محمود محيي الدين يكتب.. عن نوادي الديون ومنتدى الجنوب

بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي نقلا عن الشرق الأوسط .. بعد زمن طال، حان الوقت ليكون لبلدان الجنوب تجمع يحمي مصالحها، ويعزز التنسيق بينها، بعدما تشعبت بها سبل التمويل والاقتراض، ويحقق انفراجة مما حل بها بسبب أزمة الديون الدولية.

وجرَت محاولات عدَّة على مدار العقود الأربعة الماضية لتأسيس تجمع للمدينين، من أشهرها مبادرة قرطاجنة في عام 1984، بعد أزمة المديونية في أمريكا اللاتينية، بهدف تأسيس تحالف للمقترضين، ولكن نظراً لتباين مواقف المدينين وتعويق الدائنين، لتفضيلهم التعامل مع كل متعثر على حدة، أخفقت المبادرة.

E-Bank

ظهرت محاولات أخرى، كلجنة العشر التي ضمت عشر دول أفريقية في 2008 للتنسيق حيال تداعيات الأزمة المالية العالمية، وتدعيم مواقفها في التعامل مع المؤسسات المالية الدولية، ولكنها تلاشت فعلاً وتأثيراً منذ منتصف العقد الماضي.

Zaldi-06-2025

كما ظهرت مبادرات أخرى في أطر متباينة، مثل تحالف استدامة الديون المعلن عنه في قمة المناخ السابعة والعشرين بشرم الشيخ. وكذلك ما يندرج في جداول أعمال مجموعة «في 20» وهي الدول الأكثر عرضة لتغيرات المناخ، من أمور تتعلق بإدارة الديون وتقلباتها.

وقد عرف العالم تجمعات متنوعة للدائنين، ومن أشهرها نادي باريس الذي تشكل في عام 1956 للتعامل مع القروض الحكومية الثنائية، وكان منشؤه مدفوعاً بتعثر الأرجنتين ذات التاريخ الطويل، والحاضر أيضاً، في التقلب بين الاستدانة والتعثر ومحاولات الإنقاذ. وقد سبق نادي باريس للوجود نادي لاهاي الذي ضم 6 حكومات أوروبية في عام 1955، لتنسيق تفاوضها مع الديون البرازيلية.

تابعنا على | Linkedin | instagram

وقد تطور دور نادي باريس وتأثيره، رغم أنه تجمع غير رسمي لا يخضع لأي اتفاقية دولية تنظم عمله. ولكن قوته نابعة من أعضائه الاثنين والعشرين، وما اكتسبه من اعتراف من الأمر الواقع ومشاركة مؤسسات مالية ومنظمات دولية في اجتماعاته، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية و«الأنكتاد» وغيرها، بوصفها مراقِبة.

ومع كل أزمة للمديونية مر بها العالم منذ الثمانينات، تطوَّر دور نادي باريس، وتمكن مؤسسياً من خلال سكرتارية دائمة تتخذ من وزارة الخزانة الفرنسية مقراً لها. وهي مشكَّلة من مجموعة صغيرة العدد متسعة العلاقات، من المحترفين وأصحاب الخبرة والدراية بمعضلات الديون. كما تنتظم دورية اجتماعاته التي تستعرض موقف المديونية الدولية ومنهجية التعامل معها.

وتبدأ المفاوضات مع الدولة المتعثرة، عندما تبادر بإعلانها عدم قدرتها على خدمة ديونها، وحاجتها إلى تخفيف أعبائها من خلال إعادة الجدولة أو إسقاط جانب من أصل الديون وفوائدها. وتعتمد المفاوضات على تقارير وقواعد بيانات يقدمها بالأساس صندوق النقد الدولي الذي يُعَدُّ وجوده أساسياً، فمن دون برنامج معه لن تتمكن الدولة المتعثرة من التوصل لاتفاق مع نادي باريس.

وعلى مدار العقدين الماضيين ازداد نصيب المقرضين من حملة السندات من 2 في المائة في عام 2000 إلى 12 في المائة في عام 2022، كما ارتفعت نسبة المقرضين الحكوميين من غير الأعضاء في نادي باريس، كالصين وغيرها، من 8 في المائة إلى 20 في المائة، مع استقرار في نصيب المؤسسات المالية الدولية بمتوسط 45 في المائة خلال الفترة ذاتها.

ورغم التراجع الحاد في نسبة نادي باريس في محفظة القروض الدولية، ما زالت لديه أنصبة لا يمكن تجاهلها في مديونيات بلدان نامية عدَّة، كما ملك من التنظيم والخبرة المتراكمة على مدار 7 عقود ما جعله مقصداً للمعنيين بالديون الدولية، بما في ذلك الدول غير الأعضاء من الدائنين الجدد.

وفي مقابل الدائنين الحكوميين، نشأ تجمع لدائني القطاع الخاص من البنوك، عُرف بنادي لندن؛ حيث تجمعت بنوك دائنة لجمهورية زائير، المعروفة الآن بجمهورية الكونغو الديمقراطية التي أعلنت تعثرها في عام 1976 عن سداد قروض البنوك التجارية، وتبعتها دول أخرى في هذه الفترة، مثل تركيا وبيرو. ويكون تفاوض البنوك مع الدولة المتعثرة من خلال لجان استشارية من كبار الدائنين، وعادة ما تطول مدد التفاوض وفقاً للحالة. ومقارنة بنادي باريس فليس لدى نادي لندن سكرتارية فنية أو مقر محدد أو عضوية دائمة أو منهجية مستقرة للتفاوض، أو سابقة معتمدة للتسوية.

وقد تراجع دور الإقراض المصرفي التجاري للبلدان النامية على مدار العقود الأربعة الماضية، لصالح حملة السندات من المقرضين الدوليين، لتواجه الدولة في حال تعثرها مجموعات شتى من الدائنين يتنوعون بين كبار وصغار «المستثمرين» ويضمون بنوكاً وشركات تأمين وصناديق معاشات، وقد يكون من المقرضين للدولة المتعثرة مؤسسات محلية انتهت إليها تداولات السندات الدولية من خلال الأسواق المالية.

ورغم مقترحات بالتنسيق بين الدائنين في حالة التعثر، كتلك التي يساندها معهد التمويل الدولي، وتدعمها مبادرات من جمعية السوق الأولية الدولية، وجمعية الأسواق المالية الدولية، فإن التنسيق كان دائماً صعباً ومضنياً بين لجان الدائنين من حملة السندات.

وقد تضمن تقرير مجموعة خبراء الأمم المتحدة الذي تم طرحه في مؤتمر إشبيلية لتمويل التنمية، 11 علاجاً لأزمة الديون الراهنة ومنع تكرارها مستقبلاً. كان منها توصية محددة بتأسيس تجمع للمقترضين، كمنتدى لدول الجنوب. ومن أعمال هذا المنتدى دفع الالتزام بالاقتراض المنضبط. ومن المستهدف أن يكون نادي الجنوب مركزاً لتبادل الخبرة والمعرفة والتعاون الفني، وتدعيم قدرات البلدان النامية محلياً وفي المؤسسات المالية الدولية، وتطوير إمكاناتها المؤسسية في إدارة الديون.

قد يتساءل البعض: وما الذي اختلف اليوم حتى ينجح ما أخفق في الأمس لتأسيس هذا المنتدى؟ الإجابة تفصيلاً في مقال قادم تحت عنوان: «إدارة الديون في عالم شديد التغير».

الرابط المختصر