في ثالث حلقات الموسم الثاني من برنامج الرحلة: د. هاني سري الدين: تحديات الاقتصاد لا تزال متشابهة ومتشابكة
ضرورة التركيز في المقام الأول على خلق موارد بالنقد الأجنبي
في لقاء ثري امتد لقرابة الساعتين.. استضاف حابي بودكاست في ثالث حلقات الموسم الثاني من برنامج الرحلة، الدكتور هاني سري الدين رئيس لجنة الشؤون المالية والاقتصادية والاستثمار بمجلس الشيوخ، المؤسس والشريك المدير لمكتب سري الدين وشركاه للاستشارات القانونية.
ناقش اللقاء عددًا مهمًّا من قضايا الاقتصاد المصري، وتطرق إلى نظرة د. سري الدين للكثير من التحديات الراهنة، وتقييمه لأداء بعض قطاعات الاقتصاد ومنها السياحة والصناعة والعقارات، والاستثمار بشقيه المحلي والأجنبي. كما تناول اللقاء جانبًا مهمًّا من رحلة د. سري الدين.
شهد اللقاء حديثًا مفصلًا حول تحديات الديون وسعر الصرف وجذب الاستثمار والمنافسة بين الحكومة والقطاع الخاص، كما تطرق إلى الجوانب التشريعية المنظمة لسوق الاستثمار، وتقييمه لعدد من الأحداث والتطورات المهمة التي شهدتها مصر في الفترة الأخيرة، ومن بينها صفقة رأس الحكمة.
وإلى تفاصيل اللقاء
أحمد رضوان: أهلًا وسهلًا بحضراتكم في لقاء جديد من برنامج الرحلة – حابي بودكاست، نستضيف في هذه الحلقة أحد القامات الاقتصادية والمالية والقانونية الكبيرة، ضيفنا صاحب رحلة كبيرة زاخرة بالخبرات والمهام وهو الدكتور هاني سري الدين، رئيس لجنة الشؤون المالية والاقتصادية والاستثمار بمجلس الشيوخ، والمؤسس والشريك ومدير مكتب سري الدين وشركاه للاستشارات القانونية، وهو أيضًا أستاذ بكلية الحقوق جامعة القاهرة ورئيس هيئة سوق المال الأسبق.
د. هاني سري الدين: أهلًا بكم وسعيد بمسيرتكم الجميلة، وأتذكر أن معرفتي برضوى وياسمين تعود إلى حينما كانتا تدرسان في الجامعة.
أحمد رضوان: بالفعل حينها كانت ياسمين ما زالت في الجامعة.
رضوى إبراهيم: كنت تخرجت حديثًا وقتها.
د. هاني سري الدين: في الحقيقة مشوار جميل وأتابعكم دائمًا وأُهنئكم على ما وصلتم له.
أحمد رضوان: نشكرك على وقتك الثمين الذي ستقضيه معنا ونتمنى أن تكون أسئلتنا خفيفة على قلبك.
د. هاني سري الدين: المهم أن تكون إجاباتي خفيفة عليكم.
أحمد رضوان: دعنا نبدأ اللقاء بسؤال عام حول الاقتصاد بنظرة كلية.. هل بعد البرامج التي أطلقتها الحكومة والإصلاحات والاتفاقيات المرتبطة بالتمويل وبرامج الإصلاح، اختلفت المشاكل المرتبطة بالاقتصاد في الفترة الحالية عن المشاكل التي كانت موجودة منذ 5 سنوات ماضية، في سياق الحديث عن نقص موارد العملة والمشاكل المرتبطة بحرية عمل القطاع الخاص والتحديات التي تواجه ومنافسة الحكومة ومناخ الاستثمار بصورة عامة، هل هذه المشاكل تغيرت أم ما زالت هي نفسها؟
د. هاني سري الدين: في الحقيقة التحديات لم تتغير كثيرًا، فبالطبع الأوضاع الاقتصادية العالمية والأوضاع السياسية متغيرة، ولكن التحديات لا تزال متشابهة ومتشابكة.
وبالتالي نحتاج أن ننظر إلى المستقبل، في ظل أن مشكلة الموارد النقدية بالعملة الأجنبية ما زالت هي المعضلة الأساسية، فضلًا عن أن الدولة لديها التزامات كبيرة خاصة فيما يتعلق بالغاز والمواد البترولية، إذ إن فاتورتها ضخمة وقد تصل إلى 30 – 35 مليار دولار.
ولا توجد حلول معالجة لتضخم فاتورة المواد البترولية إلا من خلال الموارد النقدية، وهذه الموارد لن تأتي إلا من خلال الاستثمارات وتدفقات النقد الأجنبي وتعزيز الصادرات، أعتقد أن كل الناس تعرف هذه الحلول.
التصدير والسياحة مصدران أساسيان للعملة
هذا بالإضافة إلى الموارد السياحية، وأؤكد أن التصدير والسياحة مصدران أساسيان للعملة.
السياحة ربما تتمتع بفرص أكبر رغم تعرضها لتقلبات كثيرة
وأرى أن السياحة ربما تتمتع بفرص أكبر على الرغم من تعرضها لتقلبات كثيرة، ولكن معظم مدخلات السياحة بالعملة المحلية، وبالتالي زيادة عدد الغرف الفندقية تمنح هذا القطاع فرصًا كبيرة للنمو.
زيادة الغرف الفندقية تمنح السياحة فرصًا واعدة
ويتعين التركيز في المقام الأول على خلق موارد بالنقد الأجنبي خلال الفترة المقبلة، وأعتقد أن هناك خبراء كثيرين في هذا المجال يتحدثون مع الحكومة في المرحلة الحالية عن أهمية هذا الملف.
كما يجب الاستعانة بخبرات دول كثيرة في ملف السياحة، ومنها تركيا التي تحقق اليوم نحو 45 مليون زائر سنويًّا، والإمارات العربية المتحدة تجاوزت الـ 25 مليون زائر وإسبانيا 70 مليون زائر.
أوضاع اليونان شبيهة لمصر وتستقبل 30 مليون سائح سنويًّا
وسأتحدث هنا عن اليونان التي تعتبر أوضاعها شبيهة لمصر، حيث كانت تستقبل 6 – 7 ملايين زائر قبل عام 2010، أما اليوم فتحقق 30 مليون زائر سنويًّا بدعم من استغلالها طفرة التنمية العقارية الموجودة.
ولذلك أرى أن مجال السياحة يتمتع بفرص كبيرة، فضلًا عن مجال التصدير.
وأعتقد أنه يتعين للخروج من جزء من هذه المشاكل التركيز على السياحة والتصدير.
إلا أنه قد يكون هناك بعض العقبات بسبب عدم وضوح الإستراتيجيات في هذه المجالات، ولكن أعتقد أنه يجب التركيز على هذه الملفات خلال الفترة المقبلة، مع تغافل الأسباب نظرًا لأنه ليست هناك بدائل كثيرة أخرى غير تعظيم الإيرادات من العملة الأجنبية.
وأرى أن البنك المركزي مهما وضع من سياسات نقدية لن تؤتي الثمار المطلوبة، دون وجود سياسات مالية وسياسات استثمار وتدفقات بالنقد الأجنبي ومعالجة ميزان المدفوعات والتقليل من الاستدانة بالديون الخارجية وهذا الملف من الملفات المهمة، تستطيع أن “تجر خطًّا» وتتعامل مع الوضع الحالي، وأعتقد كثير من الناس تردد هذا الكلام “جر خط” لأن الدولة تمر بمراحل سياسية صعبة وترغب في إعادة استقرارها وتعيد البنية الأساسية التي توقفت لفترة طويلة.
لا ألوم أو أُدافع إن كانت هناك ضروريات واحتياجات ومتطلبات فرضت نفسها، ولكن لدينا الآن مشكلة صعبة يجب التعامل معها.
الدولة عالجت مشاكل كثيرة.. لكن ارتفاع فاتورة الدين الخارجي من أبرز السلبيات
لا شك أن الدولة عالجت مشاكل كثيرة جدًّا، خاصة مع زيادة عدد السكان وضعف البنية الأساسية التي كانت موجودة، فضلًا عن مشاكل الكهرباء والطرق، بالإضافة إلى فكرة أن يكون للدولة دور فاعل وتعود بقوة.
في الحقيقة تم إنجاز الكثير، ولكن بالتأكيد مثلما كان هناك أمور إيجابية كان هناك أيضًا بعض السلبيات، ومنها ارتفاع فاتورة الدين الخارجي، فضلًا عن مشاكل مرتبطة دفعت إلى زيادة الاستثمارات العامة على حساب الاستثمارات الخاصة، وبالتالي قل حجم الاستثمارات الأجنبية.
التشابك بين القطاع العام والحكومة أدى إلى تضاؤل فرص القطاع الخاص
هذا بالإضافة إلى أن التشابك ما بين القطاع العام والحكومة مع القطاع الخاص أدى إلى تضاؤل فرص القطاع الخاص وصعوبة المنافسة له، فهذه المشاكل باتت موجودة ويتعين معالجتها في المستقبل للخروج من الأزمة الحالية.
ياسمين منير: دكتور هاني بالطبع الرهان كبير جدًّا على المجموعة الوزارية الاقتصادية، ولكن من المبكر أن نحكم على الأداء، وفي الوقت نفسه نود أن نعرف ما هي البنود المؤثرة في تقييم أداء المجموعة الاقتصادية، وبناءً على هذه البنود ما هو تقييمك المبدئي لها خلال الفترة الماضية؟
د. هاني سري الدين: من السهل جدًّا التنظير على الآخرين ومحاسبتهم، ومسألة تقييم أعضاء الحكومة «أمر سهل» ولكن في الحقيقة الوضع مختلف تمامًا، وهناك تحديات حقيقية نعيشها ويتعين العمل عليها.
معدلات الفقر مرتبطة بالتشغيل والتعليم.. والحل في زيادة الاستثمار
ففي سياق الحديث عن الموضوع الخاص بمعدلات الفقر، إذ إنها زادت ولم تقل خلال الفترة الماضية، فهذا الملف ستتم معالجته من خلال قضية الدعم محل العمل عليها حاليا، ومن خلال زيادة البرامج الاجتماعية الموجودة، ويتعين زيادة الاستثمارات لأن في النهاية الفقر مرتبط بعنصرين أساسيين، وهما التشغيل والتعليم.
فقدنا فرصة ذهبية لتحسين وضع التعليم الأساسي
كما يجب الاهتمام بملف التعليم، وأعتقد أننا فقدنا فرصة ذهبية أيضًا لتحسين وضع التعليم الأساسي.
تحقيق التنمية يتطلب النمو والتغيير إلى الأفضل
لا أرغب في أن تغيب هذه القضايا عن اهتماماتنا، لأن في النهاية تحقيق التنمية يتطلب النمو والتغيير إلى الأفضل، وهذا التغيير يكون في مجالات التعليم والصحة والبنية الأساسية، ولكن من أين سيتم خلق سيولة مالية للإنفاق على هذه المجالات؟ ولذلك يجب تعظيم الإيرادات من خلال زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية، فهذا ملف رئيسي.
تعظيم الإيرادات من خلال زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية «ملف رئيسي»
كما يتعين زيادة الصادرات وتطوير التنمية السياحية، نظرًا لأنه يتعين زيادة الاستثمارات الخاصة، وبالتالي حتى تستطيع الدولة توجيه جزء من هذه الإيرادات في الملفات المهمة بدلًا من أن جزءًا كبيرًا منها يخصص للديون الخارجية أو في استثمارات، في حين أنه من الممكن أن ينفذها القطاع الخاص.
الصحة والتعليم ومحاربة الفقر.. ملفات في غاية الأهمية
وأؤكد أن ملفات الصحة والتعليم ومحاربة الفقر في غاية الأهمية.
محاربة الفقر وسياسات التصدير أبرز العناصر المؤثرة في تقييم الأداء الحكومي
وبإيجاز شديد أرى أن أهم العناصر المؤثرة في تقييم الأداء الحكومي هي: أين وصلت الحكومة في معدلات محاربة الفقر؟ وما هي السياسات المتبعة فيما يتعلق بملف التصدير والتنمية السياحية؟، فهذان الملفان في غاية الأهمية بجانب ملف الاستثمار.
ياسمين منير: في ضوء المعلن هناك سياسات كثيرة تم الإعلان عنها من التي ذكرتها في حديثك.
د. هاني سري الدين: بالفعل هناك مجهودات تم اتخاذها، ولكن لا نزال لم نر إستراتيجيات واضحة ولا توجد أيضًا متابعات لتنفيذها، وفي الحقيقة أتابع المجهودات المتخذة بحكم عملي، ولكنني أرى أن الأوضاع ما زالت غير واضحة.
لم نر إستراتيجيات واضحة أو متابعات لتنفيذها
كما أرى ضرورة وجود خطوط واضحة جدًّا، وأُنبه إلى أن إطفاء الحرائق وحل المشكلات أمر طيب وجيد جدًّا، وله مردود إيجابي، لكن في النهاية ليس هو الحل المطلوب.
نحتاج إلى حلول مؤسسية وأن تكون الأهداف معلنة بمدد تطبيقها
ياسمين منير: نحتاج إلى حلول جذرية؟
د. هاني سري الدين: نحتاج إلى حلول مؤسسية، مثلما قلت وضوح السياسات والمسؤوليات والأهداف، وأن تكون معلنة بمدد تطبيقها.
دائمًا أحكي قصة أنه في أحد اللقاءات مع أحد رؤساء البنك الدولي، طرحت سؤالًا عن أهم التجارب التي رآها ناجحة، حيث ضرب أمثلة عديدة على ذلك ومنها تجربة روندا، وقال إن الحكومة تضع مجموعة من المحددات منذ اليوم الأول، على أن تقوم كل وزارة بعملها حسب اختصاصاتها.
أما المحددات في مصر فهي رفع الاستثمارات لحل مشاكل خاصة بملفات معينة، وفي نهاية كل عام أو مع نهاية كل ربع سنة تحاسب الحكومة بناء على الإنجازات المحققة، مع تكرار المتابعة مثلما يحدث في الشركات الخاصة والمؤسسات العالمية.
منهج المتابعات الدورية غير واضح في العمل الحكومي
أعتقد هذا المنهج ما زال غير واضح في العمل الحكومي، وأرى أنه يحتاج إلى مراجعته. وأقصد هنا السياسات الاقتصادية والاجتماعية على وجه التحديد.
رضوى إبراهيم: أُجدد الترحيب بحضرتك، وأود أن أنتقل إلى صفقة رأس الحكمة في حدود المعلومات المتاحة. في الحقيقة رأينا إشادة كبيرة من الحكومة والقطاع الخاص، وترحيب أيضًا من رموز اعتدنا احتسابها على أصوات المعارضة. الجميع اتفق على أهمية صفقة رأس الحكمة، ولكن في ضوء المعلومات المتاحة ما هي نظرتك تجاه الحلول التي استطاعت أن تقدمها هذه الصفقة؟ خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تشهدها مصر خلال الفترة الراهنة؟.. وبالنسبة لطريقة التعامل مع الموارد التي وفرتها الصفقة، كيف ترى الأسلوب الأمثل؟
د. هاني سري الدين: قلت رأيي في وقتها، وما زلت أكرره، حيث أرى أن هذه الصفقة من أفضل الصفقات التي تمت في مصر على مدار 10 أو 20 عامًا ماضية.
رأس الحكمة من أفضل الصفقات في آخر 20 عامًا.. وتبعث رسالة إيجابية بدعم من مشروعها التنموي
لماذا أقول ذلك؟ لأن مصر تحتاج هذا الحجم من الاستثمارات الأجنبية الاحترافية التي تساهم في توفير وظائف وتشغيل الشركات الخاصة.
مثلما رأينا من أيام قليلة تم توقيع شراكات مع شركات مصرية كبيرة، وهو ما سيساهم في زيادة عدد العاملين ويوفر البنية الأساسية.
أمر آخر.. أي مستثمر يرغب في نجاح مشروعه، فبالتالي سيقدم أفضل الحلول وأفضل نظام للتسويق، كما سيوفر البنية الأساسية على مستوى عال، بجانب نظام الإدارة.
وأرى أن هذه الصفقة تبعث رسالة إيجابية للغاية، لأنها مشروع تنموي متكامل، من مطار وطرق وكباري وجامعات ومدارس، أي مدينة أو دولة في هذه المنطقة، ولذلك أنا سعيد جدًّا بهذه الصفقة.
المخاوف من الاستثمارات الإماراتية مبنية على تصورات غير منطقية
ومن ناحية أخرى، مخاوف الناس من الاستثمار الأجنبي أو الاستثمارات الإماراتية أو غيرها من الدول العربية.. أود أن أُنبه إلى أن هذه المخاوف مبنية على تصورات غير منطقية، كما أرى أن الخوف من عمليات تحويل الأرباح إلى الخارج لا يستند إلى المنطق، لأن هناك تدفقات نقدية يتم ضخها في البلاد، أما تحصيل العوائد فيتم بعد مدد زمنية طويلة تصل إلى 20 و30 عامًا.
وفي الحقيقة أرى ضرورة النظر إلى فرص تشغيل العمالة المصرية التي سيتم توفيرها، فضلًا عن الطفرة التي ستحدث في هذا النوع من المشروعات، أيضًا سيستفيد قطاع واسع من الأسر من هذه النقلات.
رأس الحكمة ستزيد المنافسة في مشروعات أخرى مماثلة
كما ستعزز هذه الصفقة حجم الضرائب، وسترفع القيمة المضافة ومستوى كفاءة المرافق، وستزيد المنافسة في مشروعات أخرى مماثلة.
فكل هذه المزايا أهم لديّ بكثير من أن رقمًا أو أموالًا ضخت لحل أزمة آنية في ذلك التوقيت، وذلك لأنني أنظر إلى الـ 10 – 20 عاما المقبلة، وأتمنى أن أرى مشروعات كثيرة من هذا القبيل.
رضوى إبراهيم: بالنسبة للتعامل مع الموارد التي أتاحتها هذه الصفقة؟
د. هاني سري الدين: كان لدينا أزمة آنية من سداد القروض والالتزامات المالية الحالية، ولذلك أقول إن الأهم بالنسبة لي ما أتاحته هذه الصفقة من فرص، وحتى إذا كانت الحكومة وجدت نفسها في حالة ضرورة لإبرام هذه الصفقة ففي الحقيقة نشكر حالة الضرورة على هذا.
وذلك فإن العشرين عامًا المقبلة هي الأهم، هذا بالإضافة إلى أنه ترددت أحاديث عن إقامة مركز مالي بقوانين دولية أو بقانون يشمل الجميع.
وأؤكد أن كل ذلك لا يخيفنا، لأنه في النهاية سيكون موجودًا كرقيب على هذه المشروعات داخل مصر، كما سيكون لديه القدرة على الإدارة، وأشدد على أن المردود الإيجابي سيكون أكثر مليون مرة من أي مردود سلبي يتم التخوف منه.
وفي الوقت نفسه، أدعو إلى معرفة الأمور التي يتخوف منها الناس، مع فتح حوار مجتمعي بحضور الحكومة.
لدينا أزمة حقيقية في التواصل السياسي من جانب الحكومة مع الإعلام
رضوى إبراهيم: هل تعتقد أنه إذا كان حجم المعلومات المتاحة للعامة أكبر سيخلق حالة الطمأنينة تجاه هذه الصفقة بشكل أكبر؟
د. هاني سري الدين: لدينا أزمة حقيقية، ودائمًا أقولها: إن التواصل السياسي من جانب الحكومة مع الإعلام يعاني من مشكلة من حيث البيانات الرسمية ونماذج الإفصاح، حتى عندما تم التحدث عن صفقة رأس الحكمة تمت المقارنة بين البيان الذي صدر من الإعلام المصري والبيان الذي صدر من الإمارات.
بالرغم من أن البيان الصادر من الإمارات بخصوص صفقة رأس الحكمة كان مختصرًا، لكنه ضم الكثير من التفاصيل عن حجم المشروع، ومدة تنفيذه، وتوصيفاته وأطرافه.
ونعاني في مصر من مشكلة بطريقة الإفصاح، ولكني أتساءل: هل يحدث ذلك نتيجة موروث سياسي، أو ثقافي؟ فالجميع لا يريد أن يدلي بتصريحات قد تحدث تأثيرًا على قطاعات أخرى، أو يصدر بيانًا خارج حدود مسؤولياته، أو قد يتسبب في مساءلته إذا ذكر أرقامًا في تصريحاته أو بيانه.
ولذلك فهناك شيء ما يجب أن تتم معالجته في عملية التواصل السياسي والإعلامي، وطريقة كتابة البيانات، فأحيانًا نجد أن طريقة التوصيف قديمة وغير مفيدة، قد تثير أسئلة بدرجات أكبر من الرد عليها، ولذلك يجب النظر في هذه الجزئية.
أحمد رضوان: بعيدًا عن صفقة رأس الحكمة التي أعتقد أن هناك شبه اتفاق على أن لها ظروفًا وطبيعة خاصة، بداية من التفاوض عليها وحتى إتمامها في إطار حل مشكلة مصر الاقتصادية.
من وجهة نظرك، ما هي التحديات الأساسية في أساليب وأدوات جذب الاستثمار الأجنبي الحر الذي يأتي رغبة في الاستثمار، وليس الاستثمار المرتبط بالصناديق السيادية ويحدث نتيجة اتفاقيات حكومية؟
وهل الحلول التي يتم دائمًا الحديث عنها، والمتعلقة بالحوافز أو التعديلات التشريعية وغيرها تتميز بطابع الاستدامة التي تمكنا من توقع حركة الاستثمار الأجنبي القادم إلى مصر؟ أم أنها مسكنات وحلول مؤقتة للأزمات؟
د. هاني سري الدين: في البداية، مصر لديها مقومات ضخمة نابعة من سوقها الضخم جدًّا، وبنيتها الأساسية التي أصبحت متكاملة وقوية، كما أنها تمتلك سوق عمل جيدة جدًّا.
ونود هنا الحديث عن سوق العمل، خاصة بعد انتشار ظاهرة في المرحلة الحالية تتمثل في خروج الكثير من الكفاءات من فئة الشباب وأصحاب الخبرة من مصر.
زيادة الاستثمارات السبيل الوحيد للحفاظ على الكفاءات داخل مصر
فالسبيل الوحيد للحفاظ على هذه الكوادر، هو زيادة الاستثمارات، والمشروعات، والدعم المقدم إلى الاستثمار الخاص.
فلدينا سوق عمل تستطيع أن تستوعب كل هذه الفئات، ومقومات حقيقية، فضلًا عن الجوانب التاريخية، والأراضي والموانئ، والمطارات.
ضعف المؤسسات الحكومية السبب وراء غياب الإدارة المثالية للموارد
فمصر تواجه مشكلة في إدارة هذه الموارد الطبيعية بالطريقة الأمثل، نتيجة لضعف المؤسسات الحكومية، ونود التنوية بأن الحديث عن هذا الموضوع يغضب البعض في مصر.
ولكن أكرر أننا نعاني من ضعف المؤسسات الحكومية، ووجود جزر منعزلة، وبيروقراطية شديدة جدًّا، وتعدد وتعارض بين الاختصاصات.
وأيضًا هناك إدارات أحيانًا من يملك القرار بها غير مسؤول، والمسؤول بها لا يملك قرارًا، فإذا أرادوا مواجهة ذلك فنحن مستعدون، وإذا كانوا يفضلون عدم الحديث عنها، فلهم ذلك.
مواجهة ضعف المؤسسات والبيروقراطية جزء من الإصلاح المؤسسي
ولكن هذه الملفات مرتبطة بالإصلاح المؤسسي التي يجب النظر إليها، لأنها جزء من البيروقراطية المصرية والمشكلات، وصعوبة اتخاذ القرارات، وتقديم الحلول.
فالبيروقراطية، وضعف الإطار المؤسسي جزء من المشكلة التي يجب حلها، كطول مدة إصدار التراخيص وتضارب القرارات، كوقف تراخيص المباني لعلاج مشكلة محدد كالعشوائيات، وعلى الجانب الآخر يترتب على ذلك تأثر المصانع، ومشروعات التطوير السكني والإداري.
ولذلك لا بد من النظر لهذه الأمور بشكل كلي ومتكامل عبر تنسيق بدرجة أكبر، للقضاء على البيروقراطية والضعف المؤسسي، وقد يبدو الكلام نظريًّا لكنه حقيقة.
أحمد رضوان: هل المنافسة مع الحكومة أحد عناصر ضعف الاستثمار؟
د. هاني سري الدين: الاستثمارات الخاصة استحوذت على نسبة 70% والعامة 30% في عام 2010، بينما أصبحت تتراوح بين 65% إلى 70% للقطاع العام لظروف قاهرة.
وندرك أنه لا يمكننا الوقوف أمام ذلك مكتوفي الأيدي حتى تأتي الاستثمارات الخاصة، فلا بد من توفير فرص عمل للناس، واستمرار عجلة الإنتاج، وكل هذه الأشياء طيبة، ولكنها لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية.
فهناك حقائق تشير إلى أن الحصول على رخصة مصنع لجهة حكومية قد يستغرق شهرًا أو اثنين، مقابل 4 أو 5 سنوات للقطاع الخاص، وهنا المساواة التي تعد من أسس المنافسة غير موجودة، وكذلك الأمر من عدم المساواة في تراخيص المباني، أو التراخيص التشغيل.
أحمد رضوان: ماذا عن الأعباء على القطاعين العام والخاص؟
د. هاني سري الدين: بكل صدق قضية الأعباء غير واضحة بالنسبة لي، فلا أعلم إذا كان هناك أعباء ضريبة أم لا، ولكن الحديث عن أعباء التكلفة، لأن الضرائب قد يتم دفعها من الطرفين خاصة إذا كانت تأخذ شكل شركة تجارية.
لكن أعباء التكلفة المرتبطة بالأرض، أو التسعير أو غيره فلا أعلم إذا كانت متساوية أم لا، فهناك الكثير من الشكاوي.
المساواة بين القطاعين العام والخاص نقطة البداية لتحقيق عدالة المنافسة
فالمساواة هى نقطة البداية لتحقيق المنافسة، ولذلك لا بد من التوضيح لماذا يحصل القطاع الخاص على رخصة في 4 أو 5 سنوات، ويجب حل هذه المشكلة.
فلا بد أيضًا أن تكون المعاملة بين القطاعين الخاص والعام متساوية، ومن وجهة نظر أنها أحد أهم العوامل التي تحتاجها الدولة لتشجيع القطاع الخاص.
وأحيانًا القطاع الخاص يقوم على أن هناك عدم مساواة فيما يتعلق بالسوق المحلية، لأن الجهات الإدارية والحكومية تتعامل بشكل أكثر راحة مع هذه المصانع والشركات العامة على حساب الأخرى.
أصبحنا جزرًا منعزلة ومتناحرة في الاختصاصات
وأحيانًا أيضًا يكون هناك تخبط في القرارات ويترتب على ذلك خلق أزمات من لا شيء، كمنع سلعة معينة فيؤثر على منتج مطلوب أو سلعة أخرى، ولذلك يجب التوقف عن نظرية الجزر المنعزلة، فقد أصبحنا أحيانًا جزرًا منعزلة ومتناحرة في الاختصاصات.
فإذا أردنا الحديث بوضوح وأمانة فلا بد من العمل على هذه الملفات وإيجاد حلول لها.
رضوى إبراهيم: هناك سنوات ضاعت في سبيل تحديد جهة الولاية على تخصيص الأراضي.
د. هاني سري الدين: وما زالت.
ياسمين منير: دكتور هاني، أود أن أعود معك خطوة إلى الوراء قبل النقطة التي أثرتها، وأرغب في مناقشة مسألة توسع الحكومة في الاستدانة من أجل تمويل مشروعات البنية التحتية. لقد اتفقنا على أن تلك المرحلة كانت تستدعي هذا التوجه، وكان له فوائد متعددة في العديد من الجوانب، وكان مبررًا بالنظر إلى الظروف السائدة آنذاك. ولكن هنا يبرز السؤال: هل كان هذا الأسلوب هو الأمثل بالفعل لتحقيق الأهداف؟ أم أننا كحكومة لم ننجح في التعامل بكفاءة مع أدوات وأساليب الشراكة مع القطاع الخاص بالشكل المطلوب؟
د. هاني سري الدين: في تلك الفترة الزمنية، كانت البلاد تواجه تحديات جسيمة، وكانت المخاطر السياسية جلية على الساحة، مع حالة من عدم الاستقرار الكبير، حيث كانت الدولة متأرجحة ومتقلبة بشكل ملحوظ خلال عامي 2013 و2014. علينا أن نتذكر الوضع الذي كانت تمر به البلاد حينها، فقد كانت الأوضاع الأمنية مضطربة للغاية، والمشهد السياسي والاقتصادي يعاني من حالة شديدة من الهشاشة. في ظل هذه الظروف، لا يمكن أن نحكم على القرارات التي تم اتخاذها آنذاك بمعايير الحاضر، لأن الظروف تختلف بشكل جوهري.
الاستدانة لتمويل البنية التحتية كانت ضرورة في ظل المخاطر السياسية والاقتصادية وتراجع الاستثمارات الأجنبية
كان من الطبيعي، في ذلك التوقيت، أن تسعى الدولة جاهدة إلى تحقيق خطوات ملموسة وسريعة نحو الأمام، لاستعادة الثقة وإشعار المواطنين بأن هناك جهودًا تُبذل لإحداث تحسن حقيقي. ربما كان اختيار مشروعات البنية التحتية يعود إلى أنها ليست بالضرورة الأسهل، لكنها كانت الأسرع في إحداث تأثير على الأرض مقارنة بالعمل على سياسات تستغرق سنوات لتؤتي ثمارها، أو مجالات أكثر تعقيدًا تتطلب تحضيرات طويلة الأمد. كما كان هناك احتياج ملح للقيام بمشروعات تُظهر للناس أن الدولة ماضية قدمًا في مسار النمو.
الحكومة توسعت في الاستدانة كحل عاجل لإعادة بناء الثقة في الاقتصاد
بالطبع، الأفضل دائمًا هو إشراك القطاع الخاص في مشروعات التنمية، وهذا خيار إستراتيجي لا غنى عنه. غير أن القطاع الخاص لديه متطلباته وشروطه، وفي تلك الحقبة، كانت هناك العديد من العوامل التي حالت دون مشاركته بسهولة. كانت المخاطر السياسية هائلة، والأوضاع الاقتصادية صعبة، وكانت هناك كذلك مخاطر مرتبطة بالعملة المحلية، بالإضافة إلى المخاطر التجارية التي كانت بالغة الضخامة. كل هذه الظروف جعلت أي مستثمر من القطاع الخاص يفكر مليًّا قبل اتخاذ قرار المشاركة، ما كان سيستغرق سنوات حتى يُترجم إلى خطوات فعلية على الأرض.
توسيع دور القطاع الخاص أصبح ضرورة لتخفيف عبء الاستدانة عن الموازنة العامة
أرى أن الاستدانة كانت خيارًا لا مفر منه في تلك المرحلة، لكن مع مرور الوقت وتضخم حجم الدين، بات من الضروري إعادة النظر في إستراتيجياتنا المالية، وعلينا الآن أن نبحث جديًّا في كيفية التراجع التدريجي عن هذا المسار، ووقف تراكم الديون. اليوم، أصبحت الظروف مواتية لإدخال القطاع الخاص في العديد من المشروعات القائمة، خاصة في مجالات مثل إدارة وتشغيل المطارات. هذا الأمر ليس مجرد خيار لتحسين الخدمات، بل هو ضروري لتعزيز المنافسة والوصول إلى مستويات المطارات العالمية، مثل مطارات دبي أو تركيا التي تتفوق على المطارات المحلية بكثير.
بعض المطارات لدينا تم إنشاؤها بمعايير قد لا تكون متوافقة تمامًا مع المعايير الدولية، لذا يتطلب الأمر تحسينات جذرية وربما إضافة تكاليف جديدة لتلبية هذه المعايير. ورغم هذه التحديات، فإن فتح المجال للقطاع الخاص في مرحلة التشغيل على الأقل هو خطوة ضرورية.
قطاع الطيران يواجه تحديات تتعلق بتأهيل المطارات لتلبية المعايير الدولية
علينا أن نبدأ في إعادة صياغة سياستنا تجاه تسويق المشروعات بلغة تجارية واضحة ومقنعة، وأن نختار المشروعات التي نطرحها للقطاع الخاص بعناية فائقة، ونعمل على دراسات جدوى دقيقة ومدروسة تضمن جدواها. يجب أن يكون هناك فريق مختص يُعنى بهذه الملفات ويعمل على إدارتها بفعالية، لضمان تحقيق الأهداف المنشودة.
رضوى إبراهيم: سأستمر في الحديث عن دور القطاع الخاص وكيف يمكن تهيئته لإجراء توسعات تتجاوز ما شهدناه في الفترة الماضية. لقد مضت سنوات عديدة والحكومة تعلن عن نواياها الجادة لفتح المجال أمام القطاع الخاص، ورأينا توصيات واضحة من المؤسسات الدولية التي تتعامل معها مصر. بالفعل، عُقدت اجتماعات مكثفة مع مجموعات من رجال الأعمال لدفع هذه النوايا إلى حيز التنفيذ، وأُعلن برنامج طروحات حكومية يهدف إلى مشاركة القطاع الخاص في مجالات متنوعة. كما شهدنا تطورًا لافتًا من خلال وثيقة سياسة ملكية الدولة، التي لم تكتفِ بتحديد القطاعات المستهدفة للطرح، بل صنّفتها وفقًا لأولويات مختلفة؛ فهناك قطاعات تعتزم الدولة الاستمرار فيها، وأخرى ترغب في التواجد بها بصورة محدودة، وأيضًا قطاعات تستعد للتخارج منها تمامًا.
بعد كل هذه الخطط الواعدة والحديث المتكرر عن تمكين القطاع الخاص، والذي لا يختلف أحد على أهميته، كيف تفسر البطء الذي نشهده في تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية؟
د. هاني سري الدين: اسمحي لي أن أطرح عليكِ سؤالًا: هل لديكم معلومات حول من يتولى هذا الملف بالفعل داخل الحكومة المصرية؟
غياب خطة عمل متكاملة يؤخر تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية
رضوى إبراهيم: من المفترض أن يتولى مقرر اللجنة وزير المالية، وتُعنى اللجنة بهذا الملف كجهة تنسيقية برئاسة الوزير.
د. هاني سري الدين: إذًا، لننظر إلى الوزارات المعنية بتنفيذ هذه الطروحات، لأننا لم نرَ بعد إستراتيجية واضحة أو خطة عمل متكاملة تشتمل على جداول زمنية محددة. لقد مضت قرابة العامين منذ الإعلان عن وثيقة سياسة ملكية الدولة، فما الذي تحقق فعليًّا من تلك الأهداف المعلنة؟
رضوى إبراهيم: هناك بعض الصفقات المحدودة التي تم تنفيذها، لكنني أود أن أسأل: ما هي أسباب البطء في التنفيذ؟ ولماذا لم نرَ تعاونًا أوسع مع المؤسسات المالية الدولية، مثل مؤسسة التمويل الدولية (IFC) أو صندوق النقد الدولي؟ معظم ما شهدناه حتى الآن كان يتركز حول الصناديق السيادية الخليجية، وخاصة السعودية والإمارات التي استحوذت على النصيب الأكبر من الصفقات. لماذا لم نشهد مشاركة أوسع من المؤسسات المالية الدولية؟ صحيح أن هناك صفقات محدودة مثل صفقة «تمويلي»، التي شهدت تخارج شركة تمويل متناهي الصغر بمشاركة مؤسسات دولية، ولكن بالمقارنة مع حجم الطروحات والاحتياجات، يبدو هذا الجهد ضئيلًا.
د. هاني سري الدين: ينبغي علينا تقدير المستثمرين من دول الخليج، بل وشكرهم على دعمهم المتواصل للاقتصاد المصري، إذ إن مشاركتهم تعكس رغبة جادة في دعم الاستقرار السياسي والاقتصادي للبلاد في هذا التوقيت. ليس الهدف هنا إلقاء اللوم، بل فهم السياق العام المتعلق بالتنوع الاستثماري. إن للمستثمر الخليجي ميزة تتمثل في معرفته العميقة بالسوق المصرية، وإدراكه للفرص الكامنة، خاصة في ظل العلاقات التاريخية التي تجمعنا، حيث كانت مصر على مر العقود وجهة استثمارية آمنة رغم كل التحديات التي واجهتها.
الاستثمارات الخليجية تدعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في مصر
لا يمكن إنكار أن هناك بُعدًا سياسيًا يشكّل عاملًا حاسمًا في توجه المستثمرين الخليجيين، حيث يسعون من خلال الاستثمار إلى تحقيق أكثر من هدف، منها دعم الاستقرار السياسي وتوفير العائد الاستثماري. الصندوق السيادي السعودي، على سبيل المثال، بدأ في الدخول بقوة إلى السوق المصرية، وهذا ليس بجديد؛ فقد كنت أعمل في دبي قبل 25 عامًا، وكان المستثمرون الإماراتيون يفضلون دائمًا مصر كوجهة استثمارية رئيسية في المنطقة، نظرًا للعائد المضمون والقدرة على التواصل مع المؤسسات الحكومية بفضل اللغة المشتركة والعلاقات التاريخية.
رضوى إبراهيم: لكن تساؤلي كان يتمحور حول غياب المشاركة الواسعة للمؤسسات المالية الدولية، غير الخليجية.
د. هاني سري الدين: فيما يتعلق بصندوق النقد الدولي أو مؤسسة التمويل الدولية، فإن دورهما يظل محدودًا، إذا لم تكن هناك مشروعات واضحة ومُعدة جيدًا لجذب الاستثمارات. أحد الأسباب الرئيسية لغياب صناديق الملكية الخاصة أو المؤسسات المالية العالمية هو وجود معوقات تتعلق بجاذبية البيئة الاستثمارية، وتحديات ترتبط بتقديم مشروعات ذات جدوى اقتصادية. نحن بحاجة إلى طرح مشروعات جديدة، تتسم بالابتكار والقيمة المضافة، بدلًا من الاعتماد فقط على بيع الأصول القائمة أو الاستحواذات التقليدية.
هناك ضرورة لإعادة هيكلة العديد من الأصول التي تُعرض للطرح، سواء فيما يتعلق بتسوية أوضاع الأراضي، أو معالجة قضايا العمالة والمديونيات، أو حتى توثيق حقوق الملكية. في بعض الأحيان، يتم اكتشاف مشكلات قانونية تعوق تنفيذ الطروحات بسبب عدم اكتمال مستندات الملكية أو وجود منازعات عليها. لذا، ترتيب البيت الداخلي يُعد ضرورة ملحّة قبل المضي قدمًا في أي طرح جديد، خاصة إذا كنا نتحدث عن مشروعات في مناطق بعيدة أو معقدة مثل سوهاج أو قنا.
لكن هناك حالات استثنائية يمكن أن يتم فيها تسريع وتيرة التنفيذ، كما حدث مع الفنادق التاريخية أو شركات كبرى مثل «الشرقية للدخان»، حيث تمتلك هذه الكيانات مستندات واضحة وقيمتها السوقية معروفة، ما يسهل تقييمها واتخاذ القرار بشأنها. أما عندما ندخل في مشروعات صناعية أو مشروعات ذات طابع خاص، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا وصعوبة، ويستلزم وقتًا أطول لإتمام الإجراءات.
رضوى إبراهيم: حضرتك تحدثت عن صناديق الملكية الخاصة، فما الذي تعتقد أنه يجعل هذه الصناديق تراقب السوق المصرية وتنتظر العوائد المتميزة، وما الذي قد يحفز انطلاقتها من جديد لرؤية صفقات كثيفة كما شهدنا في الماضي؟
د. هاني سري الدين: الأمر في غاية التعقيد، وأحد أبرز التحديات هو مسألة التدفقات النقدية بالعملة الأجنبية.
مصيدة التعويم تشكل تحديًا كبيرًا أمام جذب الاستثمارات
نحن نواجه ما يمكن تسميته بـ»مصيدة التعويم»، وهي فخ لا ينبغي أن نقع فيه مرارًا. لا يمكننا الاستمرار في اللجوء إلى التعويم المتكرر كحل، لأن ذلك يعيدنا إلى نقطة الصفر في كل مرة. لا بد أن تكون هناك إجراءات جذرية تُتخذ لتصحيح هذا المسار، وأولها العمل على زيادة التدفقات النقدية بالعملة الأجنبية، وهذا يجب أن يكون من أولويات الحكومة وأجهزتها التنفيذية.
أحمد رضوان: لا بد أن نتجنب اللجوء للتعويم المفاجئ من خلال إجراءات تدريجية.
د. هاني سري الدين: أنت محق تمامًا. التعويم المفاجئ يترك آثارًا اقتصادية عميقة، ويخلق موجات تضخمية عنيفة. هذا الأمر لا يتعلق فقط بتقلبات الأسعار وإنما بما يتبعها من ضغوط كبيرة على الاقتصاد بأكمله.
ضرورة استقرار سعر الصرف لتجنب ضياع العوائد الاستثمارية
إذا استمررنا في التعويم كحل سريع، سنظل نُعيد الكرة مع كل أزمة. لذلك، لا بد من العمل على استقرار سعر العملة. المستثمر الأجنبي حين يضع استثماراته في السوق المصرية، فإنه يبني خططه على سعر صرف ثابت نسبيًّا، ولكن إذا وجد نفسه بعد فترة قصيرة أمام تقلبات شديدة، مثل أن يكون سعر الدولار عند 20 جنيهًا ثم يتضاعف إلى 40 أو 50 جنيهًا، فإن هذا يدفعه إلى إعادة النظر في حساباته، مما يؤدي إلى إطالة فترة استرداد العائد على الاستثمار، وهذا في حد ذاته يشكل عائقًا كبيرًا.
رضوى إبراهيم: بالتأكيد، هذا يسبب اضطرابات كبرى في التخطيط الاستثماري.
د. هاني سري الدين: بالطبع، وعلينا ألا نغفل أن تقلبات سعر العملة تُعتبر واحدة من أهم المخاطر التي تُعطل تدفق الاستثمارات الأجنبية. لذلك، إذا أردنا تحسين بيئة الاستثمار، علينا أولًا أن ننظر في كيفية تعزيز مواردنا بالعملة الأجنبية بشكل مستدام. السياحة والصادرات هما الحل الأساسي. يجب أن يكون لدينا إستراتيجيات واضحة لزيادة عائدات هذين القطاعين، لأنهما يشكلان العصب الحيوي الذي يمكن من خلاله تحقيق استدامة تدفقات العملة الأجنبية.
اضطرابات العملة تضع خطط المستثمرين الأجانب على المحك وتطيل فترة استرداد العوائد
ياسمين منير: هل يعني ذلك أننا سنظل في حالة ترقب وتأجيل للقرارات المتعلقة بالتعامل مع ملف العملة؟
د. هاني سري الدين: ليس تمامًا، لكنه يعني أن هناك مخاطرة حقيقية لا يمكن تجاهلها. علينا أن نواصل العمل بجدية، ولكن مع الوعي بأن هذه المخاطر قائمة، وهي بلا شك تؤثر على قرارات المستثمرين الأجانب.
أحمد رضوان: لدي مداخلة سريعة تتعلق بما كنا نتحدث عنه، وخصوصًا في سياق حماية الاستثمارات. خلال هذه الفترة، سمعنا الكثير من الأحاديث المتداولة، لكن للأسف، المعلومات المتاحة لا تزال ضئيلة كما عودتنا الظروف. هناك حديث يتردد حول اتفاقية حماية الاستثمارات بين السعودية ومصر. إلى أي مدى يمكن أن تكون هذه الاتفاقيات مفيدة، وإلى أي مدى قد تكون ضارة؟ لأنه من الممكن أن كل دولة قبل اتخاذ قرار استثمارها، تطلب اتفاقية تحمي استثماراتها. ما هي طبيعة الشكوك والتحديات التي يجب علينا التصدي لها فيما يتعلق بهذه الاتفاقيات؟
د. هاني سري الدين: أحمد، لا أملك معلومات دقيقة حول هذه القضية، لكن ما يمكنني قوله هو أننا، وبصراحة، نعاني من «إسهال» في توقيع اتفاقيات حماية الاستثمارات على مدار العقود الماضية. نحن من بين الدول الرائدة في إبرام اتفاقيات حماية استثمار ثنائية، ولكن السؤال الأهم هنا هو: هل كانت لهذه الاتفاقيات نتائج ملموسة؟ يجب علينا أن نتوقف ونتأمل في هذا الأمر. فهذه الاتفاقيات لم تكن كافية لتعزيز معدلات الاستثمار، حيث واجهتنا الكثير من التحديات، خصوصًا فيما يتعلق بالتحكيمات الدولية وغيرها من القضايا.
الاتفاقيات الثنائية لحماية الاستثمارات ليست الحل الشامل لجذب المستثمرين
لا يمكن اعتبار هذه الاتفاقيات حلًّا أو حتى جزءًا من الحل، بل قد تكون هناك حاجة لإجراء تعديلات، حيث قد تطلب بعض الدول حماية أكبر أو تثبيت بعض التشريعات. ومع ذلك، من المؤكد أننا بحاجة إلى العمل على تحسين بيئة الاستثمار من الداخل. ما نحتاج إليه حقًّا هو استقرار تشريعي وإداري، وليس مجرد تعامل مع قرارات يومية قد تفتقر إلى الاستدامة.
تفعيل قواعد حماية المنافسة يمكن أن يعزز ثقة المستثمرين
علاوة على ذلك، يجب أن نعمل على تفعيل قواعد حماية المنافسة، ورفع مستوى هذه القواعد حتى لو كانت تحت إشراف رئيس الجمهورية، لأن هذه الأمور تعد ضرورية لبناء الثقة في بيئة الاستثمار. ينبغي أن تكون هناك قواعد صارمة للمنافسة، بحيث لا يتجاوز أي طرف الحدود المحددة، وألا يخرج أي مستثمر عن الخطط الإستراتيجية المرسومة.
وأخيرًا، يجب أن نتذكر أن قواعد تبسيط إجراءات التراخيص الصناعية، التي تم إدخالها بموجب قانون 2016، قد تم العمل بها لفترة محدودة ثم توقفت، ولا تزال هذه القواعد لم تُستأنف حتى الآن. من غير المقبول أن تستمر بعض المصانع في العمل بتراخيص مؤقتة لمدة 10 أو 15 عامًا.
أحمد رضوان: لكن، هل هذه الحالة موجودة في أي مكان آخر في العالم؟
د. هاني سري الدين: بصراحة، لم أسمع عن مثل هذا الوضع في أي دولة.
أحمد رضوان: هناك نظام لتجديد التراخيص كل خمس سنوات!
رضوى إبراهيم: لقد أثرت فضولي بشأن موضوع اتفاقيات تأمين الاستثمارات. هل كانت مصر قد أبرمت نوعًا من هذه الاتفاقيات قبل ثورة يناير؟ كنت أعتقد أن هذا الأمر حديث نسبيًّا.
د. هاني سري الدين: لا، الأمر ليس حديثًا على الإطلاق. هذا الموضوع قديم جدًّا، فقد بدأ منذ السبعينيات.
أحمد رضوان: لننتقل إلى موضوع تصدير العقار، الذي أثرت فيه نقاطًا هامة حول ضرورة وجود خطة محكمة، كما هو الحال مع جميع المجالات التي تتطلب تخطيطًا إستراتيجيًّا. وقد أوضحت أن هذا القطاع يمكن أن يكون حلًا فعّالًا لمشكلاتنا المتعلقة بموارد النقد الأجنبي. من وجهة نظرك، ما هي الخطة التي يمكن أن تُبنى عليها هذه المبادرة؟ ومن هم الأطراف المعنيون بتنفيذها وكيف يمكن أن تؤدي هذه الخطة إلى إحداث نقلة نوعية سريعة في هذا الملف؟ وما هي المحاور الأساسية التي ينبغي التركيز عليها في هذا السياق؟
د. هاني سري الدين: لنبدأ بفهم ما يعنيه مصطلح «تصدير العقار»؟
أحمد رضوان: هو ببساطة يعني بيع العقار للأجانب.
رضوى إبراهيم: أو لغير المصريين بشكل عام.
د. هاني سري الدين: بالضبط، «الأجنبي» هنا يشمل كل من ليس مصريًّا. لكن لتحقيق هذا الهدف، يجب أن نتطرق إلى طبيعة المنتج نفسه قبل الدخول في تفاصيل أخرى. طالما أن ثقافة «النصف تشطيب» لا تزال سائدة، فنحن أمام مشكلة حقيقية؛ لأنني لن أذهب لشراء عقار في اليونان أو إسبانيا أو فرنسا بتصميم نصف مكتمل. لم أسمع عن ذلك في أي من تلك الدول. لذا، يتعين علينا ضمان وجود منتجات مكتملة. فهل لدينا بالفعل ما يكفي من المنتجات القابلة للتصدير؟ هذا سؤال يرتبط بجوهر المنتجات نفسها.
تصدير العقار يحتاج إلى خطة إستراتيجية واضحة لتعزيز موارد النقد الأجنبي
علاوة على ذلك، يجب النظر في التوزيع الجغرافي؛ هل ستركز على مناطق الساحل الشمالي أم البحر الأحمر؟ هناك مشاريع جديدة في الأفق، مثل تلك المتعلقة برأس الحكمة وشرم الشيخ، حيث بدأت تظهر منتجات نهائية، ولكن يبقى السؤال الأهم: كم عدد الوحدات المتاحة بالفعل؟ وما هي الفئة المستهدفة من المشترين؟ إذ إن الأجانب غالبًا ما يسعون إلى شروط تتعلق بالإقامة.
نجاح تصدير العقار يعتمد على تحسين شروط الإقامة للأجانب
عندما نتحدث عن أسواق مثل الصين، نجد أن اليونان تمثل سوقًا ضخمة بالنسبة لهم. يجب أن نكون على دراية بحجم الاستثمار المطلوب، والمدة الزمنية اللازمة، وعدد البيوت، والمساحات المطلوبة للحصول على حق الإقامة، لأن العديد من الأفراد، لا سيما من بعض الدول العربية، يسعون للحصول على إقامة.
هل هذه النقاط واضحة؟ شخصيًّا، لا أراها كذلك في الوقت الراهن. حتى القواعد الخاصة بالتأشيرات والإقامة، ونوعياتها، والمساحات المحددة لها، تحتاج إلى وجود سياسة واضحة ودقيقة. يجب أن تكون هذه القواعد متاحة، سواء من خلال تشريعات واضحة أو من خلال مجموعة من القواعد التي تشجع على ذلك. ينبغي أن تشمل طبيعة المنتج، وقواعد الإقامة، والشروط المرتبطة بمنح هذه العقارات، والتوزيع الجغرافي للمشروعات، وحجم الاستثمار المطلوب، فضلًا عن طريقة السداد.
إنشاء إطار تشريعي متكامل السبيل لتعزيز تصدير العقار
إذا كنا نرغب حقًّا في تشجيع تصدير العقار، ينبغي على الحكومة إصدار تلك القواعد واعتمادها من قبل مجلس الوزراء. للأسف، لا أرى شيئًا من هذا القبيل في هذا الملف، فلا تزال الأمور تسير بشكل فردي بناءً على اجتهادات المستثمرين، وقد شهدنا منذ أكثر من 15 عامًا إنشاء شقق فندقية في العديد من المناطق المصرية، بما في ذلك القاهرة وشرم الشيخ.
ياسمين منير: أعتقد أن المطورين الكبار في الوقت الحالي يسلمون كل الوحدات جاهزة.
د. هاني سري الدين: المشاريع مثل تلك التي في «فور سيزون» بشرم الشيخ أو النايل بلازا، أو حتى في سان ستيفانو، هي منتجات قائمة بالفعل وقد اشترى الأجانب منها، لأنها توفرت فيها المواصفات التي نتحدث عنها، كأنها منتجات نهائية تقع في مناطق ذات إقبال. على سبيل المثال، كانت «الجونة» أيضًا جزءًا من عملية التنمية، كما حدث في مراسي. ولكن كل هذه الأمور لا تزال تعتمد على اجتهادات المطورين، ولا توجد سياسة متكاملة تحقق ذلك على نطاق أوسع.
رضوى إبراهيم: ألاحظ أن ملف تصدير العقار بدأ يغيب عن الأضواء، فقد كان هناك حديث مكثف حوله في فترة سابقة.
أحمد رضوان: ربما صفقة رأس الحكمة قد طغت على هذا الحديث، وجعلت الأمور تأخذ مسارًا مختلفًا في النقاشات الحالية.
ياسمين منير: لننتقل إلى ملف الصناعة، ما هي نقطة الانطلاق التي تراها حاسمة في دفع عجلة التنمية الصناعية، ومن ثم تعزيز جهود التصدير؟ لقد لاحظنا في الآونة الأخيرة تزايد الحديث حول فكرتين رئيسيتين؛ الأولى تتعلق بتقديم الدعم للمصانع المتعثرة، والثانية تركز على مساعدة المصانع القائمة على التوسعات، مع تجاوز فكرة جذب استثمارات جديدة في مشروعات خضراء. هل تعتقد أن هناك طاقات كامنة يمكن استغلالها في هذا السياق؟ وما تقييمك لهذه السيناريوهات، وما هي الخطوة الأولى التي ينبغي اتخاذها لتحقيق انطلاقة حقيقية؟
د. هاني سري الدين: لا شك أن الأولوية يجب أن تتجه نحو تعزيز التوسعات في المصانع القائمة، رغم أن ملف المصانع المتعثرة يستحق الاهتمام ولا يمكن تجاهله. الأسباب وراء التعثر تتفاوت؛ فقد يكون هناك سوء إدارة يجعل من الصعب التدخل بفعالية، أو قد تتعرض بعض المصانع للتوقف نتيجة تغيرات جذرية في السوق أو الظروف الاقتصادية.
التركيز على توسيع المصانع القائمة مفتاح لتعزيز التنمية الصناعية
كما أن التعثر المالي قد يتسبب فيه تقلبات العملة، وهو أمر يمكن التعامل معه بمرونة نسبية من خلال المؤسسات المالية، حيث يمكن دعم هذه المبادرات.
التوسع في المصانع القائمة أولوية لتعزيز الصادرات
ومع ذلك، أرى أن الأمر الأكثر أهمية لوزارة الصناعة، على الرغم من أنني لا أعتبر نفسي خبيرًا في هذا المجال، هو التركيز على تعزيز المصانع القائمة والمشروعات الجديدة التي نحتاجها بشدة.
ضرورة التحليل الشامل لأسباب تعثر المصانع.. لتطوير الحلول الفعالة
هذا لا يعني إغفال ملف المصانع المتعثرة، بل ينبغي النظر إليها كحالة تتطلب تحليلًا شاملًا يتضمن جميع جوانب المشكلة. من الضروري أن يكون هناك اهتمام متكامل بهذا الملف من قبل جميع الجهات المعنية، لضمان تحقيق نتائج فعالة ومستمرة في مجال التنمية الصناعية.
رضوى إبراهيم: أود أن أناقش ملف السياحة، وقد سبقتني في الإشارة إلى بعض النقاط المهمة، ولكن سأدخل في تفاصيل أكثر. نحن نشهد حاليًا إنجازًا كبيرًا على مستوى الأمن في مصر، مما ساهم في تحقيق استقرار مقبول مقارنة بالفترات الصعبة التي مررنا بها بعد الثورة. لكن، ما زال غامضًا بالنسبة لي سبب تباطؤ إيرادات السياحة على الرغم من النمو الملحوظ. إذا قارنّا إيرادات السياحة لدينا بإيرادات دول أخرى في المنطقة تعاني من الأزمات ذاتها، سنجد أن تقدمنا متأخر. هل ترى أننا نعمل وفق إستراتيجية متكاملة قادرة على إحداث قفزات ملموسة، أم أن هناك نقصًا في التصور الكامل للاستفادة من الفرص المتاحة؟ لقد شهدنا العديد من الفرص المرتبطة بالقطاع السياحي، حيث أعلنت الحكومة عن مشروعات تهدف لزيادة عدد الغرف الفندقية، ولكن لا أرى شركات فندقية تعلن عن تحقيق الإشغال الكامل. ما هي المشكلة، برأيك؟
د. هاني سري الدين: لنبدأ بالاتفاق على أن التنمية السياحية تعتبر مسألة محورية. على الرغم من أن البعض قد يعتبرها قضية سياسية مؤقتة، إلا أنني أعارض هذا الرأي. السياحة تُعد أحد موارد الاقتصاد الأساسية، حتى لو كانت متقلبة. هناك تنوع في أنواع السياحة، من السياحة الثقافية إلى السياحة العلاجية، وصولًا إلى سياحة الترانزيت، وجميعها تتطلب الدعم والتشجيع.
السياحة ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي
رضوى إبراهيم: أعتبر السياحة من أهم مصادر النقد الأجنبي، فضلًا عن مساهمتها بشكل مباشر في تحسين مستوى معيشة المواطنين من خلال توفير فرص عمل في مجالات متعددة قبل أن تسهم في دعم ميزانية الدولة.
د. هاني سري الدين: بالضبط، هنالك الكثير من العناصر المرتبطة بالسياحة، لذا ينبغي ألا تكون هذه المسألة موضوع جدال. لكن، هل لدينا مشكلات في هذا القطاع؟ بالتأكيد، هناك العديد من التحديات تتعلق بكفاءة المطارات، وشركات الطيران، وجودة المطاعم، ووسائل النقل العامة، بالإضافة إلى ضعف مستوى الغرف الفندقية.
رضوى إبراهيم: وأيضًا مدى جاهزية القطاع الطبي والمستشفيات!
د. هاني سري الدين: هذا جانب بالغ الأهمية. لقد سمعت من أصدقاء أنهم يفضلون عدم القدوم إلى مصر بسبب مخاوفهم من عدم قدرتهم على الخروج من القاهرة في حال حدوث طارئ، خصوصًا لكبار السن. لدينا العديد من القضايا العالقة في هذا القطاع.
تحسين جودة الخدمات الأساسية ضرورة ملحة لتعزيز السياحة
منذ خمسينيات القرن الماضي، كان الجميع يدرك أهمية السياحة والمشكلات المرتبطة بها. تأسس أول مجلس أعلى للسياحة في مصر وأُصدر قانونًا بإنشائه في عام 1958، ومع ذلك لم يحدث تقدم يُذكر. لدينا لجنة وزارية للسياحة تشمل جميع الوزراء، لذا فإن المشكلة ليست في عدم فهمنا للأمور، بل في غياب التنفيذ الفعلي.
يتطلب الأمر وضع إستراتيجية واضحة قائمة على خطة عمل مدروسة، وهذا يحتاج إلى خطوات عاجلة. أتصور أن هناك جهودًا حقيقية تُبذل من قِبل بعض المخلصين، لكن الأمر بحاجة إلى إطار عمل مختلف لتنفيذ السياسات الفعالة. يمكننا الاستفادة من تجارب الدول الأخرى مثل اليونان وإسبانيا وتركيا والإمارات، وهنا يأتي دور الاستثمار الخاص، حيث يمكنه أن يتفاعل مع هذه السياسات والإستراتيجيات، ويعمل على تطبيقها بفاعلية.
مشاكل السياحة تشمل كفاءة المطارات وجودة الفنادق والنقل العام
وفي هذا السياق، وعلى سبيل المثال اذا تحدثنا عن سياحة اليخوت، فهي تحتاج إلى اهتمام خاص، إذ تعد صناعة متكاملة تتطلب مزيجًا من الخبرة والفنادق والمرافق، إلى جانب ورش الصيانة. ينبغي أن يتولى شخص ذو كفاءة إدارة هذا الملف. أرى أن قضايا مثل هذه يجب أن تكون تحت إشراف رئيس الجمهورية، كما الحال في ملف التصدير، لأن هذه ملفات حيوية تتطلب توجيهات واضحة، بالإضافة إلى ضرورة أن يضم المجلس الأعلى للاستثمار تكليفات محددة ومواعيد قريبة لتحقيق سياسات وإستراتيجيات فعالة.
ياسمين منير: ما رأيك في صلاحيات وزارة السياحة ضمن منظومة السياحة؟ نحن نتحدث عن مجالس وهيئات مذكورة في القوانين والتشريعات، هل ترى أن صلاحيات الوزارة كافية لتحقيق الأهداف المرجوة؟
د. هاني سري الدين: من الضروري أن تكون جميع هذه العناصر متكاملة. عندما نتناول هذا الموضوع كأنه يتعلق بجزر منعزلة، نجد أن وزارة السياحة لديها ملفات محددة، بينما وزارة الداخلية تتولى ملفات أخرى، ووزارة التنمية المحلية أيضًا لها دور، وكذلك الطيران المدني والنقل. لذلك، من المهم أن تكون هناك سياسة واحدة وإستراتيجية موحدة، بالإضافة إلى خطة عمل متكاملة تتحمل الحكومة مسؤوليتها بالتضامن تحت إشراف رئيس الجمهورية.
رضوى إبراهيم: كانت السياحة في فترة من الفترات تتصدر قائمة موارد النقد الأجنبي. كيف ترى الوضع الحالي في هذا الإطار؟
د. هاني سري الدين: هناك بالفعل طفرة ملحوظة في مجال السياحة، وهذا يتجلى في ما ألاحظه عند زيارتي للفنادق. عندما أخرج وأرى الواقع، أدرك أن الوضع قد شهد تحسنًا كبيرًا.
أحمد رضوان: ولكن يبدو أن هذا التحسن لا يُسمع له صدى في القطاع المصرفي.
د. هاني سري الدين: وهذه مسألة حيوية تتطلب المناقشة. عندما نتحدث مع البنوك أو القطاع المصرفي، قد يعبرون عن عدم إدراكهم لهذا التحسن. لكن عند زيارة أحد الفنادق في مصر، نجد أن الأعداد قد زادت، حيث يوجد سياح عرب وأجانب وأفواج سياحية، مما يستدعي التساؤل عن أسباب عدم الانتباه لهذا التحول الإيجابي.
رضوى إبراهيم: هذه النقطة هي ما كنت أود الإشارة إليه. في الفترات التي كانت السياحة مزدهرة، كنا نسعى لزيادة عدد السياح الأوروبيين، وبالأخص البريطانيين، الذين يتمتعون بقدرة إنفاق عالية. لكن فجأة، أصبح رجال السياحة غير قادرين على الحديث عن هذ النمو، لأنهم يستهدفون فئة معينة من السياح.
أحمد رضوان: أي سائح يمثل فرصة مهمة بالنسبة لنا، بسبب تأثير فرق العملة.
د. هاني سري الدين: هذه الفئة من السياح التي تقصدينها يتطلعون إلى غرف فندقية من نوع معين، مثل تلك الموجودة في الفنادق الخمس نجوم، بالإضافة إلى ضرورة وجود جودة عالية في الخدمات.
رضوى إبراهيم: إذًا، ما هي التوصيات التي يمكن أن نقدمها لتحسين هذا القطاع؟
د. هاني سري الدين: النقاش يدور حول سياسات عامة معروفة للجميع، من المتخصصين إلى وزير السياحة ورئيس الحكومة، ولكن تكمن المشكلة في التطبيق. نحن نشهد مساعي للبدء في مشروعات جديدة، لكن لا يتم إكمالها، وهو ما يعكس مفهوم الاستدامة في السياسات. هذا يقودنا إلى أهمية الإصلاح المؤسسي، فنحن نمتلك أشخاصًا مؤهلين، لكن المؤسسات تفتقر إلى آليات فعّالة لاستكمال الأعمال. عندما يحدث تغيير، يتغير كل شيء، مما يعوق الاستمرار في تحقيق الأهداف.
الإصلاح المؤسسي ضروري لتعزيز فعالية قطاع السياحة في مصر
إن هذا الملف مهم وقابل للتطوير. بالمصادفة، اطلعت على دراسات تناولت ما حققته اليونان في مجال السياحة، حيث شهدت تلك الدولة طفرة ملحوظة. لقد كنا في المسار ذاته منذ 10 أو 15 عامًا، لذا من الضروري أن ندرس تلك التجارب ونستفيد منها لتطوير سياحتنا.
مصر لا تحتاج ثورة تشريع أو إصلاحات عميقة كما يتخيل البعض
أحمد رضوان: ننتقل الآن إلى التشريعات المنظمة لتأسيس الشركات والمرتبطة بالاستثمار وحوافزه والضرائب، ما التعديلات التي يمكن إجراؤها ويكون لها تأثير في إنعاش الاستثمار الخاص والحد من منافسة الحكومة؟
د. هاني سري الدين: قبل الدخول في الجزء التشريعي، يجب القول بأن مصر لا تحتاج إلى ثورة في عملية التشريع أو إصلاحات تشريعية عميقة وجذرية كما يتخيل البعض.
لدينا مشكلة في التنفيذ وفلسفة عدم اتخاذ القرار أكثر أمنًا من اتخاذه
وإنما مشكلة مصر في المؤسسات التي تنفذ هذه التشريعات والقرارات وتراقب تنفيذها، لا يوجد مستثمر غاضب من نصوص قانون الاستثمار التي تتضمن حوافز وضمانات الاستثمار مثل عدم جواز التأميم والمصادرة والتدخل في التسعير، هذه النصوص جيدة لكن المسألة هل يتم تنفيذها أم لا؟
أحمد رضوان: بعضها به ألغاز والآخر لا يتم تنفيذه.
د. هاني سري الدين: هل عدم جواز تعديل الأسعار أو شروط التراخيص إلا بالرجوع للهيئة العامة للاستثمار يحدث على أرض الواقع؟ لا يحدث، هل الحوافز الضريبية يتم تطبيقها بحذافيرها كما هي موجودة في القانون؟ لا تطبق، هل المدد الخاصة بالتراخيص والتراخيص الضمنية في حالة عدم رد الجهة الإدارية يتم تطبيقها؟ لا تطبق، هل النصوص التشريعية المتعلقة بالولاية على الأراضي والتخصيص وطريقة تسعيرها يتم تطبيقها؟ لا تطبق.
حل كل مشكلة يحتاج إلى تشريع.. مقولة غير حقيقية على الإطلاق
وبالتالي لدينا مشكلة في التنفيذ وفلسفة أن عدم اتخاذ قرار بها قدر من الأمان أكثر من اتخاذ قرار، ووقتها قد يتم إرسالها إلى وزارة المالية أو الجمعية العمومية لقسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، أو وضعها في الأدراج، أو إرسالها للجهات الأمنية لاستطلاع الرأي وهكذا.
وبالتالي مشاكلنا الأساسية في التنفيذ بدرجة أكبر من النصوص التشريعية، نعم هناك نصوص تشريعية تثير مشاكل لكنها قليلة جدًّا، ولذلك فإن الانطباع العام بأن حل كل مشكلة يحتاج إلى تشريع مقولة غير حقيقية على الإطلاق، وإنما كيفية تنفيذها هو الأهم.
لا بد من إعادة النظر في وضع حوافز أسهل في التطبيق وأكثر وضوحًا
كما أننا في بعض الأحيان نضع حوافز ضريبية في قانون الاستثمار بطريقة يصعب تطبيقها وتحتاج إلى تدخلات ومراجعات في القوائم المالية لرد جزء من رأس المال أو جزء من التكلفة، وبالتالي لا يوجد من يفعل ذلك، ثم يتم تعطيل مثل هذه الحوافز، وبالتالي هذا الجزء هو ما يحتاج إلى نظرة معينة لوضع حوافز أسهل في التطبيق وأكثر وضوحًا بحيث لا يكون هناك تفسيرات متعددة.
أما بالنسبة لمنظومة الإجراءات الضريبية فأفكارها جيدة، وستحتاج إلى تعديلات تشريعية لأن بها محاور تحتاج إلى تعديل النصوص القائمة، وليست مجرد قرارات تنفيذية، لكن هناك تعديلات فيما يخص لجان فض المنازعات، وبعض الافتراضات الموجودة في الضريبة، وقد يكون هناك تغيير في السعر في عملية الرد، ولذلك المنظومة بها أفكار ستحتاج إلى تعديلات تشريعية، وأعتقد أن التعجيل بها مهم.
منظومة الإجراءات الضريبية أفكارها جيدة وستحتاج إلى تعديلات تشريعية
في مسألة المنظومة الضريبية وزارة المالية أعلنت سياسات واضحة، والمهم هو تطبيقها، لأن الحكومة تريد من ورائها توسيع القاعدة الضريبيبة، وأن يكون هناك عدد أكبر من دافعي الضرائب وتسهيل عملية الربط الضريبي، لأنه حتى هذه اللحظة ما زال هناك ربط ضريبي جزافي، ومن الممكن أن تنتظر بعض الشركات 10 سنوات دون فحص ضريبي.
وهنا نود أن نتخيل لو مؤسسة عالمية مربوطة بشركات قابضة في العالم كله وموقفها الضريبي متوقف 4 أو 5 سنوات لعدم إجراء الفحص عليها، وعملية استرداد الضريبة جزء صعب أيضًا، بالإضافة إلى مشكلة الحجز الضريبي على المستثمر إذا كانت لدينا معه خلافات، وبالتالي أعماله كلها تتوقف، ما يضطره للدفع.
ما زال هناك ربط ضريبي جزافي حتى الآن ومن الممكن أن تنتظر بعض الشركات 10 سنوات دون فحص ضريبي
وكل هذه أمور تحتاج إلى مزيد من العمل لإعادة الثقة في المنظومة الضريبية أو إيجاد الثقة في المنظومة لأنها لم تكن موجودة في الحقيقة، وبالتالي يتم توسيع قاعدة الضرائب وسد العجز من خلال زيادة الإيرادات والحصيلة الضريبية، لكن لا يجب زيادة الحصيلة من نفس القاعدة الضريبية التي تدفع باستمرار، لأن المستثمر يلجأ في النهاية إلى التصفية، وبالتالي يجب توسيع هذه القاعدة، وتعديل ضرائب الأرباح المهنية لأن الوضع غير سليم أبدًا، وقد لا يكون بالحجم الذي نتخيله، ولكن على الأقل هي شريحة كبيرة، البعض سيقول لك في هذه الحالة طالما تريد فواتير فإنني سوف أقوم بتحميل الضرائب والزيادة على المستهلك، وبالفعل في النهاية المستهلك هو من يتحمل، لكن في هذه الحالة على الأقل الحكومة تعيد هذه الأموال للمواطن في شكل مشروعات ودعم وغيرها، لكن لا يجب أن يلوي التجار ذراع الحكومة، هذه الأمور كلها تحتاج إلى حوارات مهمة.
الثقة في المنظومة الضريبية غائبة ونحتاج إلى مزيد من العمل لإيجادها
أي قرارات تمس الناس أو مهنة وقطاع معين، يجب أن يكون عليها حوار جاد مع أصحاب المصلحة، خاصة في الصناعة والسياحة والأنشطة التصديرية والعقارية، يجب ألا نتعامل مع التشريعات والقرارات بمبدأ «الحرب خدعة»، هذه القرارت تحتاج إلى إيجاد الثقة.
أحمد رضوان: هل تفتقد ذلك على مستوى الأعمال والبرلمان أم ماذا؟
د. هاني سري الدين: هنا نتحدث عن الحوار المجتمعي مع أصحاب المصالح المشروعة، ويتم عقد حوارات عن ذلك في لجان البرلمان والجلسات العامة، لكن قبل الوصول لهذه المرحلة يجب أن تكون هناك حوارات أخرى تمت مع أصحاب المصالح، وفي بعض الأحيان يكون هناك قرارات ولوائح تنفيذية وتنظيمية ليست لها علاقة بالقوانين، يجب أن يتم إجراء حوارات حولها.
لي تجربة شخصية في هذا الأمر حين توليت مسؤولية سوق المال، قواعد الاستحواذ وشراء الهامش والتداول الإلكتروني وغيرها من القرارات لم تصدر إلا بعد إجراء حوار مع رجال وقيادات السوق، ولذلك هذه القرارات ما زالت موجودة حتى الآن والسوق تستفيد منها.
رضوى إبراهيم: بالفعل سوق المال من أكثر القطاعات التي تجري حوارات مجتمعية مع المستثمرين بها.
د. هاني سري الدين: نعم ولا تزال حتى الآن ، لأن هذه الثقافة أصبحت موجودة وتقوم بتسهيل التنفيذ بشكل كبير، وعدم الرجوع في القرارات بعد اتخاذها. نعم تكون هناك معاناة في ذلك، وهناك بعض من له مصالح، وإذا كانت هذه المصالح مشروعة يجب أخذها بعين الاعتبار، وإذا لم تكن مشروعة أو هناك مصلحة عامة أهم فلا يجب الأخذ بها. ولكن على الأقل تم معرفة أين تكمن المخاطر؟ ولذلك هذه العملية في غاية الأهمية، مهما كنا متعجلين وعدم وجود وقت كاف.
ولذلك نصيحتي المخلصة هي الحصول على الوقت الكافي في التحضير أفضل من خروج قرارات غير جاهزة، ونضطر إلى التعديل أو عدم معرفة تطبيقها بشكل صحيح، أو يكون هناك سوء تفسير لها، فيتم التراجع عنها بعد ذلك، وتتسبب في مشاكل بالسوق، وبدلًا من التحرك للأمام 5 خطوات نعود للخلف 5 خطوات.
ياسمين منير: هناك تحرك بدأ في هذا الحوار المجتمعي بملفات كثيرة، لكن ليس شرطًا كل ما يقال في الحوار المجتمعي ينعكس على القرارات والضوابط.
د. هاني سري الدين: المهم أن صانع القرار شاهد كل الأمور ليوازنها مع بعضها البعض، ومن الممكن أن تكون هناك جوانب غائبة عنه بدأ يراها. الحوار المجتمعي ليس معناه أن يكون في التلفزيون فقط، ولكن هناك جمعيات رجال أعمال وغيرها.
معرفة المسؤول انطباعات المواطنين والتعامل معها أمر ضروري
كما أننا ننسى المواطن العادي في مسائل مثل الدعم العيني والنقدي. لا بد أن نعرف ماذا يريد المواطنون؟ وأن تكون هناك إحصائيات يتم إجراؤها، وبالذات في القرارات السياسية، لأن السياسة تبنى للأسف على الانطباع وليس الحقائق، وإذا كانت القرارات ضد انطباعات المواطنين فإنهم يشاهدون صاحب القرار بشكل مختلف تمامًا، وبالتالي يجب على المسؤول أن يحرص على معرفة انطباعات المواطنين والتعامل معها، ليس على أنها حقائق وإنما واقع ملموس وموجود يجب تغييرها والتعامل معها، وهذا يأتي عن طريق الإفصاح والتواصل الجيد والمناقشات والمعلومات السليمة الكاملة في الوقت المناسب، لكن إذا كان الإفصاح عن أمر ما بشكل منقوص ووقت غير مناسب فإن الانطباع سيكون غير مناسب أيضًا.
رضوى إبراهيم: في مسألة الضرائب، الحديث خلال الفترة الماضية على الاقتصاد الموازي دائمًا ما يكون محصورًا في المواطنين أصحاب الأعمال التجارية البسيطة، من وجهة نظرك هل الأزمة الحقيقية في هذه الفئة فقط أم الأطباء الذين يتقاضون مبالغ كبيرة في صورة كاش مقابل إجراء العمليات حتى تكون خارج الحسابات، وغيرهم من أصحاب المهن مثل المحامين وسناتر الدروس وغيرهم؟ وهذه الفئات من المفترض أنها مميزة ومتعلمة ومحسوبين على المجتمع بأنهم يجب أن يكونوا قدوة لغيرهم، بماذا تنصح الحكومة في هذا الأمر؟ وكيف تضع معالجة تضمن عدم خروج هذه المبالغ الكبيرة خارج الاقتصاد الرسمي؟
د. هاني سري الدين: اعتقد أن هذا الأمر جزء من الوثيقة التي أصدرتها وزارة المالية وتحدث فيها الوزير ببناء ثقة مع هذه الفئات، بأننا لا ننظر إلى الماضي ونبدأ النظر إلى المستقبل، لتحفيز دخول هذه الفئات إلى المنظومة الضريبية، وفي النهاية القانون قانون ولا يجب محاباة المخالف، لأنه طالما أصدرت الحكومة قانونا تقتنع به وفي صالح المجتمع وتمت مناقشته بكل أبعاده فإنه يجب تطبيقه بعيدًا عن النظر لأي أشياء أخرى، وأن يكون هناك تدرج في تطبيق القانون.
أحمد رضوان: وبماذا يعبر ذلك الأمر، خاصة وأنه يكون هناك تمسك وإصرار على بعض الأمور مثل ضريبة الأرباح الرأسمالية ورغم ذلك يتم تأجيلها كل عام، بماذا يعبر ذلك؟
د. هاني سري الدين: تحدثنا كثيرًا بأننا يمكن أن نصل لنفس نتائج فكرة الأرباح الرأسمالية لكن بطرق مختلفة، وبعيدًا عن الأرباح الرأسمالية حدث توافق معين لكن لم يتم تنفيذه.
ضريبة الأرباح الرأسمالية عادلة لكن يمكن الوصول لنفس نتائجها ببدائل أخرى
ونجد أن أجزاء مما تحدثنا فيها مع مجلس الوزراء والبرلمان يتم بعدها تراجع عن بعض الأمور وتعديل فيها، وفي إحدى المرات سألنا الحكومة عن العائد المتوقع من ضريبة الأرباح الرأسمالية، والإجابة كانت عدم وجود دراسة تتوقع هذا العائد، فلماذا كان الخلاف والصدام طوال هذه الفترة؟ وعند حسابها مع شركة مصر المقاصة وجدنا أن العائد منها لن يزيد كثيرًا عن البدائل الأخرى التي من الممكن تطبيقها.
سألنا الحكومة عن العائد المتوقع من ضريبة الأرباح الرأسمالية والإجابة كانت عدم وجود دراسة
فلماذا لا نطبق هذه البدائل بدلًا من العمليات الحسابية المعقدة في الأرباح الرأسمالية؟ وبالمناسبة هي ضريبة عادلة لكن إذا أرادات الحكومة الوصول لنفس النتائج يجب أن تنظر إلى البدائل الأخرى المتوافرة وتطبيقها، لكننا نشعر بأن هناك عدم تحضير كاف.
ثقافة التشريع «نصف تشطيب» موجودة منذ 2008 لكنها زادت الآن بسبب التعجل والضرورة
رضوى إبراهيم: وهل التفرقة بين المقيم وغير المقيم في هذه الضريبة عادلة؟
د. هاني سري الدين: يجب أن ننظر إلى كل التفاصيل، ويجب النظر إلى بعض الجوانب، لأنه أحيانًا يتم تقديم أشياء غير مدروسة، وبالمناسبة فقد تحدثت عن «ثقافة التشريع نصف تشطيب» منذ 2008 وليس الآن، لكنها زادت هذه الفترة مقارنة بالماضي، بسبب زيادة عنصر التعجل والضرورة.
ياسمين منير: بالنسبة للاندماجات والاستحواذات، كيف تقيم التشريعات المنظمة لها؟ هل تتسم بالسهولة وأنها ملائمة للنشاط؟ أم أن هناك تشريعات في دول أخرى أكثر نشاطًا نحتاج إلى الاقتداء بها؟
د. هاني سري الدين: لا توجد تشريعات تقتضي التعديل في هذه المرحلة، لكن المشاكل المرتبطة بالاستحواذات والاندماجات سببها الظروف الاقتصادية والمالية كمناخ للاستثمار أو وقت وفرصة مناسبة للمستثمرين، وفي حقيقة الأمر التشريعات الحالية ملائمة ومناسبة، وقد ينبئ المستقبل عن تطبيقات مختلفة، وحتى هذه اللحظة التشريعات مناسبة بما فيها تعديلات قوانين المنافسة، وكان هناك خشية من أنها ستؤدي إلى التعطيل، لكن جهاز المنافسة قام بدور مهم في هذه المرحلة وكان في منتهى الفاعلية.
التشريعات المرتبطة بالاستحواذات والاندماجات مناسبة والمشاكل سببها الظروف الاقتصادية والمالية
وبالتالي التشريعات القائمة تسير بشكل جيد ولا تحتاج إلى تعديل، بل نحتاج إلى استقرار تشريعي، أما إذا ظهرت مشكلة بعينها تحتاج إلى تعديل معين فلا مانع في ذلك.
ياسمين منير: كانت هناك بعض المطالب بإعادة النظر في الجزء الضريبي للاندماجات والاستحواذات، كيف ترى ذلك؟
د. هاني سري الدين: قد لا يكون لدي الخبرة الكافية في المعالجة الضريبية الخاصة بهذه المسألة، لكن هناك مشكلة مرتبطة بالأرباح الرأسمالية وشاهدناها في الحياة العملية بأن هناك مطالبة لإحدى الشركات بعد 20 سنة، وكانت المشاكل بشكل أكبر في التطبيق والتنفيذ وليس النصوص.
أحمد رضوان: إذن من الحاكم في هذه الحالة؟ الفتوى الصادرة من قسم البحوث في الضرائب أم القانون أم ماذا؟
د. هاني سري الدين: هنا يظهر تساؤل، لماذا ننشئ قسمًا للبحوث في الضرائب، لأن البحوث عادة ما تكون لمصلحة الضرائب وليس الممول، أو طريقة إدارة البحوث، هل من الممكن أن تكون البحوث وحدة مستقلة لها كينونتها واستقلاليتها؟.
ضرورة تعديل نصوص حوكمة الشركات ذات الاكتتاب المغلق في القانون
هذه المسألة يجب النظر فيها، لأن القانون يسمح بالحصول على رأي مسبق من المصلحة باستثناء حالة أو اثنتين كان لا يمكن الحصول على هذا الرأي المسبق، وكان بهما تنسيق مسبق، لأن الممول يعلم أن هذا الرأي المسبق سيكون ضده، وبالتالي هذه مشاكل تطبيق، لكن روح القانون جيدة، وهذا الأمر يحتاج مرة أخرى إلى تطوير مؤسسي، وبالتالي المشكلة ليست في النصوص التشريعية أو السياسات، نعم بالتأكيد هناك نصوص تحتاج إلى تعديل وتطوير في قانون الشركات مثلًا، خاصة النصوص التي تتعلق بالحوكمة في الشركات ذات الاكتتاب المغلق، والشركات المغلقة بشكل عام، وخاصة في دور مراقب الحسابات وغيرها من المسائل المهمة التي يمكن تطويرها لجذب الاستثمار، لكن هل الأمور التشريعية في حد ذاتها هي العائق الأكبر؟ بالتأكيد لا.
رضوى إبراهيم: ننتقل الآن إلى البرلمان، كيف يتم تقديم التعديلات التشريعية على القوانين الاقتصادية؟ هل تتم عن طريق مبادرة من أعضاء البرلمان أم الحكومة؟ وهنا نتحدث عن الواقع العملي وما يحدث على أرض الواقع، وليس ما يجب أن يكون؟
د. هاني سري الدين: دستوريًّا الاقتراحات بقوانين يتم تقديمها من مجلس النواب، أو من جماعات ضغط ومصالح مشروعة أو من نقابات، وهناك إجراءات لطرح هذه الاقتراحات، وبالفعل هناك الكثير من مشروعات القوانين تم تقديمها من أعضاء مجلس النواب وليس الحكومة، لكن معظم تشريعات القوانين الاقتصادية تأتي من الحكومة في ضوء سياساتها.
منع إذاعة الجلسات ظلم مجلس النواب
رضوى إبراهيم: هل تعتقد أن الانطباع الخاطئ لدى المواطنين ورجال الاقتصاد سببه عدم وجود تغطية كما كنا نعتاد لنشاط البرلمان، سواء في إذاعة الجلسات على التلفزيون ومناقشتها على صفحات الجرائد وغيرها؟
د. هاني سري الدين: طبيعة المناقشات في مجلس الشيوخ تختلف عن مجلس النواب بحكم تكوينه والموضوعات التي تعرض عليه، مجلس النواب له علاقة بطلبات الإحاطة والمناقشة والاستجوابات وطرح الثقة في الحكومة، وكلها موضوعات ساخنة تهم المواطنين وأكثر التحاما بالشارع، وكان هناك تصور بأن إذاعة الجلسات تجعل بعض الأعضاء يبحثون عن النجومية وتكبير وتضخيم المشاكل وغيرها، ولذلك تم منع إذاعة الجلسات، ولكن هذا القرار لم يكن سليمًا لأنه ظلم مجلس النواب، لأنه جعل الناس تعتقد بأن المجلس لا يناقش بجدية مشاكل المواطنين وليس هناك سخونة في المناقشات، وخلق انطباعًا بأن كل القوانين تمر كما تريد الحكومة، ولا يوجد نقد بناء للحكومة أو محاسبة لها، ولذلك يجب إعادة إذاعة الجلسات مرة أخرى لكي يستشعر المواطنون بالدور الدستوري والسياسي المهم للبرلمان، لأننا نحتاج إلى وجود تفاعل ورؤية المواطنين بأن المؤسسات الدستورية تلعب دورها، وأغلبية الأعضاء يتحدثون في قضايا حيوية، ويكون هناك هجوم قاسي في بعض الأحيان على أعضاء الحكومة، وهذه ظاهرة صحية لا يجب أن نخفيها.
رضوى إبراهيم: طرح الاعتراض والرد عليه في حد ذاته، يمنح الجميع طمأنينة بأن هناك من قام بالاعتراض، وتم الرد عليه، مما يجعلها قد تقتنع.
د.هاني سري الدين: أن المؤسسات الدستورية تعمل.
رضوى إبراهيم: بالضبط.
د. هاني سري الدين: وأن النواب يقومون بالدور المنوط بهم.
أحمد رضوان : لدي سؤال …
د. هاني سري الدين: هذا يعكس وجود مناقشة وأسئلة.
رضوى إبراهيم: بالضبط هذا ما أعنيه.
د. هاني سري الدين: وأن مجلس النواب يرى مشاكل المواطنين.
ياسمين منير: بالضبط يراها.
د. هاني سري الدين: ويتناقش بها.
رضوى إبراهيم: بالضبط.
د. هاني سري الدين: أحيانًا يكون الضغط السياسي الإيجابي على الحكومة، أمر له صدى إيجابي، وليس سلبيًّا.
رضوى إبراهيم: بالتأكيد.
ياسمين منير: هذا صحيح.
د. هاني سري الدين: قد تكون هناك تحوطات أو تحفظات، ناتجة عن ما شهدناه من ثورتين، فضلًا عن المشاكل الكثيرة، مما يجعل الأمن القومي من وجهة نظر أصحاب الرؤية في هذا المجال، يتطلب السير خطوة خطوة.. كما أرى أن جزءًا من الأمن القومي والوطني والاستقرار السياسي، أن يرى المواطنون أن المؤسسات الدستورية والنواب يقومون بالدور المنوط بهم في المعارضة والنقد البناء والضغط على الحكومة.
رضوى إبراهيم: على الأقل هذا سيؤكد انتهاء المرحلة الانتقالية التي كنا بها.
أحمد رضوان: نود الدخول بصورة أكبر في تخصص حضرتك المباشر، وهو مجال الاستشارات القانونية، ما وضع هذه السوق في مصر؟ وكيف تتطور؟ وما مدى جاذبيتها للأسماء الكبيرة من الخارج؟ وما هي محددات المنافسة بين كبار اللاعبين بها؟ نود من حضرتك تقديم رؤية عامة عن أبرز ملامح هذه السوق؟
د. هاني سري الدين: المحاماه في مصر.. أود الحديث عن أمر يؤلمني بصورة كبيرة في هذا السياق، وهو أنه يتم التعامل مع العلوم الاجتماعية، ومنها القانون والآداب، على أنها أمور هامشية، والدراسة بها غير حقيقية، وأنها للحاصلين على مجموع 50% و 55%، ومن وجهه نظري يجب تغيير رؤية الدولة في هذا المجال، فالعلوم الاجتماعية لا تقل أهمية عن العلوم الأخرى كالطب والهندسة والتكنولوجيا، بل تأتي جنبًا إلى جنب.
يجب تغيير رؤية الدولة للعلوم الاجتماعية وعدم النظر لها كدراسات هامشية ومتواضعة
من المؤكد أن الكلية التي يتخرج منها محامون دستوريون، وقضاة وهم مرفق العدالة، ومحامون لهيئة قضايا الدولة وهم المنوطون بالدفاع عن حقوق الدولة، كما يتخرج منها وكيل النيابة والمحامي العام المسئولان عن مرفق العدالة، وكذلك قضاة المحكمة الدستورية التي تتسم بكونها أعلى محكمة في السلطات القضائية، لذا لا يجوز النظر إلى هذه الدراسات على كونها دراسات هامشية ومتواضعة.
ففي المجال السياسي هي لغة التخاطب والقانون، كما أنها لغة الحقوق والحريات، وكذلك لغة الاقتصاد والمالية العامة، حيث إن أساتذة المالية العامة والاقتصاديين الأساسسين تخرجوا من كليات الحقوق، ولا يزالوا موجودين داخل مصر وخارجها، فلا يجوز التعامل مع هذا الأمر على كونها “جراج”، على الأقل يجب أخذ الأمر بشكل أكثر جدية في هذا المجال، وقد فوجئنا في أحد الأوقات أن كليات العلوم الاجتماعية يتم التعامل معها بنظام Bubble sheets، بأن يتم التظليل على الاختيار.
الصفوة بمهنة المحاماة يستكملون مسيرتهم بالخارج مع المكاتب الأجنبية والشركات العالمية
ياسمين منير: الاختيارات.
د. هاني سري الدين: قاضٍ أو محامٍ أو قاضٍ دستوري أو قاضٍ بمحكمة النقد، لم يكتب مذكرة في حياته، كما لم يقرأ أو يكتب مقالًا قانونيًّا أو سياسيًّا، ولم يعبر عن رأيه بشكل كتابي، فهذا الأمر يدعو للتعجب، الحمد لله أن هذا الأمر قد تغير خلال العام الماضي أو بدءًا من العام الحالي، حيث تطور الوضع مرة أخرى.
أود الرجوع مرة أخرى إلى فكرة عدم وجود تدريب مستمر في عمل المحاماه، فلا توجد دولة على مستوى العالم، يتم بها الترقية من محامٍ ابتدائي إلى محامي استئناف، ثم نقد، دون الحصول على تدريب مستمر، أو دراسة عدد من الساعات في مجال محدد، أو ساعات تم القيام بها في تخصصك، أواجتياز بعض الامتحانات الأساسية، وكذلك الأمر في أي مهنة، حيث إن هذه العوامل ضرورية لتطوير المهنة.
ولكن عندما تحولت تلك الكليات إلى “جراج”، وأصبحت تضم مئات الآلاف من الطلاب، فلم تعد قادرة على القيام بذلك من خلال نقابات المحامين، خاصة في ظل عدم وجود..
أحمد رضوان: الموارد.
د. هاني سري الدين: الموارد التي تتيح لك القيام بذلك، كما لم يعد هناك القدرة التنظيمية التي تمكنك من القيام بهذا الأمر، ولكن على الرغم من كل هذه الصعوبات، أرى أن المهنة لا تزال بخير، كما أن هناك من الأجيال الجديدة متفوقين يدخلون في كليات الحقوق، والتي يتخرج منها طلاب في منتهى الجدية، وللأسف أغلب من يحظون بتعليم جيد، لا يبقون.
أحمد رضوان: ينطلقون.
د. هاني سري الدين: يذهبون إلى المكاتب الأجنبية في الخارج، والشركات العالمية، كما يتجهون إلى كبرى الشركات، فالصفوة أو النخبة بهذه المهنة يستكملون مسيرتهم في الخارج، ولكن لا شك أنه على الرغم من كل هذه الصعوبات، فإن السمة الغالبة على هذه المهنة لا تزال هي المحاماة الفردية، حيث إن فكرة المكاتب الكبيرة لم تتطور، كما أن المكاتب الصغيرة التي تضم شركاء يتراوح عددهم بين 5 و7 شركاء، لا تزال محدودة وفي مجالات معينة، كما أنها تنحصر في القاهرة، وفي الإسكندرية بشكل أقل.
أتمنى أن أرى المزيد من هذه المكاتب بالمحاماة، لا سيما أن قانون المحاماة يسمح بالشركات المدنية، ومن المؤكد أن جزءًا من المشاكل الضريبية للمكاتب التي قامت بإنشاء شركات مدنية، أنهم تفاجأوا بكونهم يحاسبون كشركات أرباحها تجارية وصناعية، مما أسفر عن دخولهم في متاهات كبرى، وهذه إحدى النقاط التي نستغل هذا المنبر للحديث عنها، في ضوء مناقشة متاعب المهنة. فهذا الأمر يعد جزءًا من الجوانب التي يجب تغييرها، في حال الرغبة في زيادة عدد هذه المكاتب، والشراكات، لأنها تضمن الاستدامة واستمرار الأجيال واحدًا تلو الآخر، بدلًا مما حدث في المكاتب الكبيرة التي يديرها شخصيات رفيعة المستوى من المحامين، والذين بمجرد أن يتوفاهم الله يتم إغلاق تلك المكاتب، وينتهي الأمر، لذا يجب الحفاظ على ذلك، فهناك مكاتب في انجلترا وأمريكا وفرنسا قائمة منذ 150 عاما، وهناك توجد مكاتب أخرى تعمل منذ 200 عام.
ياسمين منير: قبل الدخول في تساؤل حول هذا الشق، أود التطرق إلى محاميي الشركات، والذين يتسمون بكونهم أسماء كبيرة في مصر، حدثنا عن المنافسة، حيث أن هذا الجانب لم تتطرق له في إجابتك على سؤال أحمد.. هناك عدد كبير من الصفقات داخل مصر ومن الخارج، ما وجه المنافسة بينكم؟ وما المعايير التي يقوم عليها؟
د. هاني سري الدين: لم نفكر في السؤال بهذا الشكل، حيث لا أنظر للمهنة بأن هناك منافسة بالمعنى..
أحمد رضوان: ألا تشعر بذلك خلال عملك.
د. هاني سري الدين: بالطبع هناك منافسة، كما أن هناك عددًا كبيرًا من الشباب يستحق الثناء والتقدير، نظرًا لما بذلوه من جهد، رغم كونهم شبابا سنهم صغير، وقد كانوا من طلابنا في مراحل كثيرة.
ياسمين منير: هذا صحيح.
رضوى إبراهيم: كنت سأطرح على حضرتك سؤالًا حول ريادة الأعمال في المجال.. نود التركيز حاليًا على المنافسة.
د. هاني سري الدين: هؤلاء يتميزون بكونهم متعلمين بشكل جيد، كما أنهم يفكرون بشكل مؤسسي، وقد قام بعضهم بإقامة روابط واتفاقيات مع مكاتب محاماة في الخارج، الأمر الذي من شأنه تغيير شكل المهنة، على الأقل في هذا المجال، نظرًا لكونهم منافسين حقيقيين، لديهم حجم أعمال كبير، وعليه فإن المنافسة بدأت مع وجود مكاتب جيدة، ولكن السوق لا تزال محدودة، نظرًا لارتباطها بحجم الاستثمار، والاندماجات والاستحواذات، وكذلك حجم الاستثمارات المحلية والعقود التجارية.
وهناك مجال آخر خاص بالقضايا والتحكيمات، وهو مجال كبير وجيد، لكن الغالبية العظمى من المحامين، يعملون على القضايا البسيطة الموجودة في المحافظات، والذين يحتاجون رعاية حقيقية اجتماعية وصحية وتدريبية، وهم يمثلون العدد الأكبر من العاملين بهذه المهنة.
ياسمين منير: ما خطط مكتب حضرتك خلال هذه الفترة، على مستوى الصفقات في السوق المحلية والقضايا؟
د. هاني سري الدين: لست أنا من أقوم بالصفقات.
ياسمين منير: بالتأكيد، ولكن المكتب يعمل على ملفات، وهو ما يعد مقياسًا.
د. هاني سري الدين: نحن نعمل على ملفات جيدة، ولكن أى ملفات موجودة حاليًا في مرحلة المفاوضات، تتسم بكونها سرية.
لدينا عروض جيدة للتوسع في الخارج.. سيتم النظر إليها بجدية
ياسمين منير: هل من الممكن أن تطلعنا على نبذة عن تلك الملفات على مستوى القطاعات وأحجام الصفقات، دون ذكر أسماء؟
د. هاني سري الدين: هناك أعمال كثيرة في القطاعات، مثل القطاع المصرفي والذي بدأ في العمل والعودة في هذا الإطار، ونرى ذلك من خلال اتفاقيات التمويل الجيدة والتوسعات، مما يعكس أن القطاع المصرفي يسير بشكل جيد، ويضم تمويل القطاعات وبالأخص قطاع الصناعة، والذي أرى أنه بدأ في استرداد عافيته بشكل كبير.
رضوى إبراهيم: لقد فهمت في البداية أن القطاع المصرفي..
ياسمين منير: يحتوي على صفقات.
رضوى إبراهيم: يقترض من الخارج، ذلك فضلًا عن الصفقات.
د. هاني سري الدين: لا، فقد كنا نتحدث عن ..
عدد كبير من اتفاقيات التعاون بين مكتبنا ومكاتب خليجية بالسعودية والإمارات والكويت.. لكننا لم ننتقل بعد
رضوى إبراهيم: عندما تحدثت عن التمويل، فهمت ذلك، نظرًا لما شهدناه من أخبار في الآونة الأخيرة.
ياسمين منير: وحول الشق الخاص بالتوسعات، لقد لاحظنا وجود توجه نحو منطقة الخليج والسعودية، فماذا عن خطط مكتب حضرتك التوسعية؟
د. هاني سري الدين: أرى أن هناك من اتجهوا نحو السعودية على وجه التحديد، وكذلك الإمارات، ويمكنني القول إنه في ظل التقدم في العمر، أعاني من الكسل في هذا الإطار، وذلك على المستوى الشخصي، وهو ما لا ينفي وجود عدد كبير من اتفاقيات التعاون مع مكاتب خليجية في السعودية والإمارات والكويت، لكننا لم ننتقل بعد، على الرغم من وجود عروض جيدة، لن أقول ضغوطات، واعتقد أننا سنقوم بالنظر إليها بشكل حقيقي، لكن أحيانًا نشعر بالتعب.
رضوى إبراهيم: في ضوء إشارتكم إلى الشباب، نود التحدث عن ريادة الأعمال داخل المجال، فكما ذكرت حضرتك لقد شهدنا خلال الآونة الأخيرة أن هناك الكثير من الشباب بعد أن عملوا في مكاتب كبيرة مع كبار الأساتذة، وتمكنوا من معرفة Know how، وإقامة علاقات جيدة، بدأوا في إقامة مكاتبهم بالشراكة مع مكاتب عالمية، مثل ما قام به كبار السوق في السابق، من وجهة نظركم، ما المجالات الأخرى التي من الممكن أن تشهد ريادة أعمال ناجحة، دون ضجيج، ودون أن يتطلب ذلك تمويلات كبيرة؟ فما المجالات التي يمكن تطبيق هذا النموذج بها، بخلاف الاستشارات القانونية؟ وهل البداية في هذا النوع من الشركات أو المكاتب تتطلب التمويل بصورة أكبر أم الحاجة إلى خبرة الشخص وقوته المهنية؟
د. هاني سري الدين: المقومات الأساسية للعمل المهني، تتمثل في تراكم الخبرات والكفاءة، ولكن لا شك في أن الإدارة أصبحت أيضًا عنصرًا مهمًّا جدًّا في أي عمل، الإدارة والتسويق .
تراكم الخبرات والكفاءة.. مقومات أساسية للعمل المهني
وأتذكر أنه عندما بدأت المكتب، كنت وحيدًا، علمًا بأن جميع الأنظمة التي تم وضعها منذ 20 أو 25 عامًا، كانت فكرتها قائمة على كوننا مؤسسة، وليس مكتب، لذا تم التعامل وفقا لذلك في الحسابات البنكية وكذلك في طريقة التعامل مع المحاسبين ومدير المكتب، والذين كنت أمزح معهم عند الحصول على شيء ما أو شيك تحت الحساب، فهم يتعاملون معي كشخص يتعدى على الأسس الموضوعة، فأقول لهم إن هذا من حقي، وذلك نتيجة وجود فكرة المؤسسية والإجراءات، وهو ما يعد أمرًا جيدًا، وعليه فإن قدرتك في هذه الحالة على التوسع ودخول شركاء جدد أو شراكات مع مكاتب أخرى، أصبحت عملية سهلة، لا سيما أن هذه الإجراءات تشمل الملفات الضريبية وكل الأمور، وأن يكون لديك إدارة موارد بشرية جيدة، وتدريب مستمر، كل هذه الجوانب تتسم بأهميتها الكبيرة، وهو ما يعيه الجيل الجديد بشكل كبير، وقد تعلمت ذلك من جيل الرواد، الذين قاموا بدعمنا حتى تمكننا من النمو، والتوسع بافتتاح مكاتب كثيرة، لذا فإن فكرة أن يخرج من عندنا 5 أو 7 أو 8 مكاتب، أمر يسعدني ولا يضايقني على الإطلاق.
رضوى إبراهيم: ما المجالات الأخرى التي يمكن أن تشهد هذا الأمر دون ضجيج، حيث ارتبطت ريادة الأعمال بالصخب نوعًا ما؟
د. هاني سري الدين: لماذا صخب؟
رضوى إبراهيم: لأنه يجب أن يصحب ذلك أحاديث كثيرة وتباهٍ بتمويلات عظيمة، حيث يعتبرون ذلك معيار النجاح، رغم أنني أرى هذا الأمر ليس ضروريًّا.
د. هاني سري الدين: أرى أن الاقتصاد الحقيقي يضم مجالات كالخاصة بالتعهيد وOut sourcing والخدمات المالية غير المصرفية، وكل ما يتعلق بتكنولوجيا المعلومات، وقاعدة البيانات، وأنا شخص عادة ما تسخر زوجتي وأقاربي مني فيما يتعلق بما لدي من معلومات في مجال تكنولوجيا المعلومات، ولكن في النهاية هو جزء لا يتجزأ من فكرة الشمول المالي، واعتقد أن لدينا فرصة في كل هذه المجالات، وهناك أجيال جديدة بدأت في النظر بجدية إلى هذا المجال، فنحن نحظى بقدرة تنافسية كبيرة بها.
أحمد رضوان: وصلنا إلى محطة الجانب الإنساني والشخصي، أود أن تطلعنا على المحطات المهمة التي مثلت نقاط تحول، أثرت في رحلة حضرتك، سواء على المستوى العملي أو المستوى الشخصي.. الجوانب التي تتذكرها عندما تجلس مع نفسك وتشعر أنها أدت إلى نقلة في حياتك؟
د. هاني سري الدين: لا أحب هذه الأسئلة، وأجد بها حرجًا..
رضوى إبراهيم: حاول .
ياسمين منير: نقاط التحول.
د. هاني سري الدين: أجد بها حرجًا شديدًا.
أحمد رضوان: يجب أن نكسر هذا الحرج ونتحدث.
د. هاني سري الدين: سأقول لك شيئًا حول البدايات، فإن حبي للمهنة قد بدأ منذ الصغر عندما كنت أذهب إلى المحكمة بصحبة والدي في الصيف، فكان ما أتمتع به في الإجازة هو النزول في الثامنة صباحًا مع والدي رحمة الله عليه، فقد كان محاميًا، وكنا نجول هناك ونجلس في غرفة المحامين، وأحظى بذكريات جيدة للغاية مع كبار المحامين بها، أتذكر منهم المرحوم شوكت التوني وعلي الرجال، واللذين كانا اسمين كبيرين في ذلك الوقت.
حباني الله بمن تركوا بصمات مؤثرة في حياتي.. وأدين لهم جميعًا بالفضل
أحمد رضوان: عملاقان.
د. هاني سري الدين: ومن رواد المحاماه، أتذكر المداعبات والمواقف التي مررت بها على السلم، ومن ثم بدأت أن أحب وأحضر بعض المرافعات، وأمور من هذا القبيل، وكثيرًا ما كنت في الصيف، بعد الرجوع من النادي، أذهب مع والدي إلى المكتب، وأراه وهو يجلس مع الموكلين، مما أنبت في قلبي حبًّا لهذه المهنة، وألفة شديدة، وكانت هذه هي بداية حبي للمحاماه، لذلك عند دخولي الثانوية العامة، لم يرد في مخيلتي أي شي سوى كلية الحقوق، فهذه إحدى المحطات التي جعلتني أحب المهنة منذ الصغر.
المحطات العملية والإنسانية ساهمت في تكوين شخصيتي
المرحلة الثانية تتمثل في دخول كلية الحقوق، لم يكن في ذهني أن أصبح معيدا، فكان فكري متجهًا نحو العمل في المحاماه في المقام الأول، أو العمل في النيابة، وذلك في المقام الثاني، فلم تكن هذه رغبتي الأولى، وعندما دخلت كلية الحقوق قابلت أساتذة عظماء في ذلك التوقيت، وهم دكتور أحمد كمال أبو المجد، ودكتور يحيي الجمل -رحمة الله عليهما- ودكتور فتحي والي -أدام الله عليه الصحة- ودكتور محمود سمير الشرقاوي، ودكتور مفيد شهاب، ودكتور أحمد البرعي.. أسماء رنانه، وبعضم كان في عزه، والدكتور محمود نجيب حسني، والدكتور مأمون سلامة، فهذه أسماء لا أعرف قدر معرفتكم لها.
أحمد رضوان: نعرف أغلبيتهم.
رضوى إبراهيم: نعرف الكثيرين منهم.
ياسمين منير: بالفعل.
د. هاني سري الدين: من المؤكد أنكم تعرفون أغلبهم، فقد كانوا من أعلام الفقه في العالم العربي بأكمله، لذا فإن فكرة الأستاذية والتدريس.. والدكتور نعمان جمعة –رحمة الله عليه- فهم أساتذة كبار تعاملت معهم، فنشأت فكرة.. والدكتور فؤاد عبد المنعم رياض، والذي كان رجلًا “برنس”، هذه الكوكبة من الأساتذة في الإلقاء والعلم والتصرفات والأناقة والأستاذية، جعلتني أود أن أصبح مثلهم في أحد الأيام، وعند اقترابي منهم تعلمت، ولدي قصة مع كل اسم ذكرته، فكل واحد منهم ترك بصمة في حياتي، عندما اتجهت للعمل في مركز التحكيم، أو حين تعينت معيد، أو أثناء فترة الدراسة، وكذلك خلال العمل، فقد كان هناك علاقة حقيقية رغم الأعداد الكبيرة، لذا تعد هذه نقلة مهمة، وأيضًا المحاماة.. يمكننا أن نستغرق 4 أو 5 ساعات في..
أحمد رضوان: هذا السؤال.
د. هاني سري الدين: في هذا السؤال، فقد حباني الله، وكنت محظوظًا بمن تركوا بصمات عديدة في حياتي، وهم كثيرون جدًّا، وأدين لهم جميعا بذلك، وقد كانت العلاقة الإنسانية قوية، وأهم المحطات ليس فقط المحطات العملية، بل الإنسانية والتي في الحقيقة..
أحمد رضوان: هي ما قامت بالبناء بصورة أكبر.
د. هاني سري الدين: قامت بالبناء بشكل كبير، كما ساهمت في تكوين الشخصية، فعندما بدأت في العمل بالمحاماة، التقيت مع الأستاذ علي الشلقاني –رحمه الله عليه– والذي كان يتسم بكونه رجلًا متحضرًا وليبرالي الفكر، ومتعمق، كما كان يؤمن بالمؤسسية، فكان شخصية استثنائية، وقد التقينا هناك بمجموعة كبيرة جدًّا، فهذه المؤسسة خرج منها معظم مكاتب المحاماة الكبرى في مصر.
تعلمت من كوكبة من الأساتذة الإلقاء والعلم والأناقة والأستاذية
ومن التجارب التي لا أنساها، بعد أن رجعت من الدكتوراه، أثناء قيامي بالتدريس في أحد المحاضرات، فوجئت بالدكتور يحيى الجمل –رحمة الله عليه- يطرق الباب ويدخل، فوقفت، وكنت حينها أقدم هذه المحاضرة لطلاب الدراسات العليا، حول B.O.T، والذي كان حينها مصطلحًا جديدًا في عام 1994 أو 1995، فوجدته يقول لي: “جئت لأجلس وأستمع لك”.
أحمد رضوان: الله.
د. هاني سري الدين: وأصر على الجلوس في المدرج، هؤلاء الأساتذة تعلمت منهم قيمًا، وأمورًا جميلة جدًّا في التجارب الإنسانية.. وفي الحقيقة، فإن التجربة العملية عند خروجي من الجامعة، ومن المحاماة، عندما سافرت إلى دبي، وكانت هذه المرة الأولى في حياتي التي عملت فيها بشركة، فقد كانت نقلة نوعية لي في 2002 – 2003، وخلالها رأيت الجانب الآخر من العمل الفعلي، حيث عملت مع أحد كبار المجموعات الموجودة في دبي، وبدأت في التحول إلى فكر البيزنس وصناعة القرار، والنظر من منطلق مختلف، أعتقد أن ذلك كان أمرًا فارقًا، لا سيما عندما عملت في هيئة سوق المال كرقيب.
فكل هذه التكوينات جعلتني أرى من جميع الأبعاد، من داخل البيزنس ومن المحاماة الخارجية، والعمل الأكاديمي، والرقابي، أعتقد أن التكوين المهني والإنساني الخاص بي اكتمل في هذه المرحلة بنهاية عام 2007 ، نتيجة هذه الجوانب المختلفة.
وتعد تجربتي في إنجلترا من التجارب التي أفادتني بصورة كبيرة أيضًا، وأقول دائمًا إن الله حباني بأشخاص في حياتي، ففي كل مرحلة كان هناك من له بصمة بها، وأتذكر قصة لا يعرفها أحد، عندما سافرت إلى إنجترا كان ذلك بهدف عمل الماجيستير، وليس الدكتوراه، وفوجئت أثناء حديثي في الهاتف أن عميد الكلية -التي بدأت بها منذ شهرين- يخبط على كابينة الهاتف التي كانت مشهوره بلونها الأحمر، حينها كنت أتحدث في الهاتف للبحث عن سكن، وقد طلب مني الغميد الصعود إليه، أجبته بالقبول.
وقال لي: “أنت متواجد هنا منذ شهرين في الماجيستير، وأرى أنك تستحق القيام بالدكتوراه حاليًا، دون أن تهدر الوقت”، وقد كنت بالفعل حاصلًا على ماجيستير، وكنت أخطط حينها للذهاب بعد ذلك إلى فرنسا، فقلت له إنني أحتاج إلى منحه، حيث لم يكن لدي منحة للدكتوراه، فتواصل مع المعهد البريطاني في ذلك الوقت، والذي وافق على هذا، وتحولت المنحة إلى دكتوراه.
وعندما بدأت في العمل على الدكتوراه، كان أستاذي آنذاك جوزيف نورتن، وهو أمريكي يعمل في إنجلترا، وقد أتاح لي العمل معه كمساعد، وكنت أتقاضى راتبًا أثناء العمل على الدكتوراه، وقد قمنا بالتدريس في كورس القانون والتنمية الاقتصادية، فدخلنا في هذا المجال، وهنا بدأت علاقتي بالاقتصاد، كاقتصاد تكامل، وهو ما منحني فرصة عمري، حيث أصبحت بعد ذلك أستاذا زائرا في جامعة لندن، جميعهم لهم بصمات في حياتي، فالمحطات كثيرة تتطلب حلقة أخرى.
ياسمين منير: كنت أود أن أسألك يا دكتور حول تأثير التعليم، وبالأخص في مصر على رحلة حضرتك، وعلى دارسي القانون في مصر، ولكن حضرتك استبقت وذكرت مساوئ التعليم في هذه المرحلة بذلك القطاع، فما توصياتك لهذا الجيل؟ وهل تراه قادرًا على تجاوز العقبات التي نراها حاليًا، فيما يتعلق بأن الكلية أصبحت مثل “الجراج” نوعًا ما، كما أنها متاحة للحاصلين على مجموع قليل، لاسيما وأنه لن يتمكن الجميع من الحصول على نفس الفرصة التي حظيت بها –الحمد لله- على مستوى الاحتواء المبكر في منزل قانوني، والمحطات التي مرت عليكم خارج مصر؟
د. هاني سري الدين: هناك أمر تعلمته، وقرأته في كتاب منذ وقت قريب، ولكنه جعلني اتنبه أنه شيء حقيقي للغاية، وهو أنه ليس من المهم الظروف التي تمر بها، فلا تلُم الظروف، أو من وضعك بها، فأنت حينما أصبحت في مشكلة معينة، سواء كانت هذه المشكلة متمثلة في سوء التعليم، أو قلة دخل، فقد أصبحت هذه مشكلتك، ولن يحلها أحد سواك، لذا يجب التوقف عن النزاع مع فكرة من المتسبب في هذه المشكلة، لدي صديق يقول بطريقة مرحة في بعض هذه الحالات “إن القرد قفز على رجلك”، وهو مثل لا يتفق مع الحوار العميق الذي نقوم به، ولكنه حقيقي.
ياسمين منير: أمر واقع.
د. هاني سري الدين: أنها أصبحت مشكلتك الخاصة، فلا تلُم أحدًا، وعليك أن تحاول في حل هذه المشكلة، فعندما بدأت الدراسة كنت خريج مدارس عربي، وقد كان حينها مستوى كل من الإنجليزي والفرنسي ضعيفًا جدًّا ومحدودًا، لذا كان من الضروري حتى أتمكن من السفر أن أذاكر الإنجليزي والفرنسي، وبالفعل قمت بذلك، ولم أكن أتخيل في أحد الأيام..
أحمد رضوان: أن أقوم بالتدريس بهما.
د. هاني سري الدين: ليس فقط أن أقوم بالتدريس بهما، فعندما تقدمت إلى المنحة في عام 1990 أو 1991، رُفضت نظرًا لعدم الحصول على الدرجات المطلوبة، حتى أتمكن من السفر، ولكن كان من القدر أن رئيس المعهد في ذاك الوقت واللجنة ارتأت أنني أستحق الحصول على فرصة إضافية، وعليه تم منحي 3 أشهر لدراسة اللغة، وقد سافرت وفقًا لذلك، واجتزت الامتحان، كشرط مسبق قبل الالتحاق بالماجيستير، فلم أكن اتخيل في أحد الأيام أنه بعد عامين من ذلك سأقوم بالتدريس لطلاب انجليز وأمريكان، وأتحدث معهم عن تمويل المشروعات، حيث إنها أصبحت مشكلتي، فلن ألوم أهلي أنني لم أدخل مدارس لغات، ولا الجامعة، ولا المدرسة.
رسالتي إلى الحكومة: كان الله في العون
رضوى إبراهيم: وصلنا للمرحلة الأخيرة، وهي مرحلة الرسائل.. أود معرفة الرسالة التي تود توجيهها إلى الحكومة.
د. هاني سري الدين: كان الله في العون.
رسالتي للقطاع الخاص: مصر لا تزال تحتوي على فرص جيدة.. والعبرة بطول النفس
رضوى إبراهيم: ما الرسالة التي تحب أن توجهها إلى القطاع الخاص؟
د. هاني سري الدين: لا تيأسوا، مصر لا تزال تحتوي على فرص جيدة، والعبرة بطول النفس.
رضوى إبراهيم: بالفعل هذا ما قل ودل، ما الرسالة التي توجهها إلى أسرتك؟
د. هاني سري الدين: أحبكم.
رضوى إبراهيم: ونحن أيضا نحبك يا دكتور، وسعداء للغاية بتشريفكم لنا.
د. هاني سري الدين: الله يخليكي.
أحمد رضوان: نشكر حضرتك بشكل كبير على وقتك.
د. هاني سري الدين: شكرًا جزيلًا.
أحمد رضوان: واللقاء الجميل، فقد استمتعنا جدًّا بالحوار مع حضرتك، ونتمنى يستمتع أيضًا كل من يرى هذا اللقاء بنفس الدرجة.. وإلى لقاء آخر من حابي بودكاست .. شكرًا جزيلًا.