محمود محيي الدين يكتب.. بين هرج السياسة ومرج الاقتصاد

بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط .. أطلق المتابعون على مقعد «ضيف» الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في المكتب البيضاوي اسم المقعد الساخن، والمقعد يزداد سخونة كلما وجد المضيف فرصة لذلك.

فليس صحيحاً أن نهج الرئيس ترامب صفقاتي في كل الأحوال؛ إذ أتفق مع رأي المحلل السياسي الأمريكي إيان بريمر في أن الرئيس ترامب يزن كل من يتعامل معه؛ فإن كان قوياً وبلاده ثقيلة الوزن اقتصادياً وسياسياً، يدير معه طريقة الصفقات في التعامل. أما إذا كان بلد الضيف أضعف حالاً أو دفعته إليه الحاجة، أو كان له فيه غرض سعى لاستغلالها واقتناص ما يمكنه منها.

E-Bank

ويستخدم الرئيس ترامب، المستند إلى قوة الاقتصاد الأكبر عالمياً، والجيش الأقوى، والتكنولوجيا الأحدث، طاقته التي تزداد اشتعالاً أمام الكاميرات الناقلة عبر الأثير، ومهاراته التي حذقها في سابق عهده مع تلفزيون الواقع، في التعامل مع ضيفه.

ففي عالم ترامب قد تجده مجاملاً ودوداً لضيف المقعد الساخن كما فعل مع رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، ومن بعده رئيس وزراء بريطانيا السير كير ستارمر، ثم تراه على النقيض من ذلك تماماً في المواجهة الهزلية مع فولوديمير زيلينسكي رئيس أوكرانيا.

والأمر في نهايته كما في بدايته هو تماماً كما وصفه الرئيس ترامب نفسه أثناء اللقاء الدرامي مع الرئيس الأوكراني: «لقد شاهدنا ما يكفي… سيكون هذا عرضاً تلفزيونياً كبيراً». وهذا تعليق لخبير يدرك ما يفعله؛ فقد كان اللقاء خارقاً لكل الأعراف الدبلوماسية وغريباً عن الاجتماعات السياسية، فكانت تراجيديا الانفعالات المتبادلة بين الرئيس الأمريكي ونائبه من ناحية، بين تهكم وتهديد وتوبيخ وحديث عن الأفضال الأمريكية التي يجب أن تُذكر بما يستوجبها من شكر، مع محاولات للمقاومة والصد والرد المتكرر من الرئيس الأوكراني، بلغة غير لغته الأم وفي ملعب غير ملعبه. وفي الخلفية تلتقط الكاميرات تعبيرات لوجه السفيرة الأوكرانية بواشنطن مذعورة تكاد تجهش بالبكاء من هول ما تراه.

تابعنا على | Linkedin | instagram

كما لم يخلُ الأمر من كوميديا عن زي الرئيس الأوكراني بوابل من الأسئلة له من مراسل متأنق حلة زرقاء: «لماذا لا ترتدي حلة؟ هل ليس لديك حلة؟… كثير من الأمريكيين لديهم مشكلة بأنك لا تحترم المكتب البيضاوي بظهورك بهذا الزي». فأجابه زيلينسكي بأنه قد يرتدي حلة مشابهة لما يرتديه المراسل، وربما أفضل أو أرخص، بعد نهاية هذه الحرب.

وفي سائر شؤون الداخل والخارج يستعجل الرئيس ترامب النتائج. ففي مخيلة الرجل أنه في مهمة لجعل أمريكا عظيمة مجدداً وفقاً لشعاره، وأن الأقدار قد استنقذته من المكائد والاتهامات والفضائح ومحاولات الاغتيال لينفذ هذه المهمة. ومع اقتراب عمره من الثمانين، يستشعر ترامب، أكثر من فترته السابقة، بدنو الآجال ومعها اقتراب النهايات لما في خياله. فبعد أقل من عامين قد يفقد الأغلبية المساندة له في الكونجرس، وكل يوم يمضي لن يأتي ما يعوضه حتى تنتهي ولايته الحالية والأخيرة وفقاً للدستور الأمريكي.

ومع استعجال وتيرة العمل يرى فريق من تلك الفرق المتحلقة حول الرئيس أن مؤسسات الدولة معوقة للعمل، على الأخص الفريق القادم من الإقطاعيات التكنولوجية الذي يقوده إيلون ماسك لتحديث وتطهير القطاع الرسمي. وهو بالمناسبة لا يشغل أي منصب رسمي؛ فقد أمست مثل هذه الأمور مجرد تفاصيل هامشية، وفقاً للأبواق المدربة الناطقة عن حال الإدارة، لا يجب أن تعيق «ثورة التغيير».

ويراهن البعض مثل الاقتصادي المخضرم في جامعة هارفارد داني رودريك على اقتراب مواجهة حاسمة بين فريق الإقطاع التكنولوجي، وفريق آخر يستعين به الرئيس الأمريكي من الشعبويين رافعي لواء «أمريكا أولاً»، الذين رغم اتفاقهم على مواجهة مؤسسات الدولة التقليدية سواء العميقة منها أو الضحلة، فإن الشعبويين يريدون العودة للمجد الصناعي، في مواجهة حلم معسكر التكنولوجيين بمستقبل تديره تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

والشعبويون يعولون على دفع الجماهير الأميركية العريضة للتغيير وهم من قد يهمشهم الذكاء الاصطناعي. كما أن نظرة الإقطاعيين التكنولوجيين للهجرة أكثر انتقائية من الشعبويين، الذين يريدون التخلص من الأغراب بغض النظر عن حاجة الأسواق إليهم.

وقد يتداعى للذهن أن رؤساء سابقين كان منهم الجمهوري أبراهام لنكولن، الذي حكم الولايات المتحدة من 1861 حتى 1865، وعُرف بقدرته الاستثنائية على إدارة فريق من الخصوم والغرماء السياسيين، مستغلاً قدراتهم وطاقاتهم في تحقيق المصالح العليا للبلاد.

ولكن الفرق في الواقع كبير بين سمات الرئيسين والمصالح المنشودة وحال الولايات المتحدة نفسها. فما جعل من لنكولن الرئيس الأعظم في تاريخ الولايات المتحدة، هو كفاح سياسي حافظ به على اتحاد الولايات الأمريكية وفتح الطريق لإنهاء العبودية البغيضة. ربما لمثل هذا العهد، وما تلاه من صعود أمريكي، هو ما يحن إليه من يفتقدون مجدها ولكن هيهات. فأنى يستعاد المجد القديم في عالم يبدأ صباحه بفقرة للسيرك السياسي، فما إن يفرغ الإعلام من متابعتها حتى تلاحقه في المساء فقرات للملاهي الاقتصادية بقطاراتها الأفعوانية، تسيرها قرارات متهافتة بلا حيثية إلا دغدغة للمشاعر الشعبوية بتوجه عن إجلاء جماعي للمهاجرين غير الشرعيين، وتوجه آخر عن فرض عشوائي لتعريفة جمركية، وأثر التوجهين على الاقتصاد تضخمي حتماً. فضلاً عن قطع المعونات الدولية بتضحيات بعوائدها الاقتصادية والسياسية على الولايات المتحدة.

وبين هرج السياسة ومرج الاقتصاد يرتبك العالم في بحثه عما يملأ الفراغ السياسي ويوقي من الأزمات الاقتصادية، وهو ما يستكمله المقال القادم.

الرابط المختصر