بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط .. أُعلن هذا الأسبوع عن الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد، فكانت من نصيب الثلاثي دارون أسيموغلو وسيمون جونسون، الأستاذين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجيمس روبنسون الأستاذ في جامعة شيكاغو، وذلك لأعمالهم البحثية عن تطور المؤسسات وأدوارها في تشكيل أحوال الأمم اقتصادياً ومدى مسؤوليتها عن ثروتها وفقرها، وتقدمها وفشلها، وتفسير ما بين البلدان المختلفة من تباين في الدخول والثروات.
كما أوضحت دراساتهم الرائدة، المدعومة بتحليل منضبط للبيانات وأبحاث تطبيقية، كيف يفسِّر تاريخُ عملِ المؤسساتِ، منذ عهود الاستعمار الاستيطاني وبعدها، ما آلت إليه اليوم أوضاع بلدان متقدمة ونامية ومتخلفة اقتصادياً. فالدول التي طوَّرتْ مؤسسات شاملة للجميع برعايتها لتحمي حقوق الملكية ودعمت المشاركة الاقتصادية والمنافسة، مهَّدتْ السُّبُلَ لِنُمُوٍّ وَرَفَاهِيةٍ أَطْوَلَ أَمَداً.
أما المجتمعات التي لم تشهد إلا مؤسسات متحيزة لنخب مختارة من ذوي الحظوة والنفوذ ومحاسيبهم، فمنحتهم من التسهيلات والاستثناءات ما منحت من فرص للإثراء السريع، وضيَّقتْ المناخَ الاقتصاديَّ العام، وتركت لعموم الناس الفُتاتَ وَأَغْرَتْهُمْ بِوُعُودٍ برخاء لم يكن ليتحقق، فقد انتهى بها الأمر إلى الفشل.
ويفسر اختلاف المؤسسات وحوكمتها بين نوع حميد معزِّز للنمو ومساند للتنمية بفاعليتها وشمولها، ونوع خبيث يقتلع الموارد والثروات وييسِّر نهبها، مسارات تقدم أمم وانهيار أخرى اقتصاديّاً، رغم انتمائها المشترك جغرافيّاً وثقافيّاً. وهو ما استعرضه الاقتصاديون في كتابين؛ الأول بعنوان «لماذا تفشل الأمم؟» اشترك في تأليفه أسيموغلو مع روبنسون، وصدر في عام 2012، والآخر بعنوان «القوة والتقدم»، ألَّفه أسيموغلو مع جونسون، الذي صدر في عام 2023.
وفي حين يظهر جلياً تحمس الكتّاب الثلاثة للنهج الديمقراطي وإسهامه في تحقيق التنمية من دون أي التباس على الأجل الطويل، إلا أنهم لا يعدّون الديمقراطية إكسيراً ناجعاً في كل الأحوال. ذلك لما قد يعتري العملية الديمقراطية من ارتباك وقصور في تعبئة الموارد سريعاً لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود. ولكنهم يؤكدون أن النمو من خلال نظم استبدادية، قد ينزع لعدم الاستقرار ويعاني من التقلب ومحدودية الابتكار.
على النحو المقابل لنهج أصحاب «نوبل» الثلاثة، هناك آراء تناقش مدى مسؤولية عوامل أخرى عن تحقيق النمو والتنمية، منها أن المناخ الثقافي السائد له اعتبار عملي لم يأخذ حقه في التحليل. كما أن دور القيادة وتوجهاتها لا يمكن إغفالها في مسيرة التقدم والتغلب على مربكاته وصدماته.
وفي الممارسة المعاصرة هناك شواهد على دور قيادات استثنائية في الإعمار والتطوير والتنمية، وأدوارٍ لأشخاصٍ آخرين من الرُّعْنِ الحمقى ابْتُليتْ بهم مجتمعاتهم في الشرق والغرب على مدار التاريخ فدمَّروها بمغامراتهم. ويكون الرد على ذلك بأن دور القيادة الاستثنائية لن يستمر في نهج الإصلاح، وتحقيق التراكم، بخاصة بعد زوال الحكم عنها، إلا بما تؤسسه في المجتمع من كيانات حامية للحقوق وحافظة للحريات. كما أنه بلا مؤسسات تمارس الحوكمة الرشيدة، لن يوجد رادع للطغيان والاستبداد، أو تصويب المسار.
وقد تظهر المؤسسات بأشكال شتى ولكن بلا مضمون فتذكِّركَ بأعجاز النخل الخاوية. ونرى من هذه المؤسسات ما هو قائم على عروشه القديمة على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية والمحلية بمسميات فخمة وصلاحيات ضخمة، ولكن بلا كفاءات أو مهارات تواكب العصر ومستجداته. فتُمسي هذه المؤسسات كالديناصورات، تمضي غير عابئة في سلوكها القديم، غير مدركة أنها في عالم شديد التغيُّر. فإذا حَدَّثْتَهَا عن فرص الاستدامة وتجديدات تغيرات في المناخ أنكرت وجودها. وَإِنْ هِيَ بشرت بمستجداتِ التكنولوجيا والتحول الرقمي بالغت في آثارها السلبية قصيرة الأجل، وَهَوَّنَتْ من آثارها الإيجابية طويلة الأجل على الإنتاجية والتنافسية. وبهذا تتهالك المؤسسات عقيمة التجديد، ولا تقتصر مغبة تهالكها عليها وحدها، بل تجرُّ الاقتصاد والمجتمع معها جراً إلى فخاخ التخلف.
وفي حجرات هذه المؤسسات وقاعات اجتماعاتها يطرأُ بإلحاحٍ في وصفِ حَالِهَا تَعْبِيرٌ عَنِ المتجاهلين لسبل التصدي لتحديات وأزمات كبرى، ولكنَّ القابعين في هذه المؤسسات ينزعون إلى تجاهلها عمداً، فيما يُعرف بـ«الفيل في الحجرة». وهو تعبير جاء على لسان الشاعر الروسي إيفان كريلوف في القرن التاسع عشر، عن زائر لمتحف طافَ بكل مقتنياته فوصفها جميعاً، ولكن تاهَ عنه وصف الفيل الكبير الذي يتصدر مدخل المتحف.
وفي عالمنا لا يمكن بحال ادِّعاء عدمِ رؤيةِ أفيالٍ من التداعيات الكبرى للأزمات الراهنة الأمنية والسياسية والاقتصادية، كالديون والغلاء والبطالة وتأثيراتها في حياة الناس، وأسباب معيشتهم. فيما فَسَّرْتُهُ من قبل في مقال سابق عن «الأزمات المتزامنة والمستمرة التي حلَّت بالعالم، فأربكت أولويات التعامل معها، وباتت باعثة على الضيق من إجراءات التصدي لها. ومع الاعتياد على وجودها تنتشر مظاهر للتهاون في احتوائها، ويزداد الركون إلى الظنون بديلاً عن الاحتكام إلى الحقائق والاستعانة بالعلم».
إن فوز الاقتصاديين الثلاثة، أسيموغلو وجونسون وروبنسون، بأرفع تقدير في مجال الاقتصاد، جاء عن جدارة وعمل شاق، يضع العلم وأهله في موضعهم المستحق. وفوزهم مناسبة لمناقشة آرائهم ودراسة أعمالهم والحوار حولها في دوائر العلم والثقافة وصنع السياسات.
وتبقى مقولة الاقتصادي البريطاني الأشهر جون ماينارد كينز، محل اعتبار عمّا يستتبع آراءهم ونظرياتهم من تطبيق فعلي في الحياة العملية. ولتتأمل عبارة كينز ذات المغزى: «إن أفكار الاقتصاديين وفلاسفة السياسة، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، أكثر عمقاً مما هو مفهوم منها. حقاً، العالم يُحْكَمُ بقليلٍ من شيء آخر غير هذه الأفكار».