أحمد رضوان يكتب.. اقتصاد ما بعد صندوق النقد

بقلم أحمد رضوان رئيس التحرير والرئيس التنفيذي لجريدة حابي_ بداية.. لا أتوقع أن يكون البرنامج الحالي مع صندوق النقد الدولي هو الأخير، لأسباب متعددة، أكتفي منها بأن جانبًا كبيرًا من تدفقات النقد الأجنبي التي دخلت مصر على مدار السنوات الماضية وتحديدًا من دول الخليج، كانت جزءًا لا يتجزأ من حزم البرنامج، وبالتالي نحن لا نتحدث فقط عن قيمة التمويل الممنوح مباشرة من الصندوق، فهو الرقم الأقل، وإنما عن تمويلات أكبر من دول وتكتلات ومؤسسات تمويل أخرى، ارتبط دخولها بوجود برنامج معتمد من الصندوق، وبناء على ما مضى، ربما يمكن استنتاج ما قد يأتي ولو بحدود.

رغم توقعي، الذي أتمنى أن يخيب، فإن الأفكار المهمة التي انطلقت في الفترة الأخيرة، داعية إلى ضرورة البدء في الاستعداد لمرحلة ما بعد صندوق النقد الدولي، وصياغة برنامج وطني يراهن ويقوم أولًا على العقول المصرية، وثانيًا على الطاقات الكامنة في هذا الاقتصاد الضخم والمتنوع والثري بإمكانياته وموارده، ومن ثم الرهان على الاستثمار المحلي والأجنبي، ثم التصدير، هذه الأفكار لا يجب أن تمر مرور الكرام، أو أن يكون مصيرها الخفوت بعد التوهج، كحال الكثير من مخرجات المؤتمرات الاقتصادية، وليست المجالس الاستشارية والاستثمارية والوثائق المحفزة للقطاع الخاص، عنا ببعيدة.

E-Bank

يكفي أن نشير إلى أن القطاع الخاص بكل مكوناته وقطاعاته وأحجام شركاته، ما زال في انتظار الإعلان عن الضريبة الموحدة المقطوعة التي ستكون بديلًا عن عدد لا حصر له من الرسوم والأعباء غير الضريبية، وذلك في الوقت الذي تفاجأ فيه القطاع العقاري برسوم جديدة تحت اسم «علاوة تحسين» تم فرضها على أراض بالساحل الشمالي وطريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي. فهل كانت هذه العلاوة من بنات أفكار اللجنة الاستشارية للتنمية العمرانية، أو مرت عليها؟ وهل كانت أحد اشتراطات برنامج صندوق النقد الذي ربما نكون –ولست من مؤيديه- قد حملناه أكثر مما يحتمل؟!

لو كنا بصدد برنامج اقتصادي جديد، فالبداية يجب أن تكون بتحديد الهدف ثم القواعد والأدوار. الهدف يكاد يكون متفقًا عليه، وهو رفع معدلات نمو الاقتصاد والتشغيل بأقل تضخم ممكن. داخل هذا الهدف هناك الكثير والكثير من الأهداف الفرعية، التي هي في حد ذاتها طرق وأدوات للوصول، مثل رفع معدلات الاستثمار، وزيادة الصادرات، وخفض الواردات، وتنشيط السياحة.

أما القواعد فلن تخرج عن الشفافية وإتاحة المعلومات، والالتزام الصارم بالقوانين واللوائح والقرارات، وعدم تعديلها «وسط اللعبة» إلا في أضيق الحدود، وبعد حوار مجتمعي كافٍ.

تابعنا على | Linkedin | instagram

ببساطة، كيف تريد للمستثمر المحلي أن يتوسع وهو لا يعرف من سينافسه غدًا؟ وبأي مزايا وحوافز؟ وهل القواعد التي بدأ بها استثماره مستقرة؟ وإلى متى؟ هل سيدفع ضريبة جدول على مدار عمر المشروع؟ أم سيتكبد في لحظة ما السعر العام لضريبة القيمة المضافة؟ وما هي الرسوم الجديدة التي ستفرضها الدولة في السنوات العشر المقبلة؟ نسبتها ومسمياتها؟

هذه أسئلة المستثمر المحلي فما بالك بالأجنبي؟ وهل سيأتي المستثمر الأجنبي –بخلاف الصناديق السيادية وشركاتها- دون وجود مستثمر محلي قادر على إقناعه ونقل الثقة إليه وجذبه؟ بكل تأكيد.. لا، اللهم إلا في المناطق التي تتمتع بحوافز استثنائية، وبكل تأكيد أيضًا، ستظل ثقة المستثمر المحلي هي المؤشر الأهم لكفاءة بيئة الاستثمار ومناخ الأعمال في أي بلد.

هذه الأسئلة والتي تعكس في حقيقة الأمر عددًا لا بأس به من تحديات الاستثمار في مصر، لا تشمل التقلبات الخارجة عن إرادة الجميع، أزمة هنا، وحرب هناك، تقلبات أسعار الطاقة عالميًّا، مشاكل ترتبط بسلاسل الإمداد، منافسة إقليمية على جذب الاستثمار الأجنبي، رسوم جمركية خارجية مفاجئة، وغيرها من الأزمات التي رغم تأثيراتها الكبيرة، إلا أنها تندرج تحت –مخاطر اللعبة- التي يتقاسمها الجميع دون تمييز، لكن عدالة وشفافية قواعد بيئة الاستثمار الداخلية، لا يجب أن تكون من بين هذه المخاطر.

أما الأدوار، فقد حددتها الحكومة بنفسها، حينما أكدت أكثر من مرة بأنها ستعمل فقط في الأنشطة التي يعزف عنها القطاع الخاص، أو المرتبطة بالأهداف الإستراتيجية للدولة وأمنها، وستتخارج ولن ترفع استثماراتها في غيرها من القطاعات، ثم عززت الحكومة هذه النوايا والتصريحات، في وثيقة سياسة ملكية الدولة، التي شملت تفاصيل القطاعات التي ستتخارج منها الحكومة بصورة تامة، ولن تستثمر بها مجددًا، والقطاعات التي ستتخارج منها جزئيًّا، والثالثة التي لن تتخارج منها.

بعد مرور 3 سنوات على صدور الوثيقة، وجدنا أنفسنا أمام هذه الاسئلة: هل توقفت استثمارات الحكومة في القطاعات التي أكدت أنها لن تستثمر بها؟ هل تخارجت منها ولو بوتيرة بطيئة تؤكد فقط على وجود الاتجاه؟ هل بالغت الحكومة في تقديراتها؟ هل هذه الوثيقة كانت خطأ تم التراجع عنه؟ هل كان صندوق النقد هو المسؤول؟

ربما تأخرت إجابات هذه الأسئلة، لكنها جاءت، وفي أحيان كثيرة، أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي. فقبل نحو 3 أسابيع صدر القانون رقم 170 لسنة 2025، لينظم بعض الأحكام الخاصة بملكية الدولة، ويبدو أن العمود الفقري لهذا القانون لم يكن فقط وثيقة سياسة ملكية الدولة، وإنما أيضًا الخبرات التي تكونت من محاولات تطبيقها على مدار السنوات الثلاث الماضية.

القانون الجديد لم يكتفِ بالتعامل مع مضمون الوثيقة –والذي من المرجح إعادة صياغته بصورة أكثر واقعية على مستوى السياسات وقائمة الشركات– وإنما تعامل أيضًا مع مسؤولية وأدوات تنفيذ الوثيقة، والكوادر القائمة عليها، وآليات متابعتها، وقبل هذا وذاك، وضع القانون، وثيقة ملكية الدولة، داخل القالب القادر على إخراجها من نطاق المنهج أو الرؤية العامة، إلى نطاق الإلزام.

القانون الجديد مشجع، وخطوة هيكلية مهمة في اتجاه تنشيط دور القطاع الخاص واستعادة ثقته، يضاف إلى خطوات أخرى مثل قانون حل المنازعات الضريبية القديمة، والنظام الضريبي المبسط للأعمال الصغيرة والمتوسطة والذي استقطب عددًا لا بأس به من الممولين الجدد، هذا بجانب حالة الاستقرار التي يشهدها سعر الصرف، وتراجع المخاوف تجاه نقص العملة الأجنبية، وهو مؤشر بالغ الأهمية.

لماذا إذن تختلف القواعد وتتبدل الأدوار؟ ربما يكون التوافق مع سقف عجز الموازنة هو أحد أسباب فرض رسم هنا وتغيير ضريبة هناك، أو الدخول في استثمار ليس له بعد قومي أو إستراتيجي، أملًا في تعزيز موارد الدولة ومن ثم الحد من الاستدانة، ولكن التجربة أثبتت أن ما تجنيه الحكومة باليمين، تنفقه باليسار في صورة مساندات ومبادرات وحوافز استثنائية ودعم، وبحدود رضا أقل، وتشوهات أكثر، ناهيك عن تفتت هذه الموارد بين عشرات الجهات، هذا بخلاف التكلفة الباهظة التي تنعكس دائمًا وأبدًا في معدلات التضخم، التي تضر القطاع الخاص والحكومة والمجتمع معًا.

التوافق مع هدف عجز الموازنة يجب أن يكون «سهلًا» على الجميع، وذا آليات وخطط طويلة ومعلنة سلفًا، وهذا لن يحدث إلا في مناخ استثماري يتمتع بدرجة عالية من الوضوح والاستقرار، وذي سياسات راسخة تتوارثها الحكومات، لا أن تتبدل في زمن الحكومة الواحدة.

هذا يقودنا إلى نتيجة مفادها أن أي برنامج اقتصادي وطني سواء كان موازيًا أو ممهدًا لاتفاقات مع صندوق النقد الدولي، أو بديلًا عنها، يجب أن يتم وضعه بمشاركة واسعة من المجتمع والقطاع الخاص والحكومة، لا أن ينفرد به من سيكلف بتنفيذه، كما يجب أن يتحدد به شكل وهوية الاقتصاد بوضوح كافٍ، فإذا تم رفع شعار «دعه يعمل دعه يمر»، يجب الالتزام، أو لنصنع شعارًا آخر قابلًا للتنفيذ بلا تراجع.

الرابط المختصر