بقلم د. ماهر عشم رئيس شركة كومتريكس للتجارة الإلكترونية _ أصبح مصطلح الذكاء الاصطناعي هو المهيمن في معظم المجالات من باب المحاولات الجادة في الاستفادة بقدرات خارقة -صارت متاحة لشتى مجالات الاعمال والعلوم- تارة. فلا يوجد مجال أو بحث في أي علم يكاد يخلو حاليًا من استخدامات الذكاء الاصطناعي. ومن باب الوجاهة تارة أخرى، فالتمحك بالمصطلح صار عاكسًا لتقدم الشخص في المعرفة والعلوم.
بدأ تطور الحاسبات بصورة أكبر وأسرع في منتصف القرن الماضي وظهرت معه أولى محاولات الاعتماد على الرياضيات لاستحداث برامج قادرة على حل مسائل منطقية، وكانت تلك بدايات علم الذكاء الاصطناعي. ثم تطور بعدها في الستينيات علم الشبكات العصبية الاصطناعية ( Artificial Neural Networks ) وهو برمجة الكمبيوتر على قدرة وسرعة معالجة البيانات بطريقة تحاكي معالجتها في مخ الإنسان.

مر علم الذكاء الاصطناعي بعد ذلك بحقبة ركود، لعدم توافر الدعم المادي لتلك الأبحاث وأيضًا لمحدودية الماكينات ( Hardware ) المتاحة آنذاك من حيث قدرتها وسرعتها وسعتها التخزينية للمعلومات. ثم عاد علم الشبكات العصبية على الساحة مجددًا في أواخر الثمانينيات مع تطور الحاسبات الشخصية وانتشارها.
واكب تطور شبكة الإنترنت وانتشار الهواتف الذكية توافر كم هائل من المعلومات في صورها المتعددة نصية وصورية أو حتي في هيئة مقاطع مرئية، أدى ذلك إلى تطور فرع تعلم الآلة ( Machine Learning ) وهو ببساطة تدريب البرامج المستخدمة للنماذج الرياضية الناتجة عن علم الذكاء الاصطناعي باستخدام الشبكات العصبية القادرة على معالجة كم هائل من البيانات على التعلم من النتائج، لتعديل تلك النماذج حتى تأتي بنتائج أفضل.
من أكثر التطبيقات المستخدمة لتلك العلوم شيوعًا على سبيل المثال خرائط جوجل، وهو تطبيق يدل المستخدم على أفضل وأسرع طريق يسلكه ليصل من نقطة لأخرى، ويمكنه التنبؤ بزمن الوصول المتوقع. يتابع التطبيق ملايين السيارات في الطرق ويتعلم الطريق الأقصر من البيانات الصادرة عن تلك السيارات وبذلك يتوصل للنتائج شبه الدقيقة. لكن عندما تمت تعديلات جذرية في منطقة مصر الجديدة في البداية لم تقدر خرائط جوجل على إعطاء نفس النتائج الدقيقة التي كانت تعطيها في السابق، لكن مع مرور الوقت تعلمت النماذج من السيارات وصححت تلك النتائج.
انتشرت استخدامات تلك العلوم بشدة بعد ظهور ChatGPT في نوفمبر 22 وهو أول روبوت دردشة متاح للعامة وقادر على البحث في كم هائل من البيانات بكل صورها، للإجابة عن سؤال ما أو تنفيذ مهمة معينة مطلوبة منه في صورة مكتوبة أو في صورة محادثة. بعد إطلاق هذا الموقع وإتاحته كثر جدًّا إنتاج التطبيقات التي تعتمد على تلك النظريات في استخدام المتاح من معلومات لإنتاج المطلوب منها، وصارت هناك تطبيقات متخصصة في إنتاج الموسيقى أو الافلام أو الرسوم المتحركة أو الأبحاث أو حتى البرمجيات. جميع تلك المنتجات تعتمد على ما هو متاح مسبقًا مع التعلم الدائم لتحسين النتائج والمخرجات.
لا شك أن قدرة الحاسبات على معالجة البيانات بسرعة شديدة تفوق بكثير قدرة الإنسان على الوصول لنفس النتائج بنفس السرعة. لذلك تمت الاستعانة بعلوم الذكاء الاصطناعي في الطب والهندسة والزراعة والتجارة وإدارة الأعمال وجميع العلوم والمجالات.
ولا شك أن أهمية هذا المجال واستخداماته وقدراته باتت تتطور بسرعة مذهلة تفوق قدرة الكثيرين على اللحاق بتلك التطورات. وهذا يأتي بنا إلى لب الموضوع في مقالي وهو محدودية الذكاء الاصطناعي. وليس المقصود بالمقال الاستهانة أو التقليل من شأن أحد أهم العلوم أن لم يكن أهمها في العصر الحديث ولكن تقييم مستقبله والنظر إليه بصورة موضوعية:
أولًا: متطلبات الذكاء الاصطناعي من قدرات الحاسبات: سرعة تطور البرمجيات ومعالجة البيانات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي تفوق بكثير سرعة تطور صناعة الحاسبات القادرة على استيعابها، من حيث السرعة المطلوبة لإجراء المعالجات الخاصة بالبرمجيات والقدرة على ابتكار فقرات تخزينية تواكب كم المعلومات والبيانات الذي يتوالد نتيجة استخدامات تلك العلوم المستحدثة. كما أن الذكاء الاصطناعي مبني على الشراهة في احتياجاته المستمرة والدائمة لأكبر كم من البيانات والجديد منها لاستدامته وتطويره. لذلك يحتاج الذكاء الاصطناعي لطفرة في تلك الصناعة تواكب احتياجاته .
ثانيًا: متطلبات الذكاء الاصطناعي من الطاقة: تعتمد تلك البرامج مع الكم الهائل من العلومات والبيانات على مراكز بيانات هائلة تستطيع استيعاب الحواسب والأجهزة التخزينية اللازمة. تنتج تلك الحاسبات والأجهزة كمية كبيرة من الحرارة ولا تعمل بكفاءة إلا في درجات حرارة باردة. لذا فبالاضافة لاحتياج تلك المراكز لكميات رهيبة من الطاقة اللازمة لتشغيلها، تحتاج أيضًا لكميات إضافية لازمة لتبريدها. في 2024 استهلكت مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي من الطاقة نحو 450 تيراوات وهو معادل مساو تقريبًا لأربع مرات ونصف مما استهلكته مصر من الطاقة في العام نفسه.
ومن المتوقع أن تتضاعف تلك المعدلات بحلول عام 2030. سوف يستدعي ذلك أن تزيد المدن الحاضنة لتلك المراكز من انتاجها للطاقة بصورة قد تفوق امكاناتها الحالية. ذّلك بخلاف التاثير على اسعار الطاقة في ظل ازدياد الطلب عن العرض في تلك الاماكن وتاثير ذلك الاجتماعي والسياسي على تلك المدن أو الدول.
ثالثًا: انعدام قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع: فتلك العلوم تعتمد على البيانات المتاحة وتركيب الجديد المبني عليها ولكنها غير قادرة حتى الآن على الإبداع القائم على الإحساس. فنشأة الفن على سبيل المثال ارتبطت بالتعبير عن إحساس الإنسان أو رغبته في تدوين وتوثيق ما حوله مستخدمًا إحساسه ومشاعره وخيالاته. تنعدم تلك القدرة عند الحاسبات إذ إنها لا تقدر على الإبداع المبني على الإحساس بل على تركيبات جديدة مبنية على مكونات قديمة لا تشبع نفس الإنسان غير المصمم لذلك. ومع ذلك يحاول العلماء كتابة برامج تدرب الحواسب على الفهم والإحساس.
أخيرًا مصدر القيمة للذكاء الاصطناعي: يستمد الإنسان قيمته ووجوده من الخالق فالله خلق الإنسان وأعطاه القيمة فوق باقي المخلوقات، وإن انعدمت الصلة انعدمت القيمة فلذلك يحاول بعض الناس هباءً من وجهة نظري الاستعاضة عن تلك القيمة بالمادة أو النفوذ. كذلك يستمد الذكاء الاصطناعي قيمته من الإنسان وإن انقطعت تلك العلاقة أو توقفت قدرة الإنسان على الإبداع فقد الذكاء الاصطناعي قيمته.
تهدف علوم الحاسب الآلي الخاصة بالذكاء الاصطناعي إلى الوصول إلى حاسب آلي يفكر ويتصرف مثل الإنسان بل ويطمح البعض في الاستعانة به في القيادة والسيطرة ولكن -من وجهة نظري- محدودية تلك العلوم ستكون مسؤولة في المستقبل عما قد تصل إليه من تطور ونتائج.