محمود محيي الدين يكتب.. عن عالم ترامب وعوالم أخرى… مرة أخرى
بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط .. تأتي هذه الكلمات بعد ساعات من تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليبدأ فترة ثانية، وأخيرة له وفقاً للدستور الأمريكي، رئيساً للدولة الأكبر في العالم اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً.
ومثلما توقعت الدوائر السياسية والاقتصادية، بدأ ترامب ولايته بعشرات من المراسيم والأوامر التنفيذية، التي تترجم ما تعهد به أثناء حملته الانتخابية التي قادته إلى البيت الأبيض.
وتتناول هذه المراسيم الرئاسية -فيما تتناوله- إجراءات لمكافحة المهاجرين غير الشرعيين الذين يقدَّر عددهم بنحو 11 مليون مهاجر، واستخدام غير مسبوق للتعريفة الجمركية في مواجهة الاستيراد.
وتأتي هذه الإجراءات مع توجه للمرونة المالية بتخفيض للضرائب، وزيادة الإنفاق لتحفيز الاقتصاد المحلي، فضلاً عن رفع القيود عن أنشطة مثل النفط والغاز الطبيعي والقطاع المالي والأصول المالية المشفرة «الكريبتو» التي تشمل «بيتكوين» وأخواتها. وهذه باختصار هي ملامح «الاقتصاد الترمبي» أو ما بدأ التعارف عليه بمصطلح «ترامب- نوميكس».
تحمل هذه التوجهات ما تحمله من خصائص اقتصاد عالم ترامب، ولكن الأهم مدى تطبيقها وأثره. فإجلاء المهاجرين غير الشرعيين له آثاره على سوق العمل وتكلفة الإنتاج، والتعريفة الجمركية هي ضريبة على المستهلك ودعم لمنتج قد لا يتمتع بالتنافسية، ولها أثر تضخمي، وقد تواجَه بالمعاملة بالمثل. والتيسير المالي يزيد من عجز الموازنة والديون والتضخم، ورفع القيود بلا ضوابط يسبب أزمات في الأسواق.
وتأتي الولاية الجديدة لترامب في عالم يلملم ربع القرن الحادي والعشرين ومعدلات نمو اقتصاده تتراوح بين 2.7 في المائة و3.3 في المائة وفقاً للبنك الدولي، والتوقعات الصادرة مؤخراً عن صندوق النقد الدولي التي جاءت أعلى من تقديرات البنك الدولي للعامين الحالي والقادم.
وبعد تعرض العالم لمعدلات شديدة الارتفاع للتضخم غير مشهودة منذ 40 عاماً، بدأت معدلات التضخم العالمية في التراجع إلى 4.2 في المائة، بعد جهود مضنية وتكاليف مرتفعة لتخفيضه؛ خصوصاً لما ترتب على ارتفاع أسعار الفائدة من زيادة في أعباء التمويل وتكاليف الاستثمار والديون.
ورغم انخفاض معدلات التضخم، بوصفه شرطاً ضرورياً لتحسن مستوى المعيشة، فإن الشروط الكافية لهذا التحسن لم تتحقق؛ فالدخول لم ترتفع بما يتجاوز التكاليف المتراكمة لشراء السلع والخدمات الأساسية.
بدأت البلدان النامية هذا القرن متطلعة لتضييق الفجوات الضخمة بينها وبين البلدان المتقدمة، وحققت تقدماً مشهوداً في السنوات الأولى من هذا القرن لتشكل مجتمعة -وفقاً لتقديرات تقرير البنك الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي- نصف الناتج العالمي، بعدما كانت تمثل ربعه فقط في بداية القرن.
ولكن منذ الأزمة المالية العالمية في 2008 تراجعت معدلات النمو من نحو 6 في المائة في العقد الأول من القرن إلى 5 في المائة تقريباً في العقد الثاني، إلى 3.5 في المائة. ومع انخفاض مستمر لمعدل نمو متوسطات الدخول في البلدان النامية عن معدلات نمو المتوسطات في الدول المتقدمة، أنَّى لها تحقيق أهداف اللحاق بها؟
وكيف سيتيسر للبلدان النامية سلوك سبيل التقدم، وقد كبلتها الديون، وعجزت مواردها المحدودة -خصوصاً بما تنفقه منها على خدمة الديون- عن تغطية متطلبات الخدمات الرئيسية، ومن أهمها التعليم والرعاية الصحية؟ وفي ظل الانكشاف الاقتصادي لكثير من هذه البلدان للاستيراد وانحسار نمو صادراتها، واعتمادها المفرط على الاقتراض الخارجي، تجدها أكثر عرضة لمثالب الصراعات الجيوسياسية، وما تسببه من تفتيت اقتصادي واستقطابات على المستوى العالمي. فقد تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لنصف ما كانت عليه في العقد الأول، وزادت قيود التجارة الدولية 5 مرات عما كانت عليه في العقد الثاني.
ونتيجة لهذا كله، فإنه بعد سنوات محدودة من النمو المطَّرد الذي ضيَّق الفجوة بين دول العالم المتقدم وعالم الجنوب، وزيادة التطلع نحو التقارب الاقتصادي بين العالمَيْن، ازداد اتساع الفجوة، وانقلب التقارب المنشود إلى تباعد ومزيد من التفاوت.
وبين البلدان المتقدمة تأتي الولايات المتحدة في المقدمة من حيث النمو الاقتصادي، مع زيادة توقعات ارتفاعه ليصل إلى 2.7 في المائة، مقارنة بنمو لا يتجاوز 1 في المائة فقط في الاتحاد الأوروبي.
وتشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى استمرار التفوق النسبي للولايات المتحدة مقارنة بالاقتصاد الأوروبي الذي يعاني من تراجع النمو الصناعي، وارتفاع تكلفة الطاقة؛ حيث تبلغ أسعار الغاز الطبيعي 5 أمثال أسعاره في الولايات المتحدة.
وليس بمستغرب في هذه الأحوال أن تتراجع ثقة المستهلكين في أوروبا، وأن يخرج آخر تقرير مقدَّم للاتحاد الأوروبي عن التنافسية، المشهور بتقرير ماريو دراجي رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، ليحذر من مخاطر وجودية تهدد الاتحاد، إن لم توجَّه استثمارات كافية خصوصاً في أنشطة البحث والتطوير وفي مجالات التكنولوجيا والاستدامة، وأمن الطاقة والدفاع.
وها قد عاد ترامب بعالمه الذي لا تقل أهمية عن توجهاته الاقتصادية طريقة إدارته لها. فاستناداً إلى فترة ولايته الأولى وإرهاصات الثانية، هي إدارة سيغلب عليها نهج إبرام الصفقات، وترقُّب وصُنع الفرص واستغلالها، وسرعة تبدُّل المواقف، وفقاً لأوجه المصلحة في الأجل القصير دون التزامات مقيدة، والمناورة للتعامل مع أي قيود مؤسسية أو سياسية.
يمكن تصنيف الإدارة الجديدة -باعتبار المرشحين لمناصبها العليا- إلى 3 معسكرات متداخلة: معسكر «أمريكا أولاً» من ذوي الميول الشعبوية، ومعسكر قيادات الشركات التكنولوجية الكبرى أصحاب الطموحات التوسعية غير المحدودة، ومعسكر أرباب الخبرات السابقة في الإدارة العارفين بأساليب عمل مؤسسات الدولة. ولكن يفوق هذه التصنيفات الصلاحيات الدستورية التي تملكها الرئاسة، وأسلوب الرئيس ترامب غير التقليدي في الحكم، وقدرته الشخصية على التعبير عن توجهاته، وتغيير مساراته.