هل تُقدِّم أزمة بلتون نموذجًا جديدًا في أهميةِ الشفافيةِ؟

بقلم أحمد رضوان ـ رئيس تحرير جريدة حابي

في أعقاب الأزمة المالية العالمية، أجرت السلطاتُ الرقابية المالية ووزارة العدل في الولايات المتحدة الأمريكية تحقيقاتٍ واسعة مع شريحة من بنوك الاستثمار، وبأكبر قدر من التبسيط، كانت التحقيقات تدور حول تصنيف هذه البنوك لأوراق دين ورهون عقارية على أنها آمنة عكس ما ظهر مع اشتعال الأزمة.

E-Bank

شملت قائمة البنوك التي خضعت لغرامات كل من دويتشه بنك وكريدي سويس وباركليز وجي بي مورجان وبنك أوف أمريكا وجولدمان ساكس، وسيتي جروب وغيرها.

وحتى أسابيع مضت، ما زال بعض هذه القضايا وغيرها مفتوحًا، ففي منتصف أكتوبر الماضي، أعلن بنك إتش إس بي سي أنه سيدفع 765 مليون دولار لوزارة العدل الأمريكية لتسوية مطالبات بشأن التضليل في بيع أوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري خلال الفترة من 2005 إلى 2007.

وفي منتصف سبتمبر وافق أيضًا رويال بنك أوف إسكتلندا على دفع 4.9 مليار دولار لتسوية مخالفات حول تضليل المستثمرين في الاكتتاب وإصدار الأوراق المالية المدعومة بالقروض السكنية بين عامي 2005 و2008، وهناك بنوك أخرى منها سوسيتيه جنرال فرضت عليها عقوبات وغرامات معلنة وبأسباب معلنة منها انتهاك عقوبات مفروضة على بعض الدول أو عدم اتخاذ التدابير المنصوص عليها لمنع تبييض الأموال أو أو أو.

اتهامات واضحة ومعلنة أمام الدائنين وحملة الأسهم وأوراق الدين ومختلف المتعاملين مع المؤسسات المقرر فرض غرامات وتدابير وعقوبات عليها، لم نسمع أن سمعة واحدٍ منهم ستهتز بسبب الكشف عن المخالفة وبالتالي سنكتفي بإعلان العقوبة بلا تفاصيل.. وإذا كان الكشف عن المخالفة تشويهًا للسمعة فلماذا يتم الإعلان عن التدابير؟

تجاوز العالم فكرة عدم الكشف عن تفاصيل مخالفات المؤسسات الكبيرة، وأصبح الإعلان أولًا بأول عن أيّ عمليات تضليل أو أخطاء جزءًا أساسيًّا من قواعد اللعبة التي يقبل بها الجميع، سواء السلطات الرقابية أو المتعاملين على اختلافهم أو الكيانات الخاضعة للعقوبة أو التدابير. وبات هناك اقتناع راسخ بأن توفير أكبر قدر ممكن من المعلومات المتاحة هو السبيل الأفضل لحماية الأسواق وسمعتها.

وأعتقد أن هذه الزاوية هي الأهم في التدابير التي اتخدتها هيئة الرقابة المالية تجاه شركتي بلتون لترويج وتغطية الاكتتاب وبلتون لتداول الأوراق المالية والتي قررت الهيئة وقف الأولى عن العمل لمدة 6 أشهر في أعقاب إدارة طرح شركة ثروة كابيتال، وكذلك زيادة مبلغ التأمين المودع من الثانية بواقع 50 مليون جنيه لنفس السبب.

بيان بلتون ألمح إلى أن التدابير تتعلق بالطرح الخاص وجاء به نصاًّ على لسان الشركة: “وتؤكد على عدم مخالفتها لأي قواعد أو قرارات تنفيذية خاصة بالطروحات الخاصة”.

في حين أشار البيانان الصادران عن الهيئة واللذان شملا التدابير المقررة على الشركتين (بلتون لترويج الاكتتاب وبلتون للتداول)، إلى بنود القانون وتحديدًا “البندان (ب) و (و) في المادة 31 من قانون سوق رأس المال رقم 95 لسنة 1992”.

وتنص المادة 31 على أنه لمجلس إدارة الهيئة إذا قام خطر يهدد استقرار سوق رأس المال أو مصالح المساهمين في الشركة أو المتعاملين معها أن يتخذ ما يراه من التدابير، وينص البند “ب” على منع الشركة من مزاولة كل أو بعض الأنشطة المرخص لها بمزاولتها وينص البند “و” على إلزام الشركة المخالفة بزيادة قيمة التأمين المودع لها.

ما هو الخطر الذي قامت به بلتون وهدد استقرار السوق أو مصالح المساهمين أو المتعاملين معها؟ وما هي المخالفة التي تم على أساسها تطبيق البندين “ب” و “و”؟

حاولت جريدة “حابي” الوصول ولو لخيط تكمل منه تفاصيل هذه القضية التي نعتقد أنها ستكون واحدة من أهم قضايا وقصص سوق المال، لكن وبكل أسف لم نصل إلى شيء نطمئن لنشره بحسم، البعض يتحدث عن مشاكل في التقييم وآخرون يبددون هذا الاحتمال، أحدهم يقول إن هناك بعض المكتتبين تقدموا بشكاوى حول تلقيهم أسهم في الطرح الخاص أعلى من نسب التخصيص المعلنة، فيُردُّ عليهم بأن قواعد الطرح الخاص لا تمنع ذلك.

لسنا هنا بصدد الحديث عن قواعد وإجراءات تلتزم بها الجهة الرقابية والشركة المتهمة بالمخالفة، فبكل تأكيد سنجد في قانون ما صدر في عام ما بندًا هنا أو هناك يسمح بعدم الإعلان عن تفاصيل المخالفة لأسباب مقنعة أو غير مقنعة، وحينها سننتقل من طريق البحث عن المخالفة، إلى طريق تفاسير وشروحات ومختصرات للشروحات عن المسموح والممنوع الإفصاح عنه.

ما نحن بصدده واقعيًّا قضية مهمة لشريحة واسعة من المتعاملين مع سوق المال، مستثمرين اكتتبوا في طرح جديد، مساهمين في شركة وقعت عليها عقوبة، شركات منافسة يجب أن تسعى إلى الاستفادة من إجراء حدث، صحافة تهتم بأن تجمع وتحلِّل ماذا حدث وأين سينتهي.. وتفاصيل رأى الرقيب أن الإعلان عنها سيضر بسمعة الشركة، وشركة تؤكد أنها لم تتلقَّ حتى مثول الجريدة للطبع أي توضيحات بخصوص المخالفات التي تم اتخاذ تدابير بسببها وتسعى للاستفسار رسميًّا عنها.

نعتقد أنه على الجهة الرقابية الإعلان بوضوح عن جميع التفاصيل محل التدابير المقررة، فهي ليست على فرع يديره مسؤول بسيط في شركة ترتبط بعدد محدود من المتعاملين، بل مع الشركة صاحبة المركز الأول في تعاملات شركات السمسرة خلال شهر أكتوبر، والمركز الرابع عن التعاملات منذ بداية العام، كما أنها ترتبط بطرح مثير للجدل منذ إعلان بدء التداول عليه.

هناك وجهة نظر أخرى -لا يتبناها كاتب هذا المقال ولكن وجب عليه ذكرها لإكمال الصورة أمام القارئ- تقول وجهة النظر الثانية إن الكشف مرتبط بإدانة الشركة بموجب حكم قضائي، وأن ما فعله مجلس الهيئة هو محض إجراء إداري تحوطي سواء من خلال وقف بلتون لترويج الاكتتاب أو رفع قيمة التأمين المودع من شركة بلتون لتداول الأوراق المالية، وبالتالي من الواجب التكتُّم على تفاصيل المخالفات طالما لم يصدر حكم قضائي باتّ.

وجهة النظر السابقة تؤكد ببساطة أيضًا أن لكل سوق أعرافه، فهناك أسواق تكون كلمة الفصل العُليا فيها للجهات الرقابية والإشرافية فقط بغضّ النظر عن القضاء، وأخرى تلعب فيها الجهة الرقابية دور النيابة العامة حيث تجمع ما يفيد تحركها وتقدمه للسلطات القضائية وللأخيرة القول الفصل، وهناك أسلوب ثالث يقوم على أن الجهة الرقابية تحدد العقوبة أو التدابير القصوى التي يسمح لها القانون بها ثم تتولى الجهة القضائية نظر أمور أخرى لا تدخل ضمن اختصاصات الجهة الرقابية، في حين يحق للجهة القضائية إلغاء جميع ما تم اتخاذه من تدابير أو إبقائها كما هي أو الإضافة لها أو التقليل منها.

وجهة النظر هذه لا تتفق مع إعلان مضمون التدابير من الأساس، فهي تقوم على أن الإعلان في حد ذاته ضارٌّ بسمعة الشركات والسوق ويهدد مصالح المتعاملين. إذن فهي تتحدث عن واقع غير موجود، فالتدابير تم الإعلان عنها، وتم الإشارة إلى أنها تتعلق بوجود خطر يهدد استقرار السوق أو مصالح المساهمين في الشركة أو المتعاملين معها؛ لذا فهي وجهة نظر لا يعكسها الواقع.

كما أنه لو بذلنا بعض الجهد في حصر مكاسب وخسائر الإفصاح عن تفاصيل أي مخالفة مهما كانت بسيطة أو كبيرة، ووضعناها أمام مكاسب وخسائر المعلومة المنقوصة التي تفتح بابًا كبيرًا للتأويل والاجتهاد والشائعات أيضًا، سنجد بما لا يدع مجالًا للشك أن الصورة الكاملة مهما كانت هي الأكثر أمانًا، والصورة الكاملة هنا لا نقصد بها ضرورة كشف المعروف وغير المعروف، وإنما توضيح أسانيد ما تم اتخاذه من قرارات والمعلومات المؤكدة المتاحة طالما أصبحت متاحة وتم على أساسها اتخاذ تدابير، أو الشكوك طالما أخذت بعين الاعتبار وتم الإعلان عنها في صورة شكوك، فالإعلان عن تحقيق يجري في إتهام ما، أمر بالغ الأهمية لمستثمر على وشك شراء سهم في شركة لها أذرع محل اتهام وهو لا يعرف، وهناك مستثمر آخر قرر شراء سهم بشركة قد تتأثر بتدابير معلنة ولا يعرف هل هذه التدابير هي نهاية المطاف أم قابلة للتخفيف أو للتضخيم، كلا المستثمرين لهما الحق في المعرفة الكاملة للمعلومات المتاحة لجهة أو شركة ما طالما ترتب وسيترتب عليها أي إجراءات.

من المستفيد من عدم الكشف عن ما وراء التدابير؟ لا أظن أن أحدًا من المتعاملين مع أي شركة سيستفيد من إعلان تدابير بلا مخالفات تفصيلية واضحة، ولا أظن أن “السوق” بمعناها الواسع، لها مصلحة تُذكر أيضًا في ذلك، والحفاظ على سمعة السوق والشركات والحد من الضرر، يأتي إما بتحمل ثمن المخالفة، أو بإلغائها إذا ما ظهر أن التدابير لم تكن في محلها.. في حين سيظل غياب تفاصيل ما حدث أو كشفه متأخرًا، هو العنصر الأكثر ضعفًا في هذه القضايا أيًّا ما تكون نهايتها وتطوراتها.

هذه دعوة للتفكير جيدًا في أهمية إعمال أهداف مفاهيم الإفصاح والشفافية بالصورة التي لا تترك ألغازًا في مثل تلك القضايا الجوهرية، وتعزز في الوقت نفسه قواعد السوق الحرة التي تمتص وتتعامل وتتفاعل مع مختلف الأحداث إيجابية كانت أم سلبية، سواء كانت المعلومة لدى الجهة الرقابية أو الشركة.

الرابط المختصر