بقلم د. ماهر عشم شريك مؤسس ورئيس تنفيذي لشركة اليفيام للتكنولوجيا المالية _ تشرفت الشهر الماضي بالمشاركة في ندوة بمتحف الحضارة المصرية لمناقشة موضوع الهوية المصرية في تجربة فريدة تمثل مبادرة من إحدى الشركات المصرية الرائدة والمسؤولة بالتعاون مع المتحف كجهة حكومية وكنت أنا ممثلًا لإحدى الجمعيات الأهلية التي شرفت بتأسيسها وأشرف برئاستها.
جسدت تلك التجربة أهمية وقوة التعاون بين القطاع الخاص والحكومة ومنظمات المجتمع المدني في تبني قضايا بناءة يحتاجها مجتمعنا بشدة. فتضافر الجهات الثلاثة يمكن إن استمر أن يكون له تأثير إيجابي قوي بناء يمكن أن يأتي بثماره بسرعة أكبر.
أحيا هذا الموضوع في نفسي ودفعني لكتابة تلك السطور، الافتتاح الجزئي للمتحف الكبير وانتقال القدير الدكتور أحمد غنيم من رئاسة متحف الحضارة المصرية منذ إنشائه إلى رئاسة المتحف الكبير. خلال الفترة الماضية جعلت قيادته من متحف الحضارة المصرية منبرًا منيرًا لشتى ألوان الثقافة وإبراز دور مصر منذ فجر التاريخ وإسهاماتها في تكوين الحضارة ودعائم الوجود الإنساني. أتمنى لسيادته كل النجاح والتوفيق وأن يجعل من المتحف الكبير طاقة نور تسطع في سماء العالم معلنةً لنا أولًا كمصريين وللعالم ثانية أهمية التاريخ المصري بمراحله في تكوين هويتنا.
دفعني أيضًا لكتابة هذه السطور منهجية الاقتصاد الحديث والعولمة والتكنولوجيا التي أدت إلى تواجد وسائل التواصل الاجتماعي والتي تواجه الانتشار العنيف والسريع لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في دمج ومسخ هويات الشعوب وعلى رأسهم هؤلاء الذين ينقادون بسهولة إلى كل ما هو جديد وعصري دون البحث أولًا داخلهم نظرًا لغياب مكونات ودعائم يستندون إليها لمعرفة أنفسهم.
والهوية ببساطة هي إدراك الشخص لذاته وهي كالشجرة متأصلة على جذور داخلية ولها مظاهر خارجية وثمار. والجذور تتكون كنتاج لمكونات عرقية وتاريخية وجغرافية وبيئية تمتزج معًا ويكون لها مظاهر تتعلق بالشكل والطباع والمعتقدات والثقافة والسلوكيات وتنتج ثمارًا تمكن الدول من إما أن تكون ناجحة وقائدة ومؤثرة أو أن تكون منقادة من كل النواحي.
يحكي لنا المتحف القومي للحضارة المصرية والذي أدعو الجميع لزيارته أكثر من مرة إسهامات الحضارة المصرية المرتكزة على هويتها في تلك الحقب في قيادة العالم والتأثير عليه من جميع النواحي. وتلخيص للحكاية فالمصري القديم كان مدركًا لأصله وذاته وأنتج حضارة قادت العالم وعلمته الكثير في كل المجالات.
وهوية مصر متكونة من طبقات حضارية وتاريخية متتابعة يستحيل فهمها دون الإلمام بكل واحدة منها وهي أشبه بسلسلة ذات حلقات إن فقدت واحدة منها استحال الوصول إلى أعماقها ومكوناتها الأصلية. وكما ذكر المفكر الراحل جمال حمدان في كتابه المرجعي «شخصية مصر» أن “هذا ما مكن الشخصية المصرية من الاستمرار عبر العصور دون أن تتأثر بثقافة معينة، أو عقيدة فكرية ما، صمدت الشخصية المصرية منذ عهد مصر القديمة وطابعها الفرعوني، ثم البطلمي والقبطي فالعربي الإسلامي، فضلًا عن انتمائها الإفريقي بحكم الجغرافيا، ليتغير الشكل لكن المضمون يظل ثابتًا في جوهره”.
ولا تبقي الهوية جامدة ثابتة بل تتطور وتتغير مع الزمن نتيجة الحقب الزمنية المستجدة كما أنها الهوية ليست فرديةً فقط، بل هي جماعية شاملة للاختلافات والشعور بالانتماء بين الأشخاص والمجموعات. وقد تمتد الهوية من الفرد المؤثر إلى الجماعة التابعة.
ويلخص لنا المثل العامي «من فات قديمه تاه» تلك المعاني فإن نجحت المتغيرات الحديثة سواء الاقتصادية أو التكنولوجية أو غيرها على إضعاف إدراكنا لذاتنا أي هويتنا ومواطن قوتنا لأدى ذلك إلى فقدان القدرة علي تحديد الاتجاه في المستقبل والاعتماد في المضي قدمًا على آخرين.
الهوية المصرية مهمة جدًّا للاقتصاد فهي المكون الأساسي للنشاط الزراعي والانتماء إلى الأرض والحد من الهجرة من الريف إلى الحضر على الأقل إن لم يكن للخارج. وهي المكون الأساسي للنشاط الصناعي والجودة والإتقان، فقد استعان العالم كله في أزمنة مختلفة بالمصريين في إرساء دعائم العمارة والتعليم والصحة إلخ.
وإن قلنا إن مصر تحتوي على القسم الأكبر من آثار العالم وإن لها موقعًا جغرافيًّا فريدًا جاذبًا للسياحة بطقسه ونصيبه من الشواطئ فالهوية هي مكون أساسي في دعم هذا النشاط الاقتصادي الأهم أو إضعافه.
ودعونا نعترف بأن الجهود الحقيقية التي تدعم تلك الهوية سواء في التعليم والثقافة والإعلام أو الإنتاج الفني أو المحافظة على التراث لا تتناسب إطلاقًا مع الحجم الحقيقي والثمين لمكونات تلك الهوية، مما أفسح المجال لآخرين بالتأثير عليها وقد يبدو ذلك جليًّا في التغيرات التي طرأت علي اقتصادنا وإنتاجنا وحتى أزيائنا وفنوننا أيًّا كان المستوى الاجتماعي والمكان الجغرافي والمعتقد في القطر المصري.
لذا فمقالي هذا هو تأكيد لأهمية الدور الذي يقوم به البعض وأمنيات بالتوفيق للمحاربين في هذا المجال ودعوة للمزيد من التضافر بين جميع أجهزة الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني على القيام بالدور اللائق بعمق حضارتنا في ترسيخ دعائم الهوية المصرية، هذا لما له من دور أساسي ومحوري في تحديد اتجاهات المستقبل وترسيخ دعائم الاقتصاد.