د. محمود محيي الدين يكتب.. مستقبل التنمية بين إنكار ونكران
بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _قمتان سنويتان قريبتا الانعقاد، من المبالغة القول بأنهما مرتقبتان إلا من دوائرهما القريبة، وكذلك ممن ما زالت آمالهم متعلقة بما قد تسفر عنه مثل هذه الاجتماعات الرفيعة المستوى في الحضور للتصدي لتحديات البشرية وتعزيز فرص النمو والتنمية. القمة الأولى ستعقد في البرازيل بداية من العاشر من الشهر الحالي، وهي الثلاثون من قمم المناخ المتعاقبة منذ قمة برلين التي انعقدت في 1995.
والقمة الأخرى ستستضيفها جنوب أفريقيا لمجموعة العشرين، في 22 الشهر الحالي، وهي تعقد أيضاً سنوياً بانتظام منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.

وقد أصاب هذه القمم مؤخراً ما أصاب العمل الدولي المتعدد الأطراف من وهن، وصار مجرد انعقادها في حسبان البعض جديراً بالتنويه، وإن لم تسفر عن إنجاز يذكر وبعدت نتائجها عن مقاصدها. وكان من أفضل القمم مؤخراً ما جرى وصفه بأنه أفضل من المتوقع وأقل من المأمول. ولا أعتقد، باعتبار ما صدر عن اجتماعات تمهيدية وتحضيرية، بأن القمتين القادمتين ستكونان أفضل حالاً رغم جهد المنظمين والمستضيفين.
فالعالم يعاني أربع علات منغصة بلا حلول ناجعة في الأفق لغياب الإرادة السياسية الإصلاحية التوجه، رغم توفر الإمكانات:
العلة الأولى: تشابك معضلات زيادة مديونية البلدان المتقدمة، وارتفاع تكاليف خدمة الديون البلدان النامية، وتسارع أثر المربكات التكنولوجية، مع تأجج الحروب الاقتصادية، واحتدام الصراعات الجيوسياسية. ربما تعجَّل البعض فراجعوا تقديراتهم إيجابياً بعد الاجتماع الأخير بين رئيسي الصين والولايات المتحدة، وما جرى الاتفاق عليه بشأن التعريفة الجمركية، والمعادن الحرجة، والفينتانيل، ولكن الأسواق اعتبرتها مهدئات غير حاسمة تحتاج إلى إجراءات أعمق لتيسير العلاقات بين أكبر اقتصادين، وتتطلب الصمود ليختبر الزمن مصداقيتها. فعمق التباين في المصالح والتوجهات المستقبلية بين البلدين أكبر مما تم تناوله في الاجتماع الأخير، الذي جرى على هامش اجتماعات التعاون الاقتصادي الآسيوي الباسيفيكي في كوريا.
العلة الثانية: تراجع التمويل الدولي الميسَّر بسبب إلغاء المساعدات الإنمائية من دول كالولايات المتحدة، بلا رجعة قريبة، وتخفيض جسيم لها من دول أوروبية بسبب ضيق حيز التمويل وتغليب الإنفاق على الدفاع. فضلاً عن تراجع القدرة التمويلية للمؤسسات المالية التنموية، بخاصة مع تحجيم فرصها لزيادة رؤوس أموالها، لاعتبارات سياسية بالأساس، ترفض الاعتراف باختلاف عالم اليوم عن ظروف نشأة هذه المؤسسات وتطورها بعد الحرب العالمية الثانية، والدور الاقتصادي الأكبر لبلدان عالم الجنوب.
العلة الثالثة: زيادة تكلفة التمويل للبلدان النامية، التي لا يمكن تبريرها بالمخاطر الفعلية المحسوبة للائتمان والاستثمار. وهو ما أكدته قاعدة بيانات مخاطر الأسواق الناشئة الصادرة عن مجموعة المؤسسات المالية الدولية، وتشمل تفصيلاً لحالات التخلف عن السداد على مدار ثلاثين سنة. وتؤكد أن فرص التمويل للمشاريع تتيح مجالات للمستثمرين باعتباراتهم عن المخاطر والعائد، ولكنها لا تترجم للواقع بسبب تحيزات مسبقة، وتصورات غير واقعية مبالَغ فيها.
العلة الرابعة: والتي يتجلى فيها كسابقاتها حالة إنكار الواقع، فضلاً عن نكران التعهدات بالنكوص عنها فهي تداعيات تغيرات المناخ. وها هو تقرير الإسهامات المحددة وطنياً الصادر بمناسبة القمة الثلاثين يؤكد أن الانبعاثات الضارة بالمناخ من 64 دولة ستنخفض بمقدار 17 في المائة منذ عام 2019. ولكن الدول المسؤولة عن ثلثي الانبعاثات لم تقدم تقاريرها، كما أن المستهدف من تخفيض للانبعاثات حتى 2035 يشير إلى تراجع بمقدار 6 في المائة فقط. وأصبح من المقدر أن هدف السيطرة على الانبعاثات لمنع زيادة احترار الأرض بأعلى من 1.5 درجة وفقاً لاتفاق باريس لعام 2015.
ويبدو أن التعايش والتكيف مع عالم أكثر سخونة في بقاعه هو التوجه الأكبر احتمالاً. وقد أثار مؤسس «مايكروسوفت»، وبعدها أكبر منظمة خيرية للعمل الطوعي بيل غيتس جدلاً بما أشار إليه من أن تغير المناخ خطير جداً ولكنه لا يشكل خطراً وجودياً. وأنه لا يمكن، في ضوء تراجع المساعدات الإنمائية من البلدان المتقدمة، تخفيض التمويل الموجه للصحة، كعلاج الملاريا، والتنمية عموماً من أجل تخفيض الانبعاثات الضارة في الأجل القصير، بخاصة مع زيادة الطلب على الطاقة لأكثر من الضعف مع حلول عام 2050.
ورغم أن غيتس يراهن على الأثر الإيجابي للتكنولوجيا والابتكار التي أسهمت في تخفيض الانبعاثات المقدرة بنحو 40 في المائة خلال السنوات العشر الماضية بفعل كفاءة الطاقة الجديدة والمتجددة، فإن هذا يحتاج إلى اطراد في التطور واستمرار في التحفيز والتمويل وهو ما يواجه تحديات. وفي حين نجد توسعاً في هذا التوجه في الصين وآسيا، فإن تخفيض الدعم على إنتاج السيارات الكهربائية ومكوناتها سيسفر عن انخفاض حاد لمبيعاتها في السوق الأميركية، وفقاً لتوقعات شركة «جنرال موتورز».
إن عالماً أكثر احتراراً سيسفر عن معوقات حرجة للتنمية والصحة. وفي تقرير أخير بصحيفة «الفاينانشال تايمز» عن ارتفاع الحرارة والصحة الإنجابية يشير إلى تزايد مشكلات الإنجاب للحوامل كواحدة من الطوارئ الصحية العامة. وذلك وفقاً لمائتي دراسة تثبت تدهور الأوضاع الصحية للحوامل وحديثي الولادة بخاصة على الشرائح الأفقر، وفي البلدان المتوسطة والمنخفضة الدخل بزيادة في حالات تعرضها للمخاطر بمقدار 50 في المائة عن البلدان الأعلى دخلاً.
ولا يوجد بديل عملي إلا بما اتُفق عليه في قمة شرم الشيخ للمناخ من تحول عادل للطاقة، مع تمويل أولويات التكيف وخاصة فيما يتعلق بالمياه والزراعة، وحماية مواطن العيش والسكن والعمل، والصحة. فلا خلاف بين العمل المناخي المنضبط والتنمية المستدامة إلا بما يختلقه البعض وفقاً لأغراضهم.












