د. محمود محيي الدين يكتب.. عن أسعار الفائدة والذهب واقتصاد عموم الناس
بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ باتَ من المحتَّم بعد صدورِ تقرير سوق العمل في الولايات المتحدة، الذي يمكن وصفُه بالمحبط عن مستويات التشغيل، أن يقومَ البنك الفيدرالي في اجتماعه القادم، بتخفيض أسعار الفائدة على الأقل بربع نقطة مئوية، أو 25 نقطة أساس لإنقاذ سوق العمل التي تزداد ضعفاً.
ويأتي الاجتماع، الذي سينتهي إلى هذا القرار في السابع عشر من هذا الشهر، وسط أجواء غير مسبوقة مهددة استقلال البنك المركزي، ومعه أهم ما يملكه وهو مصداقيته. إذ يتعرض البنك لضغوط سياسية متباينة تجاوزت في حدتها محاولات سابقة، من قِبل البيت الأبيض، للنيل من حرية اتخاذ أهم قراراته المتعلقة بالسياسة النقدية، وهي تحديد أسعار الفائدة وفقاً لمعطيات موضوعية وأهداف اقتصادية. وتتراوح هذه الضغوط بين التسفيه علناً من رئيسه، والتشكيك في كفاءته، والتهديد بعزله، والسعي لإقالة أحد أعضاء مجلسه والدفع بآخرين من الموالين أعضاءً، والتدخل في ثوابت حوكمته من القاعدة إلى القمة.

وكأنَّه لا يكفي ما يواجه البنك الفيدرالي من معضلة مركبة بتراجع مستويات التشغيل، وضعف سوق العمل، تزامناً مع عدم السيطرة الكاملة على التضخم الذي ما زال يتجاوز معدل زيادته الهدف المعلن وهو 2 في المائة سنوياً. ويفسر المعلق الاقتصادي بريان كيم تدهور سوق العمل في العام الحالي بأربعة عوامل؛ أولها تأثير مخطط تخفيض العمالة الحكومية في بداية عهد الرئيس ترامب؛ وثانيها الأوضاع الاقتصادية والسوقية، ردَّ فعلٍ لحالة اللايقين، والتضخم وتغيرات الطلب؛ ثالثاً ما يسببه إغلاق محال ومشاريع من تخلص من عمالة؛ ورابعاً تداعيات الأثر السلبي قصير الأجل لتسارع التحول التكنولوجي في بعض الأنشطة إلى تخفيض للعمالة فيها.
ويواجه البنك الفيدرالي اختباراً عاجلاً لمصداقيته، فهو إن خفض أسعار الفائدة كما هو مقدر ومبرر، قد يفسر بأنه إذعان لضغوط البيت الأبيض، وبأن أسعار الفائدة قد تم تسييسها. فتأتي قراءة لوضع الدولار اليوم بصفته عملة احتياطي، بأنه تم تسليحه في المواجهات الدولية، بعد إجراءات حجب استخدام آلية السويفت لتسوية المعاملات عن الروس بعد الحرب الأوكرانية.
كما أن أسعار فائدته تتعرَّض في تحديدها لضغوط سياسية متزايدة لخصتها الاقتصادية شيبنيم كالملي في مقال تساءلت فيه عن أسباب «حب الحكام الشعبويين لتخفيض أسعار الفائدة»؛ وكان الرد بأن دافعهم الحقيقي ليس لانتهاجهم مدرسةً تتهم ارتفاعها بزيادات في التضخم، ولكن لدعم توجههم السياسي في الأجل القصير، ولو بتكاليف متزايدة ستلاحق من يأتي بعدهم.
ومما سيترتب على خفض أسعار الفائدة، تزايد التخوف من ارتفاع التضخم، مع مهددات الاستقرار السعري وسلبية التوقعات، بسبب الإجراءات الحمائية ورفع الرسوم الجمركية على الواردات، ومعها فرض القيود على الهجرة، التي تزيد من احتمالات زيادة تكاليف الاستهلاك والإنتاج معاً.
ولكن كما ذكرت في مقال سابق، فإن الخوف من البطالة قد غلب التخوف من التضخم بما عكسته تصريحات رئيس البنك الفيدرالي في جاكسون هول الشهر الماضي بما يحسم الاتجاه نحو التخفيض. وفي أي حال، لا ينبغي تجاهل زيادة احتمالات تضخيم فقاعات الأسهم المتداولة مع سعار أسعار شركات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، بتوجيه مزيد من السيولة إليها، على النحو الذي حذَّر منه الاقتصادي روشير شارما في مقال منشور منذ أيام بصحيفة «الفاينانشال تايمز».
ليس غريباً إذن أن تواجه الأصول المالية الأمريكية، بدايةً من الدولار إلى أذون الخزانة والسندات الحكومية المقومة به، تحديات كبرى في الأسواق الدولية. فلأول مرة منذ أكثر من ثلاثة عقود، يزيد مكون الذهب في الاحتياطي من النقد الأجنبي على السندات الأمريكية.
ومن بداية العام ارتفع الذهب بأكثر من 35 في المائة، ونقلت شبكة «رويترز»، عن بنك الاستثمار «جولدمان ساكس»، أن المعدن الأصفر في طريقه لتجاوز 4000 دولار للأوقية في منتصف عام 2026، ارتفاعاً من سعر 3579 دولاراً في بدايات هذا الشهر، وأنه سيتجه إلى ما هو أعلى من ذلك إذا ما استمرت محاولات انتهاك مصداقية البنك الفيدرالي، وقد يصل إلى 5000 إذا ما وظف 1 في المائة من الاستثمارات الخاصة في الولايات المتحدة في الذهب بدلاً من أسواقها. فمع زيادة الذهب بريقاً نُذرٌ بسراب وعود بعهد ذهبي للاقتصاد.
وعابراً سلوك المستثمرين المحترفين ومؤسساتهم، التي لن تضيع فرصاً مع هذه التغيرات، إلى عموم الناس. ففي دراسة ميدانية قمت بها في عام 1995 على السلوك الادخاري للأسر الريفية، في أربع قرى تابعة لمركز كفر شكر في دلتا مصر، شكل الذهب مكوناً مهماً في محفظة الادخار العيني والمالي، للعينة المختارة. إذ جاء الذهب في المرتبة الثالثة بعد النقود السائلة والأطيان الزراعية. وتقليدياً تمتعت مصر كبلدان نامية غيرها، وبحماس أكبر وانتشار أكثر لسوق الذهب بسيولة عالية، وحرية في الشراء والبيع والرهن بشفافية.
وبسؤال المبحوثين عن أسباب احتفاظهم بالذهب، أفادوا بثلاثة، كان أولها التأمين، بما يفسر إدراكهم دوره في التحوط ضد تقلبات الزمن والصدمات المتوقعة وغير المتوقعة، وجاء الادخار سبباً ثانياً، والزينة سبباً ثالثاً. ولا يتعارض اقتصادياً أي من هذه الأسباب مع الأخرى في دوافع الاحتفاظ بالذهب.
فكما أوضحت هذه الدراسة، فبالإضافة إلى إدراك عموم الناس أن الذهب أصل مرتفع السيولة، فهو وسيلة ناجعة للتوقي من التضخم. إذ يحتفظ الذهب بمعدل زيادة حقيقية في سعره، خاصة مع غياب بدائل لما يحققه من أغراض التأمين والادخار، وبعض من التحلي به للزينة، ولو عند الأزمات.