياد بهاء الدين: في الحقيقة، لا أرغب في تحديد رقم دقيق، ولكنني أعتقد أن مستوى التجاوب لا يتجاوز الحد الأدنى. لقد شمل الحوار الوطني، كما تعلم، محاور اقتصادية وسياسية واجتماعية. وعلى الرغم من أنني لم أتمكن من حضور الجلسات الاقتصادية نظرًا لالتزاماتي السفرية المتكررة، وان كنت متواجد بالفعل كنت سأحضرها.
ضعف استجابة الحكومة للتوصيات والأفكار المطروحة يمثل تحديًا كبيرًا
أنا أؤمن بقوة بأهمية المشاركة في مثل هذه المناقشات، بدلاً من سياسة المقاطعة. ومع ذلك، فإن ضعف استجابة الحكومة للتوصيات والأفكار المطروحة يمثل تحديًا كبيرًا، يجب أن ندرك أن تحسين مستوى الاستجابة يمكن أن يؤدي إلى نتائج إيجابية.
ياسمين منير: أود أن أعود معك إلى ملف الاستثمار، حيث تطرقت في حوار سابق لك إلى أن قانون الاستثمار لم يعد يتمتع بجاذبية خاصة، وأن العالم شهد تغيرات كبيرة في هذا السياق. ولكن.. في هذه الفترة، عادت وزارة الاستثمار، وهناك خطة استراتيجية يجري الإعداد لها، رغم أن معالمها لم تتضح بشكل كامل حتى الآن. ومن المتوقع أن تتضمن تسهيل الإجراءات وتقديم حوافز لبعض المجالات. بالإضافة إلى ذلك، تم تقديم ‹الرخصة الذهبية› التي لاقت ترحيبًا واسعًا من قبل العديد من المستثمرين. فهل أنت مؤيد لهذه الاستراتيجية الاستثمارية؟ وما الذي ينبغي أن يُنفذ على أرض الواقع لضمان نجاحها؟
د. زياد بهاء الدين: نعم، أؤيد عودة وزارة الاستثمار، وأؤكد على ضرورة تمكين هيئة الاستثمار من ممارسة دورها بفعالية أكبر ومنحها صلاحيات حقيقية تتجاوز ما تمتلكه اليوم، والتي تقل عمّا كانت تملكه في فترات سابقة. لقد شهدنا تغييرات في القانون واللوائح أثرت بالفعل على قدرة الهيئة في حل مشكلات المستثمرين والتعامل معهم بمرونة.
أؤكد على ضرورة تمكين هيئة الاستثمار من ممارسة دورها بفعالية أكبر وصلاحيات حقيقية
لكن ما أتحفظ عليه هو أن جزءًا من قانون الاستثمار لا يزال يتبع نفس المنطق المتبع منذ عام 1971. نحن نتحدث عن قوانين استثمارية تحدد مجالات معينة ذات أولوية، وتمنح مزايا وحوافز خاصة لهذه المجالات. هذا النموذج تم تطبيقه لأول مرة في عام 1971، ثم أعيد تعديله في عام 1974، وتوالت التعديلات في السنوات التالية، حيث شهدنا تغييرات في 1977 و1979، وهكذا استمرت القوانين المتعاقبة، مما يدل على أننا منذ نحو 70 عامًا نعمل بنفس العقلية.
إن النهج المعتمد حتى الآن يستند إلى فكرة أن الدولة قد خرجت من النظام الاشتراكي في نهاية الستينات، ثم اتجهت نحو الانفتاح على الاستثمار بعد حرب أكتوبر وما تلاها من صراعات. كان لزامًا في ذلك الوقت تحديد مجالات استثمارية معينة، وتحفيز المستثمرين على التوجه إليها، وهو ما تم بموجب قوانين استثمارية متعاقبة منذ ذلك الحين.
يجب إعادة النظر في كيفية جذب الاستثمارات والتركيز على تقديم بيئة مرنة وداعمة تعكس احتياجات السوق
الآن، وبعد مرور نحو 70 عامًا على هذا المنهج، نجد أن الفلسفة التي تسيطر على إدارة الاستثمار لم تتغير، وهو الأمر الذي أراه مقلقًا. لست ضد وجود هيئة الاستثمار أو وزارة الاستثمار، بل أؤكد على أهميتهما في دعم الاقتصاد. ولكن ما أتحفظ عليه هو تلك الاستراتيجية التي تقدم للمستثمرين مجموعة من المزايا والحوافز التي أصبحت غير فعالة.
عندما أذهب إلى بلدان أخرى، لا أجد قانون استثمار، لأنه ليس هناك حاجة إليه؛ فالبلد يعمل بشكل جيد، ولا يحتاج إلى حوافز أو مزايا خاصة، لأن السوق لديه القدرة على التكيف والازدهار.
إن الاستمرار في استخدام نفس اللغة والأساليب التي كانت سائدة في السبعينات هو أمر غير منطقي، ويعكس عدم استجابة للتغيرات الاقتصادية العالمية. يجب علينا إعادة النظر في كيفية جذب الاستثمارات، والتركيز على تقديم بيئة استثمارية مرنة وداعمة تعكس احتياجات السوق وتوجهاته الحديثة.
ياسمين منير: نحن نتحدث عن استراتيجية يُفترض أن تشهد تحولًا كبيرًا أو تسهيلات في الوصول إلى الحوافز المنصوص عليها في القانون. ما هي توصياتك بخصوص هذه الوثيقة أو الاستراتيجية؟
د. زياد بهاء الدين: نوعية الحوافز المحددة في القانون لم تعد تتماشى مع متطلبات السوق الحالية. اليوم، عندما أقدم للمستثمر عرضًا بأن بإمكانه تأسيس شركته في فترة زمنية محددة، أو أنه سيحصل على إعفاء ضريبي بنسب معينة، أجد أن ذلك لا يعكس التعقيدات التي يواجهها. للأسف، لا تحتوي النصوص القانونية على إعفاءات ضريبية واضحة، بل ترتبط بشروط معقدة للغاية، ولا حتى أن اقدم امكانية اعتماد محاضر جمعيات المستثمرين عبر نافذة غير نافذة قانون الشركات، كل هذه الأمور أقل وضوحًا وأقل فائدة.
المستثمر يحتاج إلى سعر صرف مستقر وسياسات حكومية شفافة ومعلنة وقوى عاملة مدربة
المستثمر اليوم يبحث عن متطلبات جديدة تمامًا. إنه يحتاج إلى سعر صرف مستقر، وسياسات حكومية شفافة ومعلنة، وقوى عاملة مدربة، تضم أفرادًا يتقنون لغات متعددة ومهندسين محترفين في المجالات الحديثة، وليس في المجالات التقليدية.
تركيزنا على الحوافز والمزايا في قانون الاستثمار لم يعد يتماشى مع أولويات المستثمرين
لذا، فإن تركيزنا على الحوافز والمزايا في قانون الاستثمار لم يعد يتماشى مع أولويات المستثمرين. العديد من الدول لم تعد تتبع هذه الاستراتيجيات القديمة. إنه لأمر إيجابي أن نرى وجود وزارة وهيئة للاستثمار، ولكن من الضروري أن نتجاوز العقود السبعة الماضية ونبدأ في جذب الاستثمارات بأساليب تتوافق مع الممارسات العالمية الحديثة، وليس عبر أفكار عفا عليها الزمن من سبعينيات القرن الماضي.
رضوى إبراهيم: سأستمر في التركيز على المستثمرين. في الآونة الأخيرة، شهدنا مجموعة من الصفقات الضخمة، من بينها صفقة رأس الحكمة، التي وُصفت بأنها أكبر استثمار في تاريخ مصر. من الواضح أن هذه الصفقات تميل نحو الاستثمارات السيادية، وخصوصًا الخليجية، بينما يبدو أن القطاع الخاص المحلي بدأ يشهد تراجعًا أو هدوءًا نسبيًا في توسعاته. في الوقت ذاته، هناك قائمة تم طرحها قبل عدة سنوات، تتعلق بالوثيقة الخاصة بسياسة ملكية الدولة، وتتحدث عن برنامج الطروحات الحكومية. ومن المفارقات، أن ثلاث أو أربع من الطروحات التي تمت هي في اتجاه الاستثمارات السيادية، كيف ترى هذا المشهد برمته؟ هل هناك عدالة في طرح الفرص المتاحة على المستثمر المحلي أو المستثمر الخارجي ومنه المستثمر الخليجي؟
د. زياد بهاء الدين: بالنسبة لصفقة رأس الحكمة، ليس لدي أي تحفظ على فكرة الصفقة نفسها. بل على العكس، لا يزعجني أن يكون هناك مشروع عقاري، بل يسعدني جدًا. عندما سُئلت عن رأيي، قلت إنه لو كنت رئيس هيئة الاستثمار، فسأكون فعلاً سعيدًا بدخول أكبر مشروع استثماري في تاريخ مصر، حيث تشير التقارير إلى أن تكلفة اقتناء الأرض تبلغ 35 مليار دولار، ولكن المستثمر أصدر بيانًا بأن إجمالي الاستثمار قد يصل إلى 150 مليار دولار على مدى خمس سنوات. لذا، فإن هذه الصفقة تمثل فرصة كبيرة وتستحق الاحتفاء بها بشكل ضخم، نظرًا لقدرتها على إحداث نقلة نوعية في الصناعات والأنشطة الاقتصادية وخلق فرص عمل جديدة.
ليس لدي أي تحفظ على فكرة صفقة رأس الحكمة بل على العكس
ومع ذلك، لدي تحفظات حول نقطتين، وهاتان النقطتان لا ترتبطان بالصفقة كفكرة في حد ذاتها. النقطة الأولى كما ذكرتِ، تتعلق بأهمية أن تُحيط هذه الصفقة وغيرها من الصفقات المماثلة بقدر أكبر من الشفافية، وهذا مطلوب بشكل أكبر من السابق.
رضوى إبراهيم: للعامة؟
د. زياد بهاء الدين: بالضبط، للمجتمع المصري بشكل عام.
أرى ضرورة في أن تُحاط الصفقات الحكومية بقدر أكبر من الشفافية
رضوى إبراهيم: نسيت جزءاً مهماً من سؤالي يتعلق بعدالة المعلومات المتاحة للمستثمرين. هل تعتقد أن المستثمر المحلي يحصل على نفس المعلومات المتاحة للمستثمر الأجنبي أو الخارجي بشكل عام تجاه الفرص الاستثمارية المعروضة؟
لا يمكن القول بأن هناك عدالة في الوصول للمعلومات الكافية عن فرص الدخول في الصفقات لجميع المستثمرين
د. زياد بهاء الدين: للأسف، لا يمكن القول بأن هناك عدالة في هذا الصدد، فمسألة الشفافية هنا تعاني من قصور واضح. المعلومات حول المشروعات الكبرى غير متاحة قبل حدوثها، وبعد وقوعها تصبح الأمور معنية بالرأي العام فقط. إن المواطن يسعى للاطمئنان على ما يحدث في بلده، وهذه النقطة لا تتطلب مقارنة بمعايير دولية صارمة، بل يمكننا إجراء مقارنة بسيطة.
بيع أرض سيدي عبد الرحمن شهدت منافسة بين ثلاث شركات وتم فتح المظاريف بشكل علني
على سبيل المثال، منذ حوالي 15 عاماً، حين تم إجراء مزاد لبيع أرض سيدي عبد الرحمن، كانت هناك ثلاث شركات متنافسة، وتم فتح المظاريف بشكل علني، حيث تم الإعلان عن النتائج بشفافية، وفازت شركة خليجية بالمزاد. في ذلك الوقت، كان هناك شعور عام بالانفتاح والشفافية. آمل أن نعيد تحقيق مثل هذه الأجواء في وقتنا الحالي.
أما فيما يتعلق بما إذا كانت الاستثمارات مقصورة على الجهات السيادية الخليجية، فإنني أرى أن الإجابة هي لا. ويمكنني التعبير عن ذلك بصورة قد تبدو قاسية بعض الشيء، الأمر ليس محصوراً في منع دخول مستثمرين آخرين، بل إن مناخ الاستثمار في مصر يثير قلق المستثمرين العاديين. هذه المخاوف تنبع من نقص المعلومات، والتغيرات المتوقعة في السياسات الحكومية، بالإضافة إلى الرسوم والتكاليف غير المتوقعة.
يجب أن نركز على بناء الثقة وتعزيز الشفافية بحيث لا يشعر المستثمرون بأنهم بحاجة إلى الارتباط بمنظومة أكبر
تراجع الاستثمارات في القطاع الخاص، سواء من مستثمرين محليين أو أجانب، يُعد مؤشراً غير إيجابياً. هذا الوضع لا يعكس سياسة مقصودة، بل هو علامة على القلق المتزايد بين المستثمرين. فالمستثمرون الذين لا يتلقون دعماً من دولهم أو لا يملكون اتفاقات مع الدولة المصرية، يشعرون بعدم الأمان تجاه الدخول في مناخ استثماري كهذا. لذا، يجب أن نركز على بناء الثقة وتعزيز الشفافية، بحيث لا يُشعر المستثمرون بأنهم بحاجة إلى الارتباط بمنظومة أكبر أو سيادية لحماية أنفسهم.
رضوى إبراهيم: هل هذا الطمأنة تتحقق فقط من خلال رسائل بث الثقة، أم أنها تتطلب الوضوح الذي تفضلت بالإشارة إليه؟
د. زياد بهاء الدين: لا، بالطبع، الأمر يتطلب الوضوح. يجب أن تكون هناك قوانين واضحة، ووثائق تتناول جميع التفاصيل، مع إجراء تعديلات دقيقة وإلغاء الرسوم غير الضرورية، فهذا هو الأساس الذي يمكن أن يخلق الثقة.
رضوى إبراهيم: أشكرك.
أحمد رضوان: حضرتك استبقت بخطوة الحديث عن التوصيات التي تتعلق بالملف الضريبي وتعدد الأعباء المالية واختلافها المستمر. عندما نتحدث عن دول تشبهنا اقتصاديًا وكانت تعاني من مشكلات مماثلة، سواء في الملف الضريبي أو في تعدد الأعباء على المستثمرين بمختلف مسميات هذه الأعباء، وتمكنت هذه الدول من تقديم حل سريع وفعال، ما هو النموذج الذي يمكننا أن نذكره في هذه الحالة؟ هل هناك تجربة يمكن أن نستفيد منها أو نقتبس منها حلولًا فعالة؟
د. زياد بهاء الدين: الحقيقة أصبحنا نتجنب المقارنات، لأن المسألة باتت حساسة جدًا حينما نقارن أنفسنا بدول أخرى. لكن يمكنني الإشارة إلى معايير دولية معترف بها، دون ذكر بلدان بعينها، لأن العالم يتقدم بسرعة كبيرة، والبلدان التي كانت تقتدي بنا أصبحت تسبقنا بمراحل. في هذا السياق، هناك منظمات دولية متخصصة في الملف الضريبي، وأبرزها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، التي تلعب دورًا كبيرًا في وضع معايير ضريبية عالمية مهمة.
وزير المالية أعلن توجهات تبدو جيدة جدًّا.. ومتفائل بأن تكون الخطوة الأولى نحو الإصلاح الضريبي
لكن دعني أقول شيئًا إنصافًا للحق: وزير المالية أحمد كجوك، في لقاء له مؤخرًا مع الغرفة التجارية الأمريكية، أشار إلى قرب صدور قرارات ضريبية، وقدم توجيهاتها العامة. وفي اليوم التالي، خلال المؤتمر الصحفي الأسبوعي لرئيس الوزراء، تحدث وزير المالية مرة أخرى وكرر نفس هذه التوجهات. هذه التوجهات تبدو جيدة جدًا، وأنا متفائل بأن تكون الخطوة الأولى نحو الإصلاح الضريبي. وإذا دخلت هذه التوجيهات حيز التنفيذ، فقد تكون بمثابة تقدم ملموس في هذا الملف.
أحمد رضوان: ما الذي يجب أن يتم فعله؟
د. زياد بهاء الدين: على سبيل المثال، تم طرح فكرة إنشاء آلية للتصالح مع كل النزاعات الضريبية القديمة.
يجب وقف النزيف الناجم عن النزاعات الضريبية والمحاكم والتظلمات واللجان والتفتيش المتكرر
أحمد رضوان: بالفعل، هذا ما تم الحديث عنه.
د. زياد بهاء الدين: أتمنى أن يحدث هذا بالفعل، لأن هذا المبدأ معمول به في العالم أجمع. في مرحلة معينة، يجب وقف النزيف الناجم عن النزاعات الضريبية والمحاكم والتظلمات واللجان والتفتيش المتكرر، لأن هذا النهج لم يعد فعالًا.
أحمد رضوان: بالإضافة إلى وضع سقف للغرامات بحيث لا تتجاوز أصل الضريبة.
د. زياد بهاء الدين: هذا هو المبدأ الثاني. المبدأ الثالث يتحدث عن وضع معاملة ضريبية موحدة ومبسطة ومنخفضة، خاصة بالنسبة للصناعات الصغيرة والمتوسطة.
أحمد رضوان: تم تحديد حد أقصى بقيمة 15 مليون جنيه لهذه الصناعات.
د. زياد بهاء الدين: نعم، وهذا المبدأ ذُكر سابقًا في القانون، لكنه لم يُطبق حتى الآن
أحمد رضوان: لم نتمكن من تطبيقه.
د. زياد بهاء الدين: بالفعل،أما المبدأ الرابع، فهو أن هناك قضايا لا تزال غامضة بشكل غير مبرر. على سبيل المثال، لقد مر حوالي 12 عامًا ونحن لا نعرف ما إذا كنا سنطبق ضريبة على الأرباح الرأسمالية في البورصة أم لا. نقول نعم لعامين، ثم نقوم بتجميدها، ثم نرجئ التنفيذ، وبعد ذلك نلغيها تمامًا. هذه الأمور يجب أن تُحسم، لأن الحيرة ليست في صالح أحد.
وزير المالية أعلن عن هذه المبادئ، وإذا صدرت القرارات المرتبطة بها وتم تنفيذها قريبًا، فأنا أعتقد أنها ستكون خطوة مهمة جدًا. وما أريد التأكيد عليه هو أن كل هذه الأمور معروفة وواضحة دون ذكر أمثلة للبلاد، كما أن المعايير الدولية معروفة، وهو ما ذكره وزير الماليه وأيده في ذلك رئيس الوزراء. إذا تم تطبيق هذه المبادئ، فإننا قد نرى تقدمًا حقيقيًا في هذا الملف.
لم تكن هناك أي آلية تنفيذية حقيقية لوثيقة سياسة ملكية الدولة.. والطموحات كانت أكبر مما ينبغي
ياسمين منير: بالعودة إلى وثيقة ملكية الدولة، حضرتك ذكرت أنك ترى ضرورة مراجعة الوثيقة من البداية، وطرحت فكرة إصدار وثيقة اقتصادية شاملة. هل ترى أن الوتيرة البطيئة التي شهدناها في تنفيذ الوثيقة، تعكس غياب إجراءات تنفيذية واضحة أو برنامج تطبيقي محدد؟ وهل كانت هذه الوثيقة مجرد أداة لطمأنة القطاع الخاص أو المؤسسات الدولية والتمويلية بأن المنافسة مع الدولة غير موجودة؟ وفي المقابل، لدينا برنامج طروحات حكومي معلن منذ سنوات، فما رأيك في هذا السياق، خاصة وأنك دافعت عن فكرة التخلص من الوثيقة الحالية؟ هل كانت الوثيقة تمتلك آليات تنفيذ حقيقية؟ وكيف نحقق برنامج الطروحات أو التخارج بشكل فعّال؟
د. زياد بهاء الدين: لا، أولاً لم يكن هناك أي آلية تنفيذية حقيقية، وثانيًا، كانت الوثيقة تحتوي على طموحات أكبر مما ينبغي. دعيني أشاركك موقفًا حدث خلال الإعلان عن الوثيقة، حينما كنت جالسًا بجانب السيد رئيس الوزراء، وسألت سؤالًا مهمًا: «هل تعبير (الدولة) في هذه الوثيقة يشمل كافة أركان الدولة، أم أننا بحاجة إلى اتباع نهج تدريجي؟» لأن الدولة، في الحقيقة، تملك شركات من خلال قنوات متعددة ومتنوعة، لا تقل عن 7 أو 8 قنوات مختلفة.
فعلى سبيل المثال، هناك الهيئات العامة القديمة التي تمتلك شركات، وهناك القطاع العام، وهو قطاع كبير جدًا، إذ نجد شركات مثل مصر للطيران والمقاولون العرب تحت مظلة القطاع العام. وجزء من هذا القطاع انتقل منذ حوالي 20 عامًا إلى قطاع الأعمال العام، وهناك أيضًا شركات مملوكة لبنوك القطاع العام، بالإضافة إلى شركات أخرى تابعة لمركز الاستثمار القومي، والصندوق السيادي. علاوة على ذلك، هناك شركات تُصنف كقطاع خاص لكنها تضم رؤوس أموال من القطاع العام، وأخيرًا، هناك الشركات التي تمتلكها الجهات السيادية.
ما نحتاجه هو إستراتيجية صناعية شاملة وطويلة الأمد وسياسة صناعية واضحة لمصر
فسألت حينها: «هل يشمل هذا التعبير كل تلك الجهات المختلفة؟» وكانت الإجابة أن الوثيقة تشمل كل الدولة. ما أود قوله هنا هو أننا بحاجة إلى إصدار وثيقة أكثر وضوحًا وصراحة. علينا أن نحدد بوضوح الأماكن التي ستتخارج منها الدولة، والأماكن التي ستظل فيها، خاصة في الصناعات الاستراتيجية ذات الأهمية للجهات السيادية. لا يمكن أن نستمر في إصدار وعود طموحة دون القدرة على تنفيذها
النتيجة الحتمية لهذا الطموح المبالغ فيه هي أن الوثيقة أصبحت اليوم موضع انتقاد، خاصة من قِبَل المستثمرين الأجانب والمؤسسات الدولية التي تسأل: «أين تلك الوثيقة التي أعلنتم عنها قبل ثلاث سنوات؟ لماذا لم يحدث أي تقدم في تنفيذها؟» لهذا السبب، أرى أننا بحاجة إلى وثيقة أكثر بساطة وواقعية، تعبر عن ما يمكننا فعله بالفعل وما نحن مستعدون لتنفيذه، وأن نستفيد من جميع الفرص الممكنة.
ياسمين منير: ماذا عن آليات التطبيق؟ كيف تنظر إليها؟
د. زياد بهاء الدين: مع وجود البرلمان، يتوجب أن تكون هناك أجهزة رقابية وإعلانات واضحة. من المهم أن نلاحظ أن فكرة التطبيق ليست مجرد إنشاء لجان جديدة أو وزارات إضافية، بل تعني أنه قد تم طرح قضية معينة أمام المجتمع وتم التعهد بتنفيذها، مما يستدعي محاسبة الجهات المعنية على تحقيق هذه الوعود.
الصناعة أحد أهم الملفات الإستراتيجية وتأخرنا كثيرًا في منحها الأولوية اللازمة
رضوى إبراهيم: ننتقل الآن إلى ملف الصناعة، الذي لا يختلف أحد على أنه العمود الفقري لأي اقتصاد قومي. ومن الضروري الإشارة إلى أن هذا القطاع، وخاصة المستثمرين فيه، عانوا من أزمات متعددة لا تقتصر فقط على التحديات العامة مثل أزمة سعر الصرف، بل امتدت إلى أزمات أكثر خصوصية كالتقييدات المفروضة على الاستيراد والاعتمادات المستندية. حضرتك تناولت في تصريحات سابقة مقارنة بين مصر والمغرب في مجال صناعة السيارات. وبينما نحن في مصر لا زلنا في مرحلة وضع استراتيجية تشجيعية تتضمن بعض الحوافز التي بدأ البعض يشيد بها، نجد أن المغرب قد تجاوزنا بمراحل في هذا المجال وغيره. من هنا، سؤالي: هل ترى أنه من الأنسب أن نتعامل مع كل قطاع صناعي على حدة، مثل الصناعات المعدنية والكيماوية، ونضع لها استراتيجيات خاصة؟ أم أننا بحاجة إلى استراتيجية صناعية شاملة متكاملة؟ وأخيراً، كيف تقيّم اختيار وزير له صوت مسموع وقدرة تنفيذية في الحكومة، خصوصاً بعد ما رأيناه في قطاع النقل؟ هل تعتقد أن هناك إرادة حقيقية لدى الدولة لتحريك ملف الصناعة بشكل جذري؟
د. زياد بهاء الدين: لا شك أن الصناعة تمثل أحد أهم الملفات الاستراتيجية، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان. كما أنه لا يمكن إنكار أننا تأخرنا كثيرًا في منح هذا الملف الأولوية اللازمة. لكن دعيني أوضح أن التعامل الصحيح مع ملف الصناعة لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج فورية. فالثمار الفعلية لهذا الجهد لن تظهر بشكل ملحوظ إلا بعد عامين أو ثلاثة، وستكون النتائج الملموسة أكثر وضوحًا بعد خمس سنوات، وربما نصل إلى أثر ملموس وشامل خلال عشر سنوات. لذلك، لا بد أن نفكر كذلك في قطاعات أخرى تسهم في دعم الاقتصاد على المدى القصير، مثل قطاع السياحة الذي يعد أسرع مصدر للعملة الأجنبية ويوفر فرص عمل كبيرة، وأيضًا قطاع الخدمات، وكيف يمكن أن تصبح مصر مركزًا إقليميًا لتصدير الخدمات حتى دون الحاجة إلى سفر الأفراد.
أما فيما يخص الصناعة، فهي الحل الأمثل والأكثر استدامة على المدى الطويل. وأنتِ محقة في أن تولي وزير قوي، له قدرة تنفيذية وصوت مسموع، مسؤولية هذا الملف يمثل جزءًا كبيرًا من الحل. ولكن، هذا لا يكفي بمفرده. يجب أن يكون هناك إطار شامل واستراتيجية متكاملة تجمع بين الحزم والمرونة اللازمة لضمان تنفيذها بفاعلية.
التعامل الصحيح مع ملف الصناعة لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج فورية وواضحة
رضوى إبراهيم: لا شك في ذلك.
د. زياد بهاء الدين: إذا اقتصرنا فقط على اتخاذ قرارات سريعة، فسنكون قد استسلمنا لفكرة عدم وجود إصلاح حقيقي في قطاع الصناعة، وسنظل نكتفي بردود الفعل قصيرة الأجل. الحقيقة أن ما نحتاجه هو استراتيجية صناعية شاملة وطويلة الأمد، وهو أمر غائب عنا منذ فترة طويلة. إذا كانت وثيقة ملكية الدولة تتطلب جهداً جماعياً من خبراء محليين ودوليين، فإن الحاجة ماسة أيضاً لوضع سياسة صناعية واضحة لمصر. لكن يجب أن نفرّق بين السياسة الصناعية والخريطة الصناعية.
رضوى إبراهيم: كيف ترى الفرق بين السياسة الصناعية والخريطة الصناعية؟
د. زياد بهاء الدين: السياسة الصناعية لا تقتصر على تحديد مواقع المصانع أو القطاعات التي سيتم تطويرها في أماكن معينة. بل تعني تحديد أولويات البلد بوضوح. على سبيل المثال، ما هي الموارد التي ستوفرها الدولة للقطاع الخاص؟ وما مدى استعداد الحكومة لتقديم الدعم المالي أو تقديم المواد الخام والطاقة بأسعار مدعومة؟ وما هي آليات دعم الصادرات في صناعات محددة؟ وكيف يمكننا عقد اتفاقيات دولية تُعزز من جاذبية الاستثمارات الصناعية؟ الأمر أشبه بشبكة مترابطة من العوامل التي تتضافر لتحقيق صناعة قوية ومستدامة، وليس مجرد تخطيط جغرافي للصناعات.
لا بد أن نفكر في قطاعات تسهم في دعم الاقتصاد على المدى القصير مثل السياحة
رضوى إبراهيم: هل طريقة الدعم المقدم للمصدرين تختلف عن فكرة رد الأعباء الضريبية؟
د. زياد بهاء الدين: بالطبع، فهذه القضية باتت تمثل إشكالية حقيقية. فقد كان لدينا في الماضي “صندوق دعم الصناعة”، إلا أن هناك مخاوف من أن العودة إلى أساليبه التقليدية قد تتعارض مع قواعد التجارة العالمية. ومع ذلك، يمكن للدول أن تشجع مصدريها بعدة طرق تتوافق مع تلك القواعد. ولكن الأمر لا يقتصر على مجرد رسم خريطة صناعية تحدد مواقع المصانع، بل يتعلق بمجموعة متكاملة من الحوافز والعوامل الاقتصادية التي تحفز المستثمرين وتؤثر على عوائد استثماراتهم.
إن من الأمور الملحة في مصر اليوم هو تحقيق توازن في الاهتمام، حيث يتسم التركيز المبالغ فيه على ضرورة إعادة تشغيل جميع المصانع المتوقفة بعدم الموضوعية. فبعض هذه المصانع توقفت لأسباب مثل توقف الاستيراد أو تقلبات سعر الصرف أو نقص المواد الخام، وهذه جميعها مسائل قابلة للإصلاح. إلا أنه إذا كانت بعض المصانع قد توقفت لأن أنشطتها لم تعد مناسبة للواقع الحالي أو لأن السوق لم يعد تستوعبها، فإن إخراج الأنشطة الاقتصادية غير المجدية من السوق يعتبر جزءًا أساسيًا من آليات التجديد الضرورية، تمامًا كما يتخلص الجسم من الخلايا الميتة ليحل محلها خلايا جديدة.
السياسة الصناعية لا تقتصر على تحديد مواقع المصانع أو القطاعات التي سيتم تطويرها
لذا، لا ينبغي أن يكون معيار الإبقاء على كل شيء هو الخيار الصحيح. على سبيل المثال، إذا أغلق مصنع منذ عشر سنوات لأنه كان ينتج أشرطة كاسيت، فإن إعادة تشغيله اليوم لن تفيدني، حيث أن لا أحد يستخدم تلك المنتجات.
بالتأكيد، هذا مثال مبالغ فيه، ولكن إذا نظرنا إلى المصنع الذي توقفت آلاته ويحتوي على أرض غير مستغلة، نجد أن هناك ضرورة لإعادة تقييم الوضع.
أحمد رضوان: فهناك أيضًا عمالة مدربة على مهارات قديمة!
د. زياد بهاء الدين: بالفعل، لذا يجب علينا إعادة تدوير هذه الموارد. ولذلك، أرجو أن نعيد النظر في فكرة النهوض بالصناعة وإعادة فتح المصانع المتوقفة، ليس كهدف في حد ذاته، بل كجزء من استراتيجية شاملة تهدف إلى إعادة تدوير الأصول الاقتصادية. فبعض المصانع تحتاج إلى الدعم لتعود إلى العمل، بينما يجب تصفية أخرى وإعادة توجيه أصولها لإنتاج منتجات جديدة تتماشى مع العصر.
أحمد رضوان: دعنا نتناول الاقتصاد الجزئي ونستعرض بعض القطاعات ونظرتك إليها. في الآونة الأخيرة، تردد الكثير من الحديث حول فكرة الفقاعة العقارية، ورغم جدل دقة هذا الحديث، فلا يمكن إنكار التركيز الكبير من الدولة على القطاع العقاري خلال السنوات العشر الأخيرة. وقد ظهرت العديد من التسهيلات المقدمة للمطورين العقاريين، بالإضافة إلى دخول الدولة بشكل مكثف في هذا القطاع، ما تجلى في عمليات التقسيط لفترات طويلة. كيف ترى هذا القطاع، وما رأيك في مخاوف الفقاعة؟
هذه ليست المرة الأولى التي يحصل فيها القطاع العقاري على وزن كبير في مصر
د. زياد بهاء الدين: أولاً، هذه ليست المرة الأولى التي يحصل فيها القطاع العقاري على هذا الوزن الكبير في مصر. بالفعل، لقد شغل حيزًا أكبر مما ينبغي، لكنه ليس بجديد. نحن نشهد هذه الظاهرة منذ سنوات طويلة، مع تكرار الشكاوى من المحللين، وليس فقط المستثمرين، حول عدم الاهتمام الكافي بالقطاعات الإنتاجية، مثل الصناعة والسياحة والخدمات على وجه الخصوص . فعندما يسعى الناس لوضع مدخراتهم واستثماراتهم في شيء ما، لا بد من أن يجدوا موطئ قدم ،ومن ثم أصبح القطاع العقاري محركًا أساسيًا للنمو خلال العقد الأخير، خاصةً أنه يرتبط بشكل وثيق بالصناعات الأخرى كمواد البناء والعمالة، وازدهرت الحياة بفضل هذا القطاع. لذلك، أقول إن أي حديث عن ضرورة تخفيض استثمارات الدولة في التشييد والبناء يكتسب بعض المصداقية، وكنت أؤيد هذا التحفظ حتى في الوقت الذي بدأنا فيه تنفيذ المشروعات القومية الكبرى، ولكن يجب أن نكون حذرين في تطبيقه. ينبغي أن ننتبه إلى أن إطفاء هذه «الآلة» فجأة قد يؤدي إلى مشاكل أخرى تتعلق بالعمالة والدخل والإنفاق، مما قد يوقف العجلة الاقتصادية برمتها.
بدلًا من تقليص القطاع العقاري يجب العمل على توسيع القطاعات الأخرى
ما أود قوله هو أنه بدلاً من تقليص هذا القطاع، يجب علينا العمل على توسيع القطاعات الأخرى واستثمار كل اهتمامنا فيها في السنوات القادمة. أما مسألة الفقاعة، فلا أستطيع تحديدها بدقة، لكن لدي ملاحظة مهمة. الأسعار المرتفعة التي نشهدها اليوم جزء منها يتعلق بآلية التقسيط، التي قد تمتد لفترات تصل إلى 7 أو 8 أو حتى 10 سنوات، مما يعني أن القيمة الحالية للعقارات قد تكون أقل بكثير مما يُشاع.
أحمد رضوان: إذًا، يمكن أن تصل إلى نصف القيمة؟
د. زياد بهاء الدين: بالتأكيد، هذا ما يمكن أن يحدث. هذه النقطة يجب أخذها بعين الاعتبار. كما أن المبالغات التي نراها ليست تعبيرًا عن المجتمع المصري ككل. صحيح أن هناك من يشتري شققًا بأسعار مرتفعة.
جزء من الأسعار المرتفعة للعقارات يتعلق بآلية التقسيط على فترات طويلة
أحمد رضوان: يقومون بشراء العقارات بغرض السكن فيها
د. زياد بهاء الدين: بالفعل، هناك ظاهرة تثير اهتمام الإعلام والرأي العام، وتحتل مكاناً بارزاً في الحوار المجتمعي «السوشيال ميديا». ومع ذلك، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن حوالي 90% من الشعب المصري لا يشغلهم هذا الأمر، لذا ينبغي علينا الحذر من اعتبار هذه الظاهرة دليلاً على كل ما يحدث في البلاد. قد توجد فقاعة في بعض الأماكن أو في بعض الأنشطة فقط.
قد توجد فقاعة في بعض الأماكن أو في بعض الأنشطة فقط
أحمد رضوان: هل يعني هذا أن الفقاعة لا تخص القطاع بأسره؟
د. زياد بهاء الدين: بالضبط. لا تزال هناك أعداد كبيرة من المواطنين الذين يحتاجون إلى عقارات، وهم مستعدون لاستثمار مدخراتهم. فهناك أناس يتزوجون ويكبر أطفالهم ويبحثون عن مساكن، مما يعني أن هذا الموضوع أكبر بكثير من الانشغال بمسائل معينة.
القطاع العقاري أصبح محركًا أساسيًّا للنمو خلال العقد الأخير
أحمد رضوان: هل المقصود هنا أن الطلب الفعّال لم يعد موجوداً؟
ياسمين منير: أو هل يتعلق الأمر بأزمة زيادة الطلب على الاستثمار في هذه الشريحة؟
د. زياد بهاء الدين: أرى أن جزءاً من المشكلة يكمن في أن الاهتمام والمتابعة والكلام ينصب بشكل رئيسي على شريحة محددة جداً، وهي الشريحة العليا من السوق العقاري. وفي المقابل، لا يوجد وعي كافٍ أو إدراك لحجم الطلب الحقيقي الموجود في السوق.
هناك طابور هائل من الناس ينتظرون شراء عقارات من شرائح مختلفة
رضوى إبراهيم: هناك نقطة بالغة الأهمية قد أثرتها في هذا السياق، وبصراحة، هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذا التحليل بهذه الطريقة لفكرة تتعلق بأن القيمة العقارية ترتبط في النهاية بمدى تحقق هذا العقار بعد سداد قيمته بالكامل. ومع ذلك، يُظهر الواقع أن السوق قد أصبح مُسعَّراً بطريقة تربط القيمة المستقبلية بالقيمة الحالية، حتى في عمليات إعادة بيع الوحدات القديمة، وليس مقتصراً على المجتمعات الجديدة فقط.
د. زياد بهاء الدين: كلامك صحيح، ولكن دعيني أعود وأؤكد أننا لا يجب أن نعتبر أن الشريحة العليا فقط تعكس المجتمع المصري أو السوق العقاري في مصر. أعتقد أن هذا غير دقيق، والدليل هو أن هناك طابوراً هائلاً من الناس ينتظرون لشراء عقارات في شرائح مختلفة.
ياسمين منير: يمثل القطاع السياحي رهانًا كبيرًا على قدرة مصر في تحقيق عائدات نقدية أجنبية سريعة، بالإضافة إلى توفير فرص عمل للبطالة. تمتلك البلاد موارد هائلة تؤهلها لتكون وجهة سياحية بارزة. ورغم الأزمات الخارجية التي أوجدت فرصًا لمصر لتكون مكانًا جذابًا للسياح ودفعت الكثير من الأجانب يفكرون في الحصول على إقامة أو شراء منازل ثانية هنا، إلا أننا لم نتمكن حتى الآن من استغلال هذه الإمكانيات، على الرغم من الخطابات العديدة التي تتناول تنشيط السياحة، والإجراءات المتخذة، والتوجه نحو تعزيز الشقق والوحدات الفندقية. ومع ذلك، لا زلنا لم نرَ النتائج الفعلية لهذه الجهود. ما هي وجهة نظرك حول الإجراءات التي ينبغي اتخاذها للاستفادة القصوى من هذا القطاع وضمان تحقيق نقلة سريعة في الحركة السياحية في مصر؟
زياد بهاء الدين : دعيني أبدأ بتسليط الضوء على المدخل الأساسي، حيث أرى أن كل نقاشنا حول الموارد السياحية الوفيرة يعكس خللاً واضحًا. فإذا كنا نملك هذه الموارد منذ ألف عام وما زال نصيبنا من السياحة العالمية لا يتجاوز الحدود الهامشية، فهذا يشير إلى أننا ننظر إلى الأمور من زاوية غير دقيقة. بالطبع، لدينا آثار خالدة، أنهار خلابة، وطقس جميل، وكل ذلك يعد حقيقة قائمة. ولكن يبدو أن هذه الموارد لا تتعلق بجوهر القضية. الأمر هنا يتطلب بناء قطاع سياحي متكامل، لكن الواضح أن الأساس في هذا القطاع هو حرية الاستثمار، وحرية الدخول والخروج، وحرية التصرف.
ضرورة بناء قطاع سياحي متكامل أساسه حرية الاستثمار وحرية الدخول والخروج وحرية التصرف
إذا كنا متمسكين بكل هذه الآثار والأنهار ونكبل كل شيء، فإن هذا هو نتيجة الوضع الحالي. الأرقام تدل على أننا نسعى اليوم للعودة إلى ما كنا عليه في عام 2010، حيث بلغ عدد السياح 15 مليون سائح، وهو ما يمثل 15% من عدد السكان، بعيدًا عن 10 ملايين مواطن مصري يعيشون في الخارج. بالمقارنة، نجد أن اليونان تستقبل 25 مليون سائح، أي 250% من عدد سكانها، بينما تَستقبل فرنسا 80 مليون سائح، وإسبانيا 90 مليون سائح.
وزارة السياحة ليس لديها تأثير في مجالات مثل المطارات والمرور والصحة والجمارك أو حتى تصاريح البناء
ياسمين منير: هل تعني بعبارة «تكبيل» أننا مُكبّلون فيما يتعلق بالاستثمار في هذا القطاع الحيوي؟
د. زياد بهاء الدين: بالضبط، فكل شيء هنا ممنوع ومقيد. وزارة السياحة، المعنية بملف السياحة، لا تمتلك الصلاحيات اللازمة؛ ليس لديها تأثير في مجالات مثل المطارات، المرور، الصحة، الجمارك، أو حتى تصاريح البناء. سلطتها تكاد تنحصر داخل حدود الفندق. نحن نتداول في هذا الموضوع، ونرى الموارد السياحية في أوجها، لكننا نتجاهل المورد الأهم في هذا السياق، وهو أن هذه ليست الطريقة السليمة للتفكير في صناعة السياحة.
رضوى إبراهيم: سريعًا، أود الانتقال إلى ملف ريادة الأعمال، ولن أطيل في السؤال. بعد كل الدعم الذي يتلقاه رواد الأعمال من الحكومة والقطاع الخاص، أين تضع مصر على خريطة ريادة الأعمال عالميًا؟
د. زياد بهاء الدين: عندما تشيرين إلى ريادة الأعمال، ماذا تقصدين بالتحديد؟ فالمجال يشمل جوانب عديدة. هل تعني مجرد تشجيع الشباب على بدء مشاريع جديدة؟ أم تقصدين وجود صناديق ومؤسسات مالية متخصصة في هذا المجال؟ أم أن الأمر يتعلق بكل هذه الجوانب مجتمعة؟
رضوى إبراهيم: أقصد المشروعات الناشئة. شركة ناشئة، بغض النظر عما إذا كانت فكرتها جديدة أو ترتبط بما هو رائج حاليًا. على سبيل المثال، نحن في «حابي» نتعامل مع الصحافة، وهي ليست فكرة مبتكرة، ولكن المشروع يدخل في إطار ريادة الأعمال، وأنشأه ويقوم عليه شباب. ليس من الضروري أن يكون النشاط جديدًا بالكامل.
د. زياد بهاء الدين: هل تودين إجابة مختصرة؟
رضوى إبراهيم: نعم، أرجو ذلك.
الأصل في الأشياء هو الإباحة وهذا ما تفتقده ريادة الأعمال
د. زياد بهاء الدين: إذاً، الإجابة الأقصر هي أننا نتعلم أن الأصل في الأشياء هو الإباحة، لكن في واقعنا الحالي، الأصل هو المنع، وهذا أمر لا يتماشى مع مبادئ ريادة الأعمال. عندما أعتزم البدء في مشروع، طالما أنه لا يهدد الأمن القومي وسلامة الأفراد، يجب أن أكون قادرًا على العمل. ولكن إذا كنت محاطًا بالقيود في كل خطوة أخطوها، فإنني في الحقيقة أقوم بشيء آخر، وليس ريادة الأعمال.
رضوى إبراهيم: بالفعل، أنت قد أوضحت الأمور بشكل كامل ومختصر.
أحمد رضوان: لننتقل الآن إلى محاور تتعلق برحلة الحياة وبعض الجوانب الشخصية. كيف ترى تأثير المفكر الكبير أحمد بهاء الدين في حياتك وحياة من حولك؟ وإذا كان بيننا اليوم، كيف تتخيل أنه سيتعامل مع الأوضاع الحالية؟
د. زياد بهاء الدين: في الحقيقة، من الصعب عليّ أن أقول بدقة ماذا كان سيفعل أحمد بهاء الدين، لأنني أؤمن أن الكاتب، كالفنان والمبدع، ينقل رؤاه وأفكاره في زمنه. بالتالي، فإن كل رأي يطرح حول ما يقوله اليوم يعتبر تعبيرًا عن وجهة نظر شخصية، ولا أملك الحق في تقييم ما يقوله أحمد بهاء الدين. كل فرد لديه القدرة على استنباط ما يراه ملائمًا.
لا يوجد أي تفضيل لأي شخص في تفسير ما كان سيقوله أحمد بهاء الدين لو كان بيننا اليوم
أحمد رضوان: هل تعني أن الأمور قد تغيرت إلى هذا الحد؟
د. زياد بهاء الدين: ليس الأمر مجرد تغيير، بل هو يعكس أن الكاتب يكتب للجميع، ومن حق كل شخص أن يفهم وفقًا لرؤيته الشخصية ويستنتج ما يشاء. لا يوجد أي تفضيل لأي شخص، سواء كان ابنًا أو ابنة، في تفسير ما كان سيقوله أحمد بهاء الدين لو كان بيننا اليوم. الحكم في النهاية يعتمد على عمق الاطلاع وقرب الشخص من الفكرة.
أحمد رضوان: الحكم الذي أستند إليه هنا، أن كثافة الاطلاع وعمق الفهم من خلال القرب ستعكس الرؤية وتكون مؤثرة؟
د. زياد بهاء الدين: بلا شك، كان لوالدي تأثير كبير على تفكيري. فقد كان رجلًا شديد الانفتاح في أفكاره ومواقفه، لكن قد يدهشك أنه كان يميل إلى أن يكون الأب التقليدي في حديثه مع أسرته. لم يكن هناك مناخ يتيح الحديث بحرية كما يحدث اليوم بين الأجيال. تأثرت به بشكل عميق، وأنا ممتن لذلك، لكن تأثيره كان أكثر عبر الملاحظة والمشاهدة، وليس من خلال الحوارات والنقاشات المفتوحة.
كان لوالدي تأثير كبير على تفكيري فقد كان رجلًا شديد الانفتاح في أفكاره ومواقفه
ياسمين منير: دعنا نتناول موضوع التعليم وتأثيره عليك. كيف أثر التعليم في مراحل حياتك المختلفة على اختيار تخصصك؟ هل كنت دائمًا ترى نفسك مهتمًا بأن تصبح اقتصاديًا وقانونيًا، وملتزمًا بقضايا الاستثمار منذ سن مبكرة؟
د. زياد بهاء الدين: إن التعليم كان له تأثير كبير على مسيرتي، ولكن لم يكن هناك أي نوع من الإكراه أو الضغط في هذا السياق. ما أود أن أوضحه هنا هو أن الأمر يتعلق بالحرية الشخصية في اتخاذ القرارات. خلال فترات من حياتي، كان لديّ طموح أن أصبح طبيبًا أو مهندسًا، ووالدي لم يكن لديه أي تحفظات بشأن تلك الرغبات. وعندما قررت أخيرًا الالتحاق بكلية الحقوق مع دراسة الاقتصاد بشكل متوازي، كان ذلك خيارًا مقبولًا تمامًا. فقد كانت الرسالة التي تلقيتها منه واضحة تمامًا: «هذا اختيارك، وأنت المسؤول عن تبعاته”.
التعليم كان له تأثير كبير على مسيرتي.. ووالدي لم يكن لديه أي تحفظات بشأن اختياراتي
أما بالنسبة للإعلام، فقد بدأت كتابة بعض المقالات في وقت مبكر من حياتي، حتى قبل أن يواجه والدي مرضه. كان يلاحظ ما أكتبه، ويعبر عن تقديره لذلك، وأحيانًا كان يعلق على بعض كتاباتي، مما كان له تأثير إيجابي على ثقتي بنفسي. لكنه كان يحمل نظرة خاصة تجاه الإعلام، حيث كان يعتبره مهنة شاقة وصعبة.
ياسمين منير: إذًا، يبدو أنك تتحدث من قلب الحدث!
د. زياد بهاء الدين: كان ينصحني بأن أمارس الكتابة كهواية وليس كمسار مهني رئيسي. لقد كان على دراية برغبتي في أن أصبح محاميًا أو اقتصاديًا، ولذلك شدد على أهمية عدم التفريط في تركيزي على مجالات دراستي الأساسية. كان يؤكد لي أن الإعلام ليس مسارًا سهلاً، بل يحتاج إلى مجهود كبير.
بدأت كتابة بعض المقالات في وقت مبكر من حياتي.. وتعليقات والدي كان لها تأثير إيجابي على ثقتي بنفسي
رضوى إبراهيم: سؤالي سيكون بسيط، وهو يتعلق بالشخصية المميزة للدكتور زياد بهاء الدين، الذي يتمتع بسمات المعارض المهذب. في الحقيقة، نادرًا ما نجد شخصًا يتمتع بالموضوعية والصدق والاحترام في مواقفه. من هي الشخصية الأخرى التي أثرت في رحلتك بجانب والدك الراحل؟
د. زياد بهاء الدين: بالطبع، لا يمكنني أن أغفل تأثير والدي، رحمة الله عليه. كان يتمتع بصوت هادئ، ولم يكن يصرخ أبدًا. ولذا، فإنني انتبهت لفكرة عامة تتجاوز شخصه، وهي أنه في الغالب عندما تكون الغرفة مليئة بالناس الذين يتحدثون ويصرخون، فإن دخول شخص يتحدث بصوت منخفض وعاقل يجذب الانتباه ويقلل من مستوى الفوضى في المكان. من هنا، أدركت أن الصوت الخافت قد يكون أحيانًا أفضل من الصراخ، وهذه فكرة أستند إليها في الكثير من المواقف.
أحمد بهاء الدين كان يميل إلى أن يكون الأب التقليدي في حديثه مع أسرته.. وتأثيره كان أكثر عبر الملاحظة والمشاهدة
هناك نقطة أخرى أود أن أذكرها، وهي ما قاله المستشار طارق البشري، الذي كان صديقًا لوالدي وشارك في تأسيس جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين. أذكر أنه ذات مرة أشار إلى أن والدي، عند خلافه مع شخص ما، كان يسعى دائمًا للارتقاء بمستوى الحوار. فهو لم يكن يتعامل بالمثل، إذا كان الشخص الآخر يصرخ، لم يكن ليرتفع بصوته بل بالعكس، كان يسعى لرفع مستوى النقاش. إن هذه الفكرة تبرز أهمية القدرة على الخروج من النزاعات بأدب، ورفع مستوى الحوار بدلاً من الانغماس في الفوضى، بالفعل، هذا الأمر ينطبق علي والدي.
رضوى إبراهيم: من المألوف أن نجد الناس يكملون الصراخ، مما يؤدي إلى تصاعد الخلافات والمشادات.
د. زياد بهاء الدين: بالضبط، فغالبًا ما يكون الصراخ هو السمة السائدة في مثل هذه المواقف. لذا، يمكننا أن نعتبر هذا ظاهرة تستدعي إعادة التفكير، حيث ينبغي علينا أن نخفض من حدة الأصوات ونرتفع بمستوى الموضوعات المطروحة للنقاش.
رضوى إبراهيم: إن هذه نصيحة قيمة حقًا، وأنا أقدّر ذلك بشدة.
د. زياد بهاء الدين: هناك جانب ثالث أود أن أبرز فيه، والذي يمكن أن تلاحظيه في كتابات أحمد بهاء الدين وآراءه. لقد بدأ حياته المهنية كخريج لكلية الحقوق، حيث عمل في النيابة الإدارية أولاً ثم في مجلس الدولة. وعلى الرغم من أنه ترك كل ذلك بعد أربع أو خمس سنوات وتفرغ للصحافة بشكل كامل، إلا أنني أشعر أنه لو كان قد واصل هذا المسار، لكان من المحتمل أن يصبح قاضيًا وليس محاميًا. وذلك لأن أي موضوع يُطرح كان ذهنه يتجه إلى استكشاف وجهات النظر المختلفة. ولا يبحث دائمًا عن كيفية دعم رأيه بما يمكنه التغلب على الطرف الآخر. هذه المسألة تتعلق بمحاولة البحث عن النقطة العادلة، وهي في غاية الأهمية.
رضوى إبراهيم: أشكرك يا دكتور.
أحمد رضوان: نحن ممتنون جدًا لك، فقد كان الحوار غنيًا بالمعاني، شيقًا، ومليئًا بالأفكار. لقد استمتعنا بكل لحظة.
د. زياد بهاء الدين: أشكركم جميعًا، وكل عام وأنتم بخير.
رضوى إبراهيم: نأمل أن تكون هذه بداية قوية للموسم الثاني، ونترقب المزيد من اللحظات الملهمة.
أحمد رضوان: نشكر أستاذ الدكتور زياد بهاء الدين، كما نشكر الأستاذة ياسمين، والأستاذة رضوى، ونتطلع بشغف إلى لقاء جديد في «حابي بودكاست – الرحلة».