د. محمود محيي الدين: مصر بحاجة إلى برنامج شامل للتطوير والتحديث بعد انتهاء برامج صندوق النقد الدولي
أكد الدكتور محمود محيي الدين، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة لتمويل التنمية المستدامة، أن مصر في حاجة لبرنامج شامل للتطوير والتحديث والتنويع والنمو الاقتصادي لمرحلة ما بعد برامج صندوق النقد الدولي والتي سينهي آخرها في العام المقبل، على أن يكون هذا البرنامج محددًا بالتزامات وجهات مكلفة بالتنفيذ ومواقيت وآليات تنفيذ واضحة وموارد محددة تحقق تنافسية الاقتصاد وزيادة فرص العمل والقضاء على الفقر وتوطين التنمية في قرى مصر ومدنها.
وقال محيي الدين، في حوار مع بودكاست منصة “زاوية” التابعة لشركة بورصة لندن، إن مصر اتخذت في سبيل تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي خطوات إيجابية نحو السيطرة على التضخم، ورفع معدلات النمو، والسيطرة على عجز النسبية الموازنة العامة للدولة، وتخفيض الدين العام وعجز الموازنة العامة، مع تقليص عجز الحساب الجاري لميزان المدفوعات، لكننا في حاجة إلى تحقيق المزيد من التقدم في هذه الخطوات خلال الفترة المقبلة لتحقيق نقلة نوعية فيما يتعلق بمضاعفة معدلات النمو وزيادة حجم الاستثمارات وتعزيز الصادرات.

وأفاد محيي الدين بأن شعور المواطنين بثمار الاستقرار الاقتصادي والنمو والتنمية لن يحدث بالاطلاع على أرقام الاقتصاد الكلي ولكن مع توافر فرص العمل اللائقة التي توفر الدخول المناسبة وتغطي احتياجات المواطنين الأساسية، على أن تكون فرص العمل هذه منتشرة في مختلف القطاعات وفي مختلف المدن والأقاليم، بحيث تتجنب مصر حالة تشهدها بعض الدول ومنها الولايات المتحدة بانفصام العلاقة بين النمو والتشغيل، موضحًا أن الاقتصاد المصري يتميز عن الكثير من اقتصادات المنطقة العربية وأفريقيا ومنطقة المتوسط بالزخم البشري الضخم والتنوع القطاعي وهي عوامل إيجابية يجب البناء عليها والاستثمار فيها لتحقيق الأهداف الاقتصادية والتنموية للبلاد.
وأوضح محيي الدين أن السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية هي جهد تجميعي لوثائق متاحة أعلنتها الحكومة مثل رؤية 2030 وملكية الدولة والإصلاحات الهيكلية، والمطلوب عملياً هو برنامج تنفيذي متكامل ومتسق وممول يتمتع بمصداقية وآليات للمتابعة والحوكمة ويجب يتم الانتهاء من وضعه قبل نهاية الربع الأول من العام المقبل على أن يكون محدد المسئوليات وجهات التنفيذ وفق إطار زمني واضح وآليات محددة وأساليب حشد التمويل، مشيرًا في هذا السياق إلى أن تمويل التنمية يجب أن يكون تمويلًا مشتركًا يجمع مصادر التمويل العامة من الموازنة الموحدة للدولة والاستثمار الخاص وباقي الموارد المالية المحلية والخارجية، كما يجب أن يهتم برنامج التمويل بحسن إدارة الديون والأصول العامة.
ونوه محيي الدين إلى أهمية الدفع بحركة الاستثمار والتجارة الخارجية والاعتماد على التحول الرقمي والتكنولوجيا والابتكار كممكنات لتنفيذ هذا البرنامج الوطني للتنمية الاقتصادية، لافتًا إلى وجود عدد من الجهات المحلية التي يمكن أن تتولى عملية حوكمة ومراجعة تنفيذ هذا البرنامج بتمكين البرلمان بغرفتيه مجلس الشيوخ ومجلس النواب، فضلًا عن التعاون مع مؤسسات داخل البلاد وخارجها في إطار المراجعة والإفصاح بما يضمن المصداقية ويعزز ثقة المواطن والمستثمر المصري قبل العربي والأجنبي والمؤسسات الدولية في توجه وأداء التطوير والتحديث والتقدم للاقتصاد المصري .
وفيما يتعلق بتحقيق النمو والتنمية، قال محيي الدين إن الصين والهند تحولتا من بلدين يتمركز بهما معظم فقراء العالم قبل ثلاثين عامًا إلى الإعلان عن القضاء على الفقر المدقع عام 2020 في الصين وعام 2024 في الهند، وهو الهدف الذي تحقق بفضل النمو القائم على الاستثمار في البشر وتحسين خدمات الرعاية الصحية والتعليم، والاستثمار في البنية الأساسية والتكنولوجية، وتعزيز التنافسية ومعدلات التصدير، مع الالتزام بانضباط الاقتصاد الكلي.
وأوضح محيي الدين أن برنامج النمو الاقتصادي والتنمية يجب أن يكون شاملًا بحيث لا يشهد اختلالات أو تحسنًا في بعض المؤشرات وتراجعًا في أخرى، قائلًا إن ما قامت به الدولة المصرية من بدايات سيطرة على الدين وعجز الموازنة العامة للدولة يجب أن يستمر على أن يتم توحيد الموازنة العامة للدولة.
وأشار محيي الدين إلى أهمية توحيد الأولويات في برنامج الإصلاح الاقتصادي بحيث تمنح الأولوية لتعزيز الإيرادات وليس مجرد تخفيض الإنفاق العام مع إعطاء الأولوية للتعليم والصحة، وكذلك تمنح الأولوية لدفع معدلات التصدير من خلال القطاع الخاص وليس فقط السيطرة على حجم الاستيراد، فضلًا عن أولوية تعظيم الإدخار المحلي على مستوى الأفراد ومؤسسات القطاعين العام والخاص، وأولوية توطين التنمية والتعامل مع محافظات مصر الـ27 كمحركات للتنمية ودوافع لحركة الاستثمار.
وأشار محيي الدين لجهد البنك المركزي المصري في سبيل استكمال الإطار التنفيذي لاستهداف التضخم، مع ضرورة بذل المزيد من الجهد بإدارة تجارة الفوائد والأموال الساخنة، وعدم الاعتماد عليها كمورد في الالتزامات متوسطة وطويلة الأجل، مع استمرار تعزيز استقرار سوق النقد ومرونة سعر الصرف. مطالباً بأهمية العمل على تخفيض تكلفة التمويل التي عوّقت نمو الاستثمار وقيدت حركة التمويل العقاري المنضبط.
وبسؤاله عن آلية تعديل حدود الكربون (سي بام) التي يعتزم الاتحاد الأوروبي تطبيقها بدءًا من يناير المقبل، والتي تفرض تعرفة جمركية على المنتجات الواردة إلى السوق الأوروبي ذات معدلات انبعاثات كربونية عالية، قال محيي الدين إن العالم كله توافق بالفعل على ضرورة التحول إلى الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر، غير أن هذا التحول يجب أن يتم عبر سياسات تتوافق مع قواعد اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ وكذا قواعد منظمة التجارة العالمية، وهو ما يوجد خلاف بشأنه فيما يتعلق بالآلية الأوروبية، ودعا محيي الدين إلى ضرورة اجتماع الأطراف المعنية بهذا الملف بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي ومنظمة التجارة العالمية وسكرتارية الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ لمراجعة الآلية ومدى توافقها مع قواعد التجارة الحرة وقواعد الانتقال العادل للطاقة.
وأوضح محيي الدين أن هذه الآلية لها مردود سلبي كبير على القطاعات صعبة التحول في الأجل القصير في الدول المصدرة للاتحاد الأوروبي، حيث أفاد تقرير لصندوق النقد الدولي بأن الآلية تفرض تعريفات جمركية بمتوسطات بين 14% إلى 16% في المتوسط على صادرات هذه القطاعات من منطقتنا إلى أوروبا، وفي الحالة المصرية تبلغ التعريفة الجمركية على صادرات هذه القطاعات حوالي 16%، وهو ما يعني تغريم مضاعف للدول التي لم تتسبب في أزمة الانبعاثات الكربونية في الأساس، بينما شهد تطبيق الآلية تنازلات لبعض الدول واستثناءات لشركات دون غيرها وهو ما يتعارض في مجمله مع العدالة في النظام الدولي.
وبسؤاله عن جدوى مؤتمرات الأطراف التي تنعقد منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهل حققت هذه المؤتمرات تقدمًا في إطار أهداف المناخ، أكد محيي الدين أن هناك نتائج عملية لمؤتمرات الأطراف تحققت على أرض الواقع، أهمها انخفاض حجم الانبعاثات الكربونية بنسبة 40% خلال السنوات العشر الأخيرة عن توقعاتها بدون هذه الجهود، مع توجه الدول نحو الاستثمار في الطاقة النظيفة والتكنولوجيا المتقدمة المرتبطة بها، كما أوجدت هذه المؤتمرات اهتمامًا بنظم تجارة الانبعاثات وفق بروتوكول كيوتو، واهتمامًا بهدف التكيف مع تغير المناخ الذي وضعته مصر بقوة على أجندة العمل المناخي العالمي أثناء رئاستها للنسخة السابعة والعشرين من المؤتمر، فضلًا عن التقدم النسبي في مسألة تمويل العمل المناخي للطاقة والحلول المبتكرة لتحديات التمويل.
وردًا على سؤال بشأن تحديات التصنيع في مصر، وما إذا كان الاقتصاد المصري يتحول من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد خدمي، شدد محيي الدين على أن الاقتصاد المصري يتسم بتنوع لا يقارن في محيط مصر العربي والأفريقي والمتوسطي، موضحًا أن مصر تعمل على معالجة التحديات في مختلف القطاعات لاستغلال هذا التنوع؛ مثل معالجة تحدي ملف الري للنهوض بالاقتصاد الزراعي، ومعالجات المشكلات التي عانى منها القطاع الصناعي لتشهد مصر حاليًا إعادة إحياء لصناعات متنوعة ومهمة للمستهلك المحلي مثل الأغذية والملابس والأثاث ومواد البناء ووغيرها، مع توجه هذه الصناعات كذلك نحو التصدير.
وأضاف محيي الدين أن كلًا من هذه القطاعات، الزراعية والصناعية والخدمية، يجب أن يحلق بجناحين هما التحول الرقمي والتكنولوجي والتحول الأخضر، مشيرًا إلى توجه مصر نحو استخدام الأساليب التكنولوجية والذكية في الزراعة، وكذلك استغلال وجودها على قمة أطلس الطاقة الشمسية والرياح في العالم لاستخدام هذه المصادر النظيفة للطاقة في التصنيع كما حدث في بنبان والزعفرانة، إلى جانب الاهتمام بالطاقة النووية.
وفي نهاية الحوار، أكد محيي الدين على قدرة مصر على تحقيق أهداف النمو والتنمية عن طريق إيجاد برامج محددة للنمو الاقتصادي القائم على استغلال التنوع الطبيعي والاستثمار في الثروة البشرية وتسوية أرض الملعب أمام مختلف المستثمرين مصريين أو عرب أو أجانب أو من القطاع الخاص أو الحكومي.












