محمود محيي الدين يكتب.. فن الممكن وفرص القوى الصاعدة

بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط .. لم يمر من هذا العام ربعه بعد، ولكن 2025 سيُذكَر في التاريخ، فيما سيذكر به، بأنه من أعوام التحول الكبرى في العلاقات الاقتصادية الدولية في العصر الحديث، ورسم نهايات النظام الدولي الموروث منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وتأتي هذه النهايات على يد القوى ذاتها التي وضعت أسس بداياته، وحققت أعلى مكاسب منه بهيمنتها على الاقتصاد العالمي ومؤسساته.

E-Bank

أما البدايات لنظام جديد فلا تتضح معالمها بعد، فستتشكل بدفع القوى القائمة والصاعدة بعضها ببعض. فالنظام الدولي الحالي ليس أحادي القطب، رغم ما للولايات المتحدة من اقتصاد ضخم، وآلة عسكرية غاشمة، وتكنولوجيا متطورة، فقد اندثرت فورة ما بعد سقوط حائط برلين. ولا هو عالم ذو قطبين تدور في فلكيهما بلدان العالم، باستثناء من استمسك منها بعدم الانحياز، كما كان الحال أثناء الحرب الباردة ومنافسة الاتحاد السوفياتي للولايات المتحدة. ووصف العالم بمتعدد الأقطاب يحمل من الافتراضات السخية أكثر مما يمنحه الواقع الفعلي لتوازنات القوى.

فالعالم يبحث عن نظام جديد، وليس هذا بجديد. فبهذا نادت عقول بمشارب مختلفة بنظام أكثر عدلاً وأعلى كفاءة وأفضل تمثيلاً لشعوب ودول العالم.

وما زلت أتذكر محاضرة للدكتور إسماعيل صبري عبد الله، الذي ألف كتاباً في عام 1977 بعنوان: «نحو نظام اقتصادي عالمي جديد»، جاء فيها أن علاقة القوي بالضعيف مرت بثلاثة مراحل منذ الثورة الصناعية: مرحلة الاستعمار الاستيطاني وكانت مرحلة ظلم وقهر للمستعمرات ونهب للثروات بمقابل فرض قوة القانون، قانون المستعمر لحفظ الأمن، والدفاع ضد أطماع قوى استيطانية أخرى، وتوفير الحد الأدنى للعيش، أو حد الكفاف، للشعوب المستعمرة.

تابعنا على | Linkedin | instagram

ثم جاءت المرحلة الثانية بعد حركات التحرر الوطني ووهن الاستعمار بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهي مرحلة التبعية يرتبط بها التابع بالمتبوع من أحد المعسكرين الغربي أو الشرقي بالتجارة وكيانات اقتصادية مقابل حماية وتسليح ومساعدات مالية ومعونات وربما ببعض العلاقات الثقافية والمنح التعليمية. أما المرحلة الثالثة فالعلاقة فيها بين القوي والضعيف دارت بين الاستغلال والتبادل اللامتكافئ والتهميش إذا لم يعد هناك ما يمكن استغلاله.

ولما كانت السياسة هي ممارسة فن الممكن، خصوصاً في أعتى الظروف صعوبة وبؤساً، تمكنت بلدان نامية من إتقان قواعد اللعبة الدولية جذباً للاستثمارات ودفعاً للتصدير، ومن قبل ذلك حذقت مهارات وقواعد العمل من أجل التنمية، فاستجابت لها الأسواق انفتاحاً لبضاعتها وتوسعت فيها أنشطة الشركات الكبرى إنتاجاً وانتشاراً.

وبعدما كانت هذه البلدان مصنفة مما كان يعرف بالعالم الثالث أصبحت منتجاتها تضارع منتجات الدول المتقدمة جودة وتقل عنها تكلفة. فاستدعيت لمواجهتهم أفكار من أزمان غابرة لمن عرفوا بالميركانتيليين الذين سيطروا بآرائهم على السياسات التجارية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. حيث اعتقدوا في ضرورة تراكم الدولة لثروتها بتقييد الواردات والتوسع في تجارتها، إن خاضت في سبيل ذلك حروباً لتوسيع الأسواق والسيطرة على الخامات، حتى تراكم مخزونها من الذهب بصفته مقياساً للثروة.

وهو ما كان؛ حتى ثبت أن السياسات الحمائية والقيود على حركة التجارة من المدمرات للاقتصاد في الأجل الطويل، إن تباينت آثارها في الأجل القصير ببعض الجوانب الإيجابية المحدودة المتمثلة في زيادة حصائل الجمارك، ولكن بخسائر فادحة على قطاعات الإنتاج التي ترتفع أسعار مدخلاتها المستوردة، وتتراجع نوعية منتجاتها لغياب المنافسة، كما ترتفع الأسعار على المستهلكين. فإذا بالصناعات المقصود حمايتها تتخلف وتتراجع عما كانت عليه فضلاً عن خسائر يتكبدها الاقتصاد والمجتمع بأسره.

وقد استرجعت دروس التاريخ تلك مع مطالعتي ورقة أصبحت شديدة الأهمية أعدها كاتبها ستيفن ميران العام الماضي، والذي عُيّن مؤخراً رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئاسة الأمريكية. وهي تهدف كعنوانها إلى إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي، ويسترشد بها أنصار «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» في تفسير أسباب إعلان رفع الرسوم الجمركية على الصديق قبل الغريم في التجارة الدولية، وكيف يتحقق الأمران المتناقضان ليستمر الدولار في هيمنته مع تخفيض سعره أمام العملات الرئيسية، من أجل زيادة تنافسية المنتج الأميركي أمام منافسيه.

في هذه الأثناء، ومع خضم القرارات التنفيذية من الرئيس الأمريكي وما تحدِثه من مربكات، أرى تحركاً إيجابياً على المستوى الإقليمي الدولي، لطالما نبهت إلى أهميته في مقالات سابقة بصفته مستوى عملياً للتحرك للتعامل مع التقلبات الجيوسياسية العالمية. يتمثل هذا التحرك في انطلاقات من القوى الوسطى على النحو الذي وصفه بإمعان أنور إبراهيم رئيس وزراء ماليزيا، رئيس الدورة الحالية لتجمع «آسيان» في كيفية نهج دول عالم الجنوب مساراً نحو المتانة والتطور الاقتصادي، رغم الأنواء الجيوسياسية المحيطة بهم وظروف المخاطر الوجودية واللايقين التي تشكلها تحولات في النظام العالمي.

لقد جعلت هذه التحولات من مزايا الارتباط المتبادل من خلال قنوات الاستثمار والتجارة عبئاً باحتمال تدهورها بغتة بتسليح التجارة وتلغيم الاستثمار. وتشكل مجموعة «آسيان» ذات السبعمائة من سكان عشر دول من الأعلى نمواً وتنوعاً، كتلة اقتصادية تتبوأ المركز الخامس على مستوى العالم، تطمح أن تسهم في تشكيل نظام العالم الجديد، ببراغماتية واعية بأهدافها. وتمد سبل التعاون مع تجمعات أخرى في عالم الجنوب لتعزيز مكانتها ونشدان منافع متبادلة.

ولعل ما ستشهده قمة مرتقبة لـ«آسيان» مع دول مجلس التعاون الخليجي والصين، في شهر مايو (أيار) المقبل طور جديد لممارسة فن الممكن في عالم شديد التغير.

الرابط المختصر