بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط – إذا قمت بكتابة كلمة الاستدامة على محرك البحث «جوجل» ستظهر لك أكثر من 970 مليون نتيجة باللغة الإنجليزية و12 مليون نتيجة باللغة العربية، ويعكس الرقمان دلالات تتجاوز مدى انتشار اللغتين واستخداماتهما، ولكن ما يعنينا هنا هو الاهتمام بالموضوع وانتشاره حول العالم.
وتتبنى الأمم المتحدة منذ عام 1987 مفهوماً للاستدامة على أنها «تعني تلبية حاجات الحاضر من دون المساس بقدرات الأجيال المستقبلية على تلبية حاجاتها في المستقبل». وهو مفهوم يستند إلى فكرة العدالة بين الأجيال توصلت إليه لجنة البيئة والتنمية التي شُكلت بقيادة جرو هارلم بريندتلاند رئيسة حكومة النرويج السابقة.
ومع بداية عام 2000، أعلنت الأمم المتحدة ما عرف بأهداف الألفية الجديدة للتنمية، وتلخصت في 8 أهداف تتعلق بمكافحة الفقر وتحسين الرعاية الصحية والتعليم والعدالة بين الإناث والرجال، وجاء هدف الاستدامة البيئية كهدف سابع متضمناً بعض الأهداف الفرعية متواضعة الطموح، كمثيلاتها من الأهداف الأخرى، تتعلق بالحفاظ على التنوع البيئي وتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ وتوفير المياه النقية وخدمات الصرف الصحي وتحجيم انتشار العشوائيات.
ورغم تواضع أهداف الألفية، فعندما حلت سنة التقييم النهائية لها في عام 2015 تبين إخفاق العديد من الدول النامية في تحقيقها، خاصة الأهداف البيئية، لقلة الموارد المتاحة وسوء السياسات المتبعة وضعف المؤسسات القائمة على تنفيذها وغياب برامج المتابعة، فضلاً عن قصور البيانات والمعلومات المطلوبة لتوجيه السياسات وأولوياتها وتحديد جدوى المشروعات العامة وتقييم أدائها.
وجاء عام 2015 كمحطة استثنائية شهدت وثبات في شكل توافقات واتفاقات عالمية مهّدت لها أجواء عالمية أقل استقطاباً وأخف احتقاناً مما يعتري العالم في يومنا هذا. وليس لدي بما أطالعه أدنى شك في أن ما تم في عام 2015 يسهل تكراره اليوم؛ فالأوضاع الجيوسياسية قد ازدادت سوءاً كما يعاني العالم اقتصادياً من تنافر وتباين بين أداء الدول المتقدمة ومجموعة الدول النامية والأسواق الناشئة، خاصة بعد جائحة كورونا، بل إن عدوى التنافر والتباين قد طالت هذه المجموعة ذاتها.
أذكر ما سبق كشاهد على ما جرى من مداولات منذ عام 2012 لثلاث سنوات، بعد مؤتمر ريو في البرازيل، ومساهم في المناقشات التي دارت في أروقة وقاعات الأمم المتحدة لصياغة أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، التي تم اعتمادها في سبتمبر 2015 بقمة خاصة في نيويورك، سبقها إقرار إطار تمويل التنمية في شهر يوليو في أديس أبابا، وتلاها إقرار أول اتفاق عالمي بشأن المناخ في باريس في شهر ديسمبر من هذا العام.
وقد انعكس تسييس الاستدامة والاستقطاب الدولي في عثرات في نهج تنفيذها بما سيؤدي إلى مشكلات جمة ستعاني منها الدول النامية، خاصة تلك الأقل دخلاً والأكثر فقراً.
أما عن تسييس الاستدامة فأدفع في شأنها بأن صاحب الفضل من دون قصد أو عمد في صعود تغيرات المناخ إلى قمة الجدال السياسي وجعلها أولوية في أجندة مناقشات زعماء الدول هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
فبقراره الفج لإخراج بلاده من اتفاق باريس وتعهداته بعد شهور من وصوله للحكم وتحديه لشواهد العلم ودلائله عن تغيرات المناخ وتداعياتها، استنفر قطاعات عريضة في المجتمع وعمد المدن الأمريكية ومحافظي ولاياتها وجمهرة مؤثرة من رؤساء شركاتها لمعارضة توجهه، واتخاذ إجراءات متوافقة مع تعهدات اتفاق باريس رغم الخروج الرسمي منه بما حجم من التأثير السلبي للإدارة المركزية.
ولم يكن غريباً أن تكون قضية المناخ والعودة لاتفاق باريس في قمة الوعود الانتخابية لجو بايدن التي كانت من أول قراراته بعد توليه حكم البلاد.
ورغم خطورة تغيرات المناخ، فإن من الخطأ البالغ أن تختزل قضية الاستدامة فيها وحدها دون غيرها، أو بتحبيذ لإجراءات بعينها ظناً أنها وحدها المنجيات من مهالك تدهور أوضاع المناخ وتدني نوعية الحياة على الأرض. فقد جعل التوافق الدولي غير المسبوق، وغير الملحوق أيضاً حتى الآن، هدف التصدي لتغيرات المناخ من ضمن أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، ويشكل هذا الهدف ورقمه 13 مع الهدف 14 عن الحياة تحت الماء والهدف 14 عن الحياة في البر مجموعة متكاملة للأبعاد البيئية والحفاظ على تنوعها والعمل المناخي بمقتضي التزامات اتفاق باريس.
ولكن ما يجري اليوم من اختزال للاستدامة في هدف واحد، ومن الفرض عنوة لافتراض شديد السخاء مقتضاه أن الاستثمار في التصدي لتغيرات المناخ ستصاحبه منافع مشتركة بما يحقق التنمية المنشودة يهدد بترسيخ التباين والتنافر بإيجاد مسلكين متباعدين: مسلك سريع توجه إليه الاستثمارات وسبل التمويل ترتاده دول متقدمة من أنصار المفهوم الضيق للاستدامة بقصرها على ما يتعلق بتغيرات المناخ، ومسلك بطيء شحيح الموارد تصارع فيه الدول النامية ترتيب أولوياتها لتحقيق باقي أهداف التنمية المستدامة التي لن تتحقق تلقائياً بفضلات المنافع المشتركة الموعودة لاستثمارات العمل المناخي.
قد تتحسن حقاً بعض أهداف التنمية المستدامة مثل الهدف السابع المرتبط بتوفير الطاقة النظيفة والمتجددة من استثمارات كبيرة موجهة للتصدي لتغيرات المناخ من خلال قطاع الطاقة، وكذلك قد يستفيد الهدف السادس المرتبط بتوفير المياه النقية من استثمارات مصممة بعناية للتوافق المناخي التي تعاني انخفاضاً، ولكن كيف لخدمات الصحة والتعليم وبرامج مكافحة الفقر والقضاء على الجوع وتحقيق العدالة بين الجنسين أن تتحسن وفقاً لهذا الأسلوب المختزل للاستدامة دون أن تدرج أصلاً في أولويات التمويل والاستثمار؟.
لا جدال أن إهمال تغيرات المناخ يسبب زيادة في الفقر على سبيل المثال بفقدان لمجالات العمل وتدمير قطاعات الإنتاج والهجرة الإجبارية. ولكن من البديهي أن إتاحة فرص العمل ومكافحة تتطلب نهجاً أشمل للتنمية المستدامة، وهو النهج الذي تم التوافق عليه، وما علينا إلا تنفيذه. ولكن ليس هناك أيسر من سرد الوصايا.
فكما قالت ميا أمور موتلي، رئيسة حكومة باربادوس، في كلمتها أمام الجمعية العامة الأخيرة: «كم من المرات نواجه بأزمات كالتي نواجهها اليوم، ثم نقول نفس الكلمات مرات ومرات… ثم نصل في النهاية إلى العدم».
لقد أرجعت موتلي في كلمتها الحماسية الموفقة، العجز الدولي عن التعامل مع أزمات الجائحة وتوفير اللقاحات والاستدامة لغياب الإرادة السياسية، وهي محقة في ذلك. ولكن هناك معوقات كبرى على مستوى الدولة تسبب عثرات في نهج التنمية ألخصها في أربعة: أولها ما ذكرته آنفاً عن سوء في صياغة السياسات وعدم الإلمام بمعطيات الاقتصاد السياسي وثقافة المجتمع المعني وتوقعات عموم الناس.
ثانيها، سوء في التواصل لتوضيح السياسات ومقاصدها وتكاليفها وعوائدها المتوقعة والمقارنة ببدائلها.
ثالثها، سوء تعبئة الموارد المالية العامة وسوء تحفيز التمويل الخاص المحلي والأجنبي للاستثمار في مشروعات التنمية مع قصور في آليات المشاركة.
رابعها، سوء في التطبيق لعدم توفر البيانات والمعلومات الدقيقة لمساندة القرار ومتابعة نتائجه وهو ما لخصه بيتر هنري بلير أستاذ الاقتصاد والتمويل بجامعة نيويورك في مقال منشور على موقع مجلة «فورتشن»، مشيراً إلى تقادم قواعد بيانات البنية الأساسية وعوائد الاستثمار فيها، بما يعقد من قرارات التمويل ويضللها.
كما تشير بعض الدراسات كتلك التي استند إليها الاقتصاديان دورا بنيديك وإدوارد جميل في دراسة عن تكلفة الاستدامة لما تتكبده الاستثمارات العامة في البنية الأساسية تصل إلى 34 في المائة في الدول ذات الأسواق الناشئة مقارنة بنحو 15 في المائة في الدول المتقدمة.
ستتاح للدول العربية فرص على مدار ما تبقى من هذا العام والعام المقبل لشرح أولوياتها وتوضيح نهجها للاستدامة وفرص الاستثمار الواعدة فيه. فها قد بدأت فعاليات إكسبو 2020 في دبي بافتتاح ممتع ومبهر ومشرف، وتحظى القضايا المترابطة للغذاء والطاقة والمياه في إطار أهداف التنمية المستدامة باهتمام مستحق في أنشطته.
كما ستستضيف الرياض قمة مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» في 25 أكتوبر الجاري، لتشكل أول تحالف إقليمي للاستثمار وتدعيم الابتكارات ونقل المعرفة والإشراف البيئي لتخفيض الانبعاثات الكربونية الناتجة عن إنتاج النفط والغاز لأكثر من 60 في المائة مع التوسع في التشجير والإسهام في استصلاح الأراضي المتدهورة. وتأتي هذه القمة الإقليمية في توقيت حيوي قبل انعقاد قمة غلاسكو للمناخ في شهر نوفمبر المقبل.
كما سيستضيف المغرب، الذي يحتضن في مدينة ورزازات واحدة من كبرى محطات الطاقة الشمسية، الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في أكتوبر من العام المقبل، وتعقبها استضافة مصر لقمة تغيرات المناخ الـ27 في نوفمبر 2022.
وقد أسست مصر وطوّرت في جنوب البلاد في خلال السنوات الماضية أحد أكبر مشروعات الطاقة المتجددة بمشاركات دولية واستثمارات عامة وخاصة، وتلوح في شرقها مزارع طاقة الرياح المنتشرة، كما تستثمر في أكثر مشروعات توطين التنمية طموحاً باسترشاده بأهداف التنمية المستدامة في القضاء على الفقر والارتقاء بالبنية الأساسية والمرافق الخدمية لأكثر من 60 في المائة من السكان.
في هذه الفعاليات المهمة التي تستضيفها مشارق العالم العربي ومغاربه ستتاح مجالات على مدار أكثر من عام للمشاركة والتواصل مع العالم بأقطابه واقتراح البدائل العملية لتحقيق ما تعد به رؤى 2030 للتنمية وأهداف الاستدامة بخطى وثابة، فما تبقى من زمن لا يسمح بمزيد من العثرات.