د. محمود محيي الدين يكتب.. «سي بام»

بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ «سي بام» ليست من الألفاظ العربية ولكنها ستكون من الدخيلات عليها، وهي ليست اسماً لفيروس جديد، ولكنها من آفات التجارة الدولية المعاصرة بإجراءاتها الأحادية، ونتائجها السلبية التي ستُبرَّر، كالعادة، بأنها غير مقصودة، وإن كان المقصود منها ليس أقل سوءاً.

فـ«سي بام» تشكِّل الأحرف الأولى باللغة الإنجليزية لما تُعرف بـ«آلية تعديل حدود الكربون»، التي سيطبقها الاتحاد الأوروبي كإجراء منفرد من دون تفاوض أو تشاور مسبق مع الشركاء التجاريين، أو مراجعة في إطار منظمة التجارة العالمية.

E-Bank

واعتباراً من شهر يناير 2026 سيُخضع الاتحاد الأوروبي وارداته من قطاعات ستة حيوية لقيود تجارية، تُلزم مستورديه للسلع كثيفة الكربون بشراء شهادات كربون تعادل سعر المنتجات المستورَدة بتلك المنتَجة محلياً في أوروبا.

ويمثل هذا تكلفة إضافية، بما سيجعل «سي بام» كلمةً كثيرة التردد على ألسنة منتجي ومصدري القطاعات الستة المستهدفة، وهي الحديد والصلب، والألومنيوم، والأسمنت، والكهرباء، والأسمدة، والهيدروجين.

وقد يرى البعض أن هذه الآلية، قد أتت حماية من تغيرات المناخ، ولتحفيز التحول نحو الاقتصاد الأخضر، ولعدالة الفرص بين المنتج المحلي الأوروبي «الملتزم» ومنافسيه من الخارج.

تابعنا على | Linkedin | instagram

وقد لا يعلم هؤلاء أو يتناسون أن هناك إجراءات متفقاً عليها، بمفاوضات مضنية، للتحول العادل لاستخدامات الطاقة وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغيرات المناخ.

ومن عجب أن يتم الاتفاق على مسار دولي وفقاً لإطار تشهده وتقره قمم المناخ، ثم تُنتَهك ترتيبات هذا المسار بإجراءات منفردة ينبري أصحابها بادعاء أنها متوافقة مع قواعد منظمة التجارة العالمية، من دون أن يصدر من المنظمة رسمياً ما يفيد توافقاً لـ«سي بام» معها أو اختلافاً. فهي لم تحقق في الأمر بتفصيل لحالة، وليس لها أن تبت بالضرر إلا حال وقوعه فعلاً وتبيان أثره، وهو ما سيستغرق زمناً، وخلال هذا الزمن سيكون الضرر قد وقع بتكاليف يتحملها المنتجون والمصدرون واقتصادات بلدانهم النامية.

ووفقاً للنهج الحالي لآلية «سي بام»، وأساليب تنفيذها، وتحصيل إيراداتها التي ستؤول للاتحاد الأوروبي، الذي يعتزم إنفاقها على منتجيه على حساب منتجي البلدان النامية، سيكون هناك مزيد من تفتيت التجارة الدولية وزيادة منازعاتها، وتعميق التفاوت بين شركاء التجارة بالجور على الأضعف استعداداً وإمكانية، وإثقال كاهله بأعباء إضافية.

ومن الأعباء ما يتمثل في تكاليف الإفصاح الإضافي، وإن تحملها ظاهرياً المستورد الأوروبي فسيحيلها إلى مصدره من البلدان النامية. ومن الأعباء الأكبر فرض تغييرات متسارعة في طرق الإنتاج، وما قد تستلزمه من استعجال في تخارج غير محسوب بإهدار للعملات ولرؤوس أموال. ومع ضيق فرص المساندة المالية المحلية في البلدان النامية لضغوط شتى على موازناتها، ومع تراجع التمويل الخارجي الميسر، تزداد مصاعب التغير الهيكلي المنضبط، ويصبح التحول العادل للطاقة في عداد المفقودات من اتفاقات دولية مبرمة.

وقد أغنت دراسات الاقتصادية، إيستر دوفلو، الحائزة جائزة نوبل في الاقتصاد، فيما أطلقت عليه «الدَّين الأخلاقي»، عن الجدل حول مسؤولية بلدان متقدمة في أزمة تغيرات المناخ باستمرار انبعاثاتها فوق المتوسطات الحرجة. وإن غيرت تلك البلدان شيئاً فهو في بعض أنماط إنتاجها، بينما ظل أسلوب استهلاكها من دون تغير ملموس. فما حدث هو مجرد نقل مصدر إنتاج الانبعاث الكربوني من أراضيها مع استمرار استهلاكها لمنتجاته، ثم ها هي تفرض على منتجاته ما تستهلكه فرائض مالية بمسميات شتى، تستخدمه في دعم اقتصادها.

وفي دراسة صدرت الشهر الماضي في شكل ورقة عمل أعدّها خبراء في صندوق النقد الدولي، عن الأثر الاقتصادي الكلي لآلية «سي بام» على بلدان الشرق الأوسط ووسط آسيا، أخرجت أرقاماً صادمة بأنه رغم الأثر المحدود على النواتج المحلية الإجمالية لهذه البلدان، فإن الأثر على المنتجات المستهدفة كالحديد والصلب، والأسمدة، والأسمنت يعادل فرض تعريفة جمركية يبلغ متوسطها 14 في المائة على صادراتها.

ووفقاً لمقترح عرضته مع المديرين التنفيذيين للجنتين الاقتصاديتين الإقليميتين للأمم المتحدة المعنيتين بالبلدان العربية والأفريقية، نشره موقع «بروجكت سينديكيت» في شهر يونيو الماضي، فهناك ضرورة لإعادة النظر بشكل شامل لهذه الآلية قبل تطبيقها السنة المقبلة. فبدلاً من فرض ضريبة جديدة خلافية تهدر قواعد الانتقال العادل للطاقة،

يجب التشاور في الأسس التي قامت عليها آلية «سي بام»، وطرق احتساب ما تفرضه من أعباء في ظل عدم وجود سعر متفق عليه لطن الكربون، وسبل تحقيق تعاون تكنولوجي يخفض الانبعاثات من هذه القطاعات وسبل تمويله. وكذلك يجب الاتفاق على كيفية تحصيل الإيرادات، ومدى قانونية ومصداقية استئثار الدول المستوردة في تحصيله لحسابها مع تعذر فرض ضرائب كربون في البلدان المصدرة لعدم اكتمال أسواق التسعير ونظم الرقابة عليها؛ إذ يبلغ سعر طن الكربون في النظام الأوروبي أكثر من 10 أمثال لمتوسطات عربية وأفريقية؛ فكيف سيتم الاحتكام لتسعير كربوني أو مقارنة ضرائب كربون في التداول عبر الحدود.

في زيارة أخيرة للبرازيل لاجتماعات أسبوع المناخ بها، ولقاءات تمت مع ممثلي الرئاسة المقبلة للقمة الثلاثين للمناخ في شهر نوفمبر المقبل، اقترحت عليهم أن يعقدوا اجتماعاً بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وتجمعات البلدان النامية الأخرى وممثلي صناعاتها بحضور سكرتارية الاتفاقية الإطارية لتغيرات المناخ ومنظمة التجارة العالمية، على ألا ينفض اجتماعهم من دون حل ملزم لمعضلة «سي بام» بأن تُراجع وتُعدَّل وفقاً للإطار المتعدد الأطراف. فكفى تفتيتاً للاقتصاد العالمي، وكفى جوراً على قواعد المنافسة والكفاءة والعدالة بادعاء التصدي لتغيرات المناخ.

الرابط المختصر