محمود محيي الدين يكتب.. عودة أخرى لعالم ترامب وعوالم أخرى
بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط .. توجد حتماً معضلة أمريكية عصية على الحل. ويبدو أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب يحاول حلها على حساب العالم بمن فيه من بلدان باتت تتبدل مواقعها بين كل عشية وضحاها، كأصدقاء وغرماء وأعداء، إلا قليلاً.
فما أُطلق عليه المربكات الترمبية تتوالى ببث مباشر لا يكاد ينقطع من البيت الأبيض. فتخبرنا صحيفة «سترايتس تايمز» السنغافورية بأن الرئيس ترامب قد عقد 34 لقاء إعلامياً منذ توليه الحكم الشهر الماضي، كان منها 16 لقاء حياً من المكتب البيضاوي، وهو أكثر من ثلاثة أمثال مما قام به في الأسابيع الأولى من فترته السابقة.

وتتنوع اللقاءات الإعلامية بين إجراءات جمركية حمائية ضد المصدرين لبلاده، وتضارب التعامل مع كارثة غزة بعروض مستهجنة ومنكرة، والحرب الأوكرانية بحوار مباشر مع روسيا تاركاً الأوروبيين في محاولات للبحث عن مقعد على مائدة مفاوضات لم يُدعوا لها أصلاً، وشرحِ قرار رئاسي تنفيذي لتبديل مصاصات، أو قصبات، الشرب الورقية بالبلاستيكية؛ لأن «النوع الورقي ينكسر، كما ينفجر مع المشروبات الساخنة ولا يستمر طويلاً»!
لا شك في قدرة الرئيس ترامب المدهشة على التواصل مع جمهوره، استدعى لها خبرته في استضافته لبرامج تليفزيونية حية، ومعرفته بالمزاج الأمريكي الراهن المتقبل لنهجه، الذي أدى لنجاح حملته وفوزه في الانتخابات التي حملته إلى سدة حكم الدولة ذات الاقتصاد الأكبر والجيش الأقوى والتكنولوجيا الأحدث.
فما هي المعضلة الأمريكية إذن؟ إنها القوة في الخارج والخلل في الداخل؛ كما لخصها عنوان مقال الأكاديمي الأمريكي مايكل بيكلي في العدد الأخير للمجلة المتخصصة في الشؤون الدولية «فورين أفيرز».
فالاقتصاد الأمريكي اليوم يشكل ربع الاقتصاد العالمي، وأصبح حجمه ضعف اقتصاد منطقة اليورو الأوروبية بعدما كان يعادلها إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008. ويذكرنا بيكلي بأن متوسط ثراء الياباني كان أكبر من الأمريكي بنحو 50 في المائة في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، أصبح الأمريكي اليوم أكثر ثراءً بنحو 140 في المائة.
وتحظى أمريكا بممكنات القوة بنمو سكانها والمهاجرين إليها، وبمساحة شاسعة غنية بثرواتها ومصادر الطاقة والمياه والغذاء، وبمرونة أسواقها وقدرتها على التعافي السريع من الصدمات والأزمات، حتى لو كانت أمريكا هي المتسبب فيها كما حدث مع الأزمة المالية العالمية فتعافت منها وعاودت مسيرة النمو، بينما تعثرت أوروبا لفترة ممتدة، وما زالت تلملم تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حتى اليوم.
هذا لا يعني أن الاقتصاد الأمريكي خالٍ من المثالب فلنتذكر مديونيته العالية، وانخفاض إنتاجيته عن المستويات المطلوبة، وتعرضه لمعدلات تضخم غير مسبوقة منذ أربعين عاماً ثم تقلب أسواقه بفعل تغيرات حادة في السياسة النقدية لتواجه تداعيات الجائحة تيسيراً، ثم تقييداً جاء متأخراً لاحتواء أثر الإغداق النقدي.
ولكن المشكلة الكبرى التي تواجه الاقتصاد، بل المجتمع الأمريكي كله، هي التفاوت في توزيع الدخل والثروة. تفاوت بين معاناة الريف ورخاء مدن الحضر، وتفاوت بين الأجيال، وتفاوت نوعي، وتفاوت إثني، فضلاً عن التفاوت في فرص الترقي الاجتماعي لتباين المهارات والاستعدادات.
ومع عنفوان ارتفاع معدلات التضخم منذ عامين حذرت «بلومبرج» من أن التركيز على أزمة التضخم في الحالة الأمريكية يغفل وقع أثره على الشرائح المختلفة في المجتمع. فالطبقة المتوسطة في حالة بائسة كما أن معدل نمو دخلها الحقيقي المتوقع حتى منتصف القرن وفقاً للمعطيات الراهنة لا يتجاوز 0.3 في المائة سنوياً، في حين من المقدر أن يستحوذ 1 في المائة فقط على نحو ربع الدخل القومي، والأشد تطرفاً هو توزيع الثروة إذ سيستحوذ 0.01 في المائة من شديدي الثراء على ربعها.
هذا يفسر حالة تتراوح بين الاحتقان المكبوت والغضب الظاهر، عبر عنها رقمياً بيكلي في مقدمة مقاله وفقاً لاستقصاء رأي حديث: فثلثا الأميركيين يعتقدون أن بلادهم ليست على الطريق الصحيح، و70 في المائة منهم يصنفون الاقتصاد بأنه ليس جيداً أو سيئاً، وثقة المواطنين انخفضت من 40 في المائة عام 2000 لتصبح 20 في المائة، وفي حين أن 70 في المائة من الأمريكيين قالوا في بداية القرن إن الولاء للوطن شديد الأهمية، أمست النسبة أقل من 40 في المائة.
وكما ذكرت في المقال الأول من هذه السلسلة، فإنه عندما تصاب الاقتصادات بتراجع في مؤشراتها الحيوية يلجأ المسؤولون عنها ذوو التوجهات الشعبوية إلى استهداف التجارة الدولية والعمالة المهاجرة. والمربكات الترمبية صالت وجالت في هذين المجالين، بآثار سلبية لن تعفي المتسبب فيها من زيادة في التضخم وتراجع في التنافسية لارتفاع تكلفة العمل.
وإذا كان الوضع المحلي قد دفع إلى اختيار صاحب هذه المربكات في انتخابات حرة؛ فإن خشية التراجع أيضاً عن الصدارة الدولية يدفع إلى مزيد من المربكات الأخرى، ومنها ما له انعكاسات شديدة الضرر على تلك الصدارة بتهديد مقوماتها وفقدان ثقة الحلفاء السياسيين والشركاء الاقتصاديين.
ومن اللافت للاهتمام انتشار كتابات، تعبر عن حالة حرب تجارية، في طرق إلحاق الضرر بسلع وخدمات وحقوق ملكية أمريكية بأخف الأضرار على من يلجأ لهذه الطرق، وتنتشر هذه الكتابات في دول اعتبرت تاريخياً أنها في خندق واحد مع الولايات المتحدة. وستتضرر بلدان نامية بتداعيات سلبية جراء تراجع النمو واضطراب التجارة الدولية وانخفاض الاستثمار وارتفاع تكلفة التمويل وزيادة سعر صرف الدولار، وتراجع المساعدات الإنمائية.
لذا تُستدعى اليوم بكثرة مقولة المؤرخ الإغريقي ثوقيديدس بأن «الأقوياء يفعلون ما يريدون والضعفاء يتحملون ما لا مفر منه».