د. ماهر عشم يكتب.. الخروج إلى النهار

اقتراح لتنظيم ودمج الاقتصاد الرمادي

بقلم د. ماهر عشم رئيس شركة كومتريكس للتجارة الإلكترونية _ الخروج إلى النهار هو تسمية قدماء المصريين للنصوص الجنائزية التي كانت توضع مع الموتى، والتي عرفها علماء المصريات لاحقًا بـ”كتاب الموتى”. سُمي بهذا الاسم لأن الحياة الأخرى في مصر القديمة لم تكن فناءً بل بداية لرحلة الروح إلى “النهار” والنور والنظام، وتمثل الحياة الأساسية والخلود، بينما كانت الحياة الدنيا مرحلة انتقالية وفوضوية اكتسبت فيها الروح خبراتها اللازمة لعبور العالم الآخر بنجاح.

استعرت العنوان من الأجداد لما فيه من إيجابية ولأن مقالي هو دعوة ومقترح لثلاثة وزراء لإزاحة مطب صناعي على طريق الخروج من ظلمة الفقر إلى نهار التنمية المستدامة.

E-Bank

تختلف أعداد الفقراء في مصر باختلاف المعايير التي يبنى على أساسها التصنيف، ولا توجد لدينا حتى الآن مقاييس رسمية واضحة مواكبة لمعدلات التضخم المرتفعة التي عانت منها مصر، والتي كان السبب الرئيسي لها هو انخفاض قيمة العملة الوطنية. وبلغ معدل الفقر 29.7% في آخر نسخة منشورة من «بحث الدخل والإنفاق» الذي أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في ديسمبر 2020، وكانت بياناته تغطي حتى مارس 2020.

وفي دراسة أخرى مستقلة أجرتها مستشارة الجهاز، 2023 ارتفع معدل الفقر إلى %35.7، مع ارتفاع خط الفقر إلى 1478 جنيهًا شهريًّا، وارتفاع خط الفقر المدقع إلى 1069 جنيهًا شهريًّا. أي أنه على أقل تقدير هناك ثلاثين مليون مصري يعانون من الفقر.

أما عن الإحصاءات الرسمية لمعدل البطالة فقد بلغ 6.1% حسب آخر تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن العام الجاري. نستنتج من الأرقام السابقة أن جزءًا كبيرًا من القوى العاملة ما زال يعاني من الفقر الشديد لانخفاض الاجور في كثير ممن لم تشملهم البطالة بالتقرير.

تابعنا على | Linkedin | instagram

وعلى صعيد آخر بلغ معدل المساهمة في النشاط الاقتصادي وهو النسبة المئوية للسكان في سن العمل (15 عامًا فأكثر) الذين يشاركون في القوى العاملة، سواء كانوا عاملين أو باحثين عن عمل في مصر 45.5% من إجمالي السكان. سجل معدل المساهمة لدى الذكور 69.8%، بينما وصل لدى الإناث إلى 19.8%.

وتؤكد تلك البيانات أن نصف سكان مصر تقريبًا وهو 30% أكثر من تقدير الجهاز – لحجم القوى العاملة التي تحتسب على أساسها البطالة يحتاج إلى عمل نظرًا للضغوط الاقتصادية التي يواجهها السكان.

وبالرغم من أن المؤشرات الرسمية لسوق العمل والبطالة تصب دائمًا في صالح الذكور عن الإناث تفاجئنا مؤشرات التمويل متناهي الصغر بتعادل الكفتين إذ إن عدد المستفيدين من التمويل العام الحالي وصل أكثر من 4.5 مليون عميل اكثر قليلًا من نصفهم من الإناث. وهذا قد يكون دليلًا على احتياج الإناث إلى مورد للرزق دون الإمكانية للتواجد في سوق العمل سواء للعوامل البيية والثقافية أو لاحتياج التواجد بالمنزل لواجبات الامومة والتي تتضاعف بكون الكثيرات منهن عائلات لأسرهن.

لذلك ففي التمويل متناهي الصغر والمشروعات متناهية الصغر حل سحري للخروج من الفقر وزيادة النشاط الاقتصادي بل وإمكانية استغلال تلك المشروعات في التصدير وحفظ التراث. إذ إن كثيرًا من تلك المشروعات له علاقة بتراثنا غير المادي بدايةً من المأكولات التقليدية كصناعة السيدات للفطير أأو الجبن القريش ومحاولة بيعها في طرقات المدينة إلى حتى المشغولات اليدوية كالنسيج على النول الذي يحاول شيوخ مركز نقادة الحفاظ عليه من الاندثار أو فن التُّلّي الذي غزا أسواق الموضة العالمية.

تكمن إشكالية غالبية تلك المشروعات في الملاحظات التالية:

أولًا: هؤلاء المواطنون يحاولون البقاء على قيد الحياة بكرامة ولا يسعون للتربح الرهيب لذلك وجب النظر إليهم على هذا الأساس.

ثانيًا: تلك الأنشطة تساهم في رفع العبء على كاهل الدولة بتوفير فرص العمل والتي حتى إن توفرت فإن ظروف الكثير من المكون النسائي لسوق العمل قد تحول ظروفهن من التواجد لتلك الفرص. كما أن معظم فرص العمل موجودة بالمدن الكبرى ولا تصل للريف والمناطق البعيدة.

ثالثًا: غالبيتها تقع ضمن الاقتصاد الرمادي غير المسجل ولن يجرؤ أحدهم على تسجيل تلك الأنشطة لتعاظم التكلفة والمتطلبات أمام إمكاناتهم شبه المعدومة وللخوف الدائم من الملاحقة الضريبية.

رابعًا: بناء على ما سبق لا تستطيع تلك الأنشطة من إصدار فواتير إلكترونية ولا أعتقد أنه من الواقعية أن نتوقع ذلك وأدعو أي مخالف في الرأي من السادة المسؤولين لاصطحابي في زيارات لتلك المشروعات للتحقق من وجهة النظر. ذلك يؤدي ذلك إلى حرمان هؤلاء من التعامل مع الاقتصاد الرسمي لاحتاج الأخير للفواتير لإثبات التكلفة وانعدام قدرة الأول وخوفه من اتخاذ تلك الخطوة. فلو مثلًا هناك سيدة تعلمت صناعة محافظ من الجلود وشركة تريد شراءها على سبيل الدعاية فلن تتمكن الأولى من إصدار فاتورة للأخيرة وبالتالي ستظل عاجزة عن التعامل مع تلك المؤسسات.

كان وزير المالية والذي يقدر جهوده الجميع قد أشرف على إصدار قانون لتحفيز وتشجيع الشركات الصغيرة والذي سيكون له بالغ الأثر في تلك شركات ومساهمتها في الاقتصاد. وعلى نفس التنهج اقترح دراسة مقترحي التالي:

استحداث قانون يتيح لأفراد أو مؤسسات أن يكونوا مندوبين في تسجيل المشروعات متناهية الصغر وشطبها بإجراءات غاية في البساطة ورسوم تكاد تغطي التكلفة مع هامش ربح قليل. ثم إضافة إمكانية إصدار فواتير إلكترونية برقم ضريبي مقطوع لحجم المبيعات يكون متناسبًا مع تلك الأنشطة متناهية الصغر ويحصل عند إصدار الفاتورة. تلك الفكرة مستوحاة من الكتبة الذين كانوا يمكثون أمام مكاتب الشهر العقاري في الماضي القريب لمساعدة المواطنين الأميين على قضاء حاجاتهم.

كما يمكن إلحاق تلك الخدمة بالخدمات الموجودة على أجهزة التحصيل الخاصة بشركات المدفوعات لانتشارها الجغرافي أو مؤسسات كالبريد أو البنك الزراعي للسبب نفسه.

مقالي دعوة للأفاضل والذين هم محل تقدير وإعجاب الجميع وزراء المالية والتضامن الاجتماعي والثقافة إلى التفكير في اقتراح يخرج بإخوتنا المواطنين من ظلام وفوضى الفقر والاقتصاد غير الرسمي إلى نهار يساهم في مساندتهم للعيش بكرامة. بذلك نتمكن من المساهمة في مكافحة الفقر وتحويل جزء أكبر للاقتصاد الرسمي والحفاظ على التراث غير المادي من الاندثار مما يضيف لبلدنا قسمة إنسانية واقتصادية وسياحية وتراثية. مقالي هو دعوة للخروج إلى النهار.

الرابط المختصر