بقلم د. ماهر عشم ــ رئيس شركة مصر لنشر المعلومات
صناعة البنوك والمصارف في تطور مستمر، فمنا من يتذكر عندما كانت البنوك تعمل بالأوراق والدفاتر قبل عصر الحاسب الآلية. كانت المعاملات تقتصر علي الفرع الذي به حساب العميل وكان لا يطمئن إلا ودفتر التوفير الورقي في جيبه وبه رصيد مكتوب.
كانت خدمات البنوك أقل كثيراً وكانت تقتصر علي الودائع والقروش وبعض الخدمات الأخرى القليلة كخط آليات الضمان.
أجبرت عوامل كثيرة أهمها العولمة التي قادت بنوكا كثيرة إلي الانتشار الجغرافي تلبية لاحتياج العملاء الذين انتشروا في كل دول العالم كشركة كوكاكولا مثلا.
تزامن هذا التحدي مع تحدٍ آخر كظهور منافسين جدد يقدمون خدمات متطورة تنافس البنوك علي مدخرات العملاء التقليديين وتقدم لهم فرص استثمار بديلة في أسواق أخري كالبنوك الاستثمارية وأدواتها كالأسهم والسندات والمشتقات علي سبيل المثال.
تعاملت البنوك مع هذا التحدي وأسست شركاتها المتخصصة في التأمين والاستثمار وإدارة الصناديق والمحافظ حتي تستطيع البقاء بل استحوذت علي كثير من منافسيها غير التقليديين ووسعت دائرة أنشطتها لتشمل تلك التي لمنافسيها.
توجت هذه التحديات بتحدى التكنولوجيا والذي سريعا ما تبنته البنوك وواكبت الجديد فيه بل وصارت تلك التقنيات الحديثة العمود الفقري لها والسبيل الوحيد الذي تعتمد عليه في التواجد والتوسع والانتشار كماكينات الصرف الآلي وتقديم الخدمات عبر الإنترنت والهواتف الذكية.
وصل هذا بأن قطاع المصارف صار المشتري لأول للحاسبات والأجهزة. إلا أن التكنولوجيا لم ترضخ لاستخدامات البنوك لها ولم تكتفِ بهذا. حدثت الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨ ونتج عنها فقدان الكثيرين لوظائفهم معظمهم من الكوادر الشابة الذين عملوا سنوات بالأسواق المالية ولهم خبرة جيدة بتكنولوجيا المعلومات.
حاول الكثير من هؤلاء استخدام معرفتهم في ابتكار خدمات مالية غير تقليدية باستخدام تكنولوجيا المعلومات وانطلاقا من وسائل التواصل الاجتماعي متجاهلين وجود البنوك أحيانا ومنافسين لخدماتهم التقليدية أحيانا أخري.
فأظهر ما يسمي منصات التمويل والتي تعتمد على أن يقوم أحدهم ببناء موقع علي الإنترنت تمكن من له فكرة تحتاج لتمويل بشرحها وتلقي مساهمات من يقتنع بتلك الفكرة حتي يحصل علي التمويل اللازم للبداية وتنفيذها. فيسبوك في أمريكا أعطت مستخدميها تلك الإمكانية مثلا.
لم يتوقف التطور عند البنوك فقط، بل شمل أيضاً شكل النقود وصار تهديدا لعرش البنوك المركزية والدول. فبعد أن كانت التجارة تعتمد علي المبادلة أو المقايضة حتي ظهرت العملات الفضية والذهبية والتي تطورت بعد ذلك إلي ورقية.
حي تأتي إلي مسامعنا ما يسمي بالبلوكتشين وظهور العملات الرقمية وأشهرها البيتكوين. أدت هذه الابتكارات مع تكاثرها إلي ظهور علم جديد يدرس في أعرق الجامعات وصار هوسا للكثيرين يسمي بالتكنولوجيا المالية.
احتارت الدول والبنوك في رد فعلها للتكنولوجيا المالية بين الاستخفاف والاهتمام والخوف وتدريجيا أخذ الاهتمام النصيب الأكبر وراهن الكثيرون علي أن البنوك ستفقد مكانتها ونشاطها أمام طوفان التكنولوجيا المالية المستندة إلي وسائل التواصل الاجتماعي الجامحة. في نفس الوقت دخلت البنوك سباقا محموما علي تبني تلك التقنيات حتي إن كانت جدواها غير معروفة وأخذت في تكوين وشراء شركات التكنولوجيا المالية بلا هوادة.
ذكرتني هذه المعركة بشبيهتها التي حدثت في أواخر التسعينيات عند ظهور الإنترنت وانتهت في مرحلة النضوج سنة ٢٠٠٠ بانهيار الأسواق فيما سمي بالدوت كوم كراش. بقيت البنوك رغم شراسة المعركة ولكن أجبرتها التكنولوجيا علي احتوائها وتقديم خدماتها التقليدية في صوب التكنولوجيا.
مع أن المعركة هذه المرة مع كيانات عماقة كالفيسبوك والواتساب إلا أني أعتقد أنها ستؤدي إلي نفس النتيجة وتخرج إلينا ببنوك وأسواق مال أكثر تطورا وخدمات أكثر ابتكارا تفيد وتخدم العميل والتجارة والاقتصاد.
إلا أن هذا التطور سيمثل تهديدا لكل من لن يستطيع أن يواكبه ويستوعبه فستختفي أيضاً كيانات تعودنا علي سماع أسمائها لأن التكنولوجيا المالية قطار يمشي بسرعة فائقة إما لحقنا به وإما فاتنا إلي الأبد وبلا رجعة هذه المرة.