د. محمود محيي الدين يكتب.. عن عجز الثقة وفائض الأزمات

بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري، كان هانز روزلنج طبيباً وإحصائياً سويدياً شهيراً كرس حياته لتبسيط وشرح الحقائق والمعلومات بأساليب جذابة ونشر الوعي بأهمية الإحصائيات والتحذير من تأثير البيانات المضللة على صناعة القرار. وقبل وفاته في عام 2017 عكف مستعيناً بأعماله البحثية على الانتهاء من كتاب سماه «الإلمام بالحقيقة»، ولكن لم يمهله القدر أن يتمه فأنجز المهمة من بعده أفراد من أسرته وصدر في العام التالي لوفاته.

وقد استعرضت نتائج هذا الكتاب المهم على صفحات هذه الصحيفة الغراء في عام صدوره، وفاجأني منذ يومين صديق من المتابعين النهمين لوسائل التواصل الاجتماعي بأن أحد المعلقين قد اقتبس بأمانة آخر فقرة في مقالي المنشور في 11 يوليو 2018؛ وسألني الصديق عن رأيي فيها بعد مرور ما يزيد على أربع سنوات من نشرها، فوعدته أن أرسل له الرد مكتوباً محبذاً أن يقرأه منشوراً هكذا:

E-Bank

صديقي العزيز
بعد التحية وأطيب السلام،
فلقد سعدت بلقائك بعد غياب في المؤتمر السنوي للجمعية العربية للبحوث الاقتصادية بمدينة العلمين وأشكرك على سؤالك واهتمامك بما كتبت عن روزلنج وكتابه.

أما عن الفقرة الخاتمة للمقال التي وصفتها بالنبوءة العجيبة فنصها: «وعلى الرغم من أن روزلنج قد استنتج، مستعيناً بالأدلة والبيانات، أن العالم قد شهد في الواقع تقدماً أفضل بكثير مما يتصوره عموم الناس، فهو يرى أن هذا التقدم مهدد بخمسة تحديات تتجلى في خطر انتشار الأوبئة المعدية، والأزمات المالية، والحروب، وتغيرات المناخ، واحتمال زيادة الفقر المدقع».

ولك أن تقرأ الفقرة على أنها من شقين؛ الشق الأول يدافع فيه هانز روزلنج عن واقع شهده ورصده بالأدلة وأحسن وصفه بأشكال بيانية وصور إيضاحية تميز بها عمله، وسيلفت انتباهك حتماً ما حاول روزلنج إيضاحه بأن العالم الذي رصد تطوراته كان أفضل حالاً مما يتصوره الناس.

تابعنا على | Linkedin | instagram

وكما شرح في كتابه فإن الإجابات عن 13 سؤالاً عن التطورات الاقتصادية والاجتماعية تم طرحها على 12 ألف شخص من 14 دولة جاءت في أغلبها خاطئة، ولم تكن إجابات بعض المتخصصين في منظمات ومؤسسات دولية أفضل حالاً، رغم بساطة الأسئلة التي تناولت أموراً متداولة مثل تطورات نسب الفقراء وأعداد السكان وتوزيعهم في قارات العالم وتعليم الإناث وتطعيم الأطفال وتغيرات المناخ وهل هي إلى أسوأ أم أفضل، إلى غير ذلك من أسئلة مشابهة.

ومن الثلاثة عشر سؤالاً كانت الإجابات الصحيحة اثنتين فقط في المتوسط. وهو ما جعل روزلنج يؤلف كتابه موضحاً أسباب نزوع الإجابات إلى الانسياق وراء انطباعات سلبية ووقوع الناس ضحايا لاعتقادات وتصورات خاطئة لخصتها في مقالي المشار إليه، ورجوعك إلى التفاصيل في الكتاب بلغته الأصلية أو مترجماً أفضل.

أما الشق الثاني من الفقرة، وهو ما جعلك تصفها بالعجيبة، فترجع لروزلنج المتهم من قِبل البعض بالإفراط في التفاؤل لكنه حدد ضوابط لاستمرار التقدم مستمدة من متابعته لما كان من شأن تقدم وتخلف الأمم ودراساته المتنوعة في السويد والهند، وسنوات قضاها ممارساً للطب في بلاده وفي أفريقيا، ومسترشداً بقواعد تجلي الرؤية مما يكدر صفوها من انحيازات مضللة.

وخلاصة الضوابط لا تتعارض مع فهم الرجل العادي بألا يقع العالم في محظورات خمسة تهدد تقدمه؛ الأولى انتشار الأوبئة المعدية، والثانية الأزمات المالية، والثالثة الحروب، و الرابعة تغيرات المناخ، والخامسة زيادة الفقر المدقع.

ولكن سردها على هذا النحو في عام 2017 ثم تتابع الأحداث التي شهدها العالم منذئذ وحتى يومنا هذا ربما جعلك تعتقد أن روزلنج صاحب نبوءة؛ ألم يشهد العالم عواقب المحظور الأول المتمثل في جائحة لم تنتهِ بعد منذ اندلاعها في عام 2020 فأصابت بالمرض 623 مليون إنسان وتسببت في وفاة 6.5 مليون؟ ألم تلحق هذه الجائحة الأذى بأسباب المعيشة وانخفضت بسببها معدلات النمو والتجارة وزادت البطالة وارتفعت الأسعار والديون؟
أما الأزمات المالية كمحظور ثان والتي حذر منها روزلنج، فهي ليست على غرار أزمة 2008 المريرة، وإن عانت الأسواق المالية حالياً من تقلبات وانخفاضات حادة، لكن المؤسسات المالية والبنوك الكبرى ما زالت تتمتع بسيولة وملاءة.

في هذه الأثناء هناك حرائق متفرقة تشتعل في بلدان نامية وأسواق ناشئة ارتفعت تكلفة حصولها على التمويل الدولي، كما اضطربت أسواق الصرف وانخفضت العملات الرئيسية والمحلية أمام الدولار الأمريكي كملاذ أخير لارتفاع العائد عليه وبحكم ما اعتاد الناس من إقبال عليه في الأزمات، هذا رغم تدهور أداء الاقتصاد الأمريكي.

فبعدما كان معدل النمو محلقاً عند 5.7 في المائة في عام 2021، انخفض هذا المعدل إلى 0.6 في المائة في الربع الثاني من هذا العام بما جعل البعض يعتقد أن الاقتصاد الأمريكي يعاني من ركود.

ولكن أرقام سوق العمل تؤكد أن الاقتصاد الأمريكي ما زال متمتعاً بمتانة تجعله في وضع نسبي أفضل من الاقتصادات الأوروبية على سبيل المثال، حيث دخل بعضها في فخ الركود بمعدلات نمو سلبية.

وعملياً في الأجل القصير فإن المساند لقوة الدولار هو ارتفاع العائد عليه واعتقاد الأسواق أن الاقتصاد المصدر له أكبر قدرة على التعامل مع التحديات التضخمية المحلية والعالمية. وعليك أن تعلم أن قوة الدولار ليست في صالح الاقتصاد العالمي عموماً والاقتصادات النامية خصوصاً لما يصاحبها من تقلب في التدفقات المالية وزيادة مشكلات المديونية الخارجية.

وبعد حين سيتعرض الاقتصاد الأكبر عالمياً لتحديات تتعلق بقدرة قطاعاته الإنتاجية على المنافسة، وكذلك اعتبارات التحوط المكلفة ضد ردود الفعل المتباينة في سياسات سعر الصرف والفائدة ونظم إدارة الاحتياطي.

ولعلك تتساءل ما الذي ينبغي عمله في البلدان النامية حيال تقلبات سعر الصرف عالمياً، فأذكرك بما تعلمته من المبادئ بأن تتمسك بأصول الاقتصاد لا قشوره، وأسباب تقدمه وتخلفه لا أعراضها، وألا تكون كبحار حائر في قارب تكاد تعصف به الرياح والأمواج العاتية فيترك القارب ومن عليه وما عليه محاولاً تثبيت أحد المجاديف ومنعه من الحركة هاتفاً بإنجاز النصر وهو موشك على هلاك محقق.

والمحظور الثالث في قائمة روزلنج هو الحرب العالمية، صحيح لا توجد حرب عالمية بالمعنى المفهوم لكن الحرب الدائرة في أوكرانيا أسفرت عن ضحايا أبرياء وأثقلت كاهل الاقتصاد العالمي المنهك أصلاً.

وألقت الحرب بظلال كئيبة على اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة، فعادت لغة التراشق بالتهديدات بعد غياب في غياهب الحرب الباردة. وكرر الأمين العام للأمم المتحدة كلمات مفعمة بالحسرة والحزن والغضب عن الوضع السياسي الدولي وما آل إليه بسبب الحرب وتلويح البعض باستخدام أسلحة أشد فتكاً ومضي البعض الآخر في استدعاء صراعاتهم القديمة لعلهم يحتفون بها بحماقتهم بحروب جديدة.

ويؤكد حالة عجز الثقة هذه استمرار توترات جيوسياسية واستمراء العمل بطريقة الكيل بكيالين، فأمسى العالم يعاني من عجز في الثقة سياسياً وفائض في الأزمات اقتصادياً.

والمحظور الرابع هو تغير المناخ وتأثيراته الضارة على حياة الناس وأسباب معيشتهم وتهديد سلامة الأرض وما عليها. وقد صدر كتاب روزلنج بعد عامين ونيف من اتفاق باريس لعام 2015، واليوم بعد حوالي 7 أعوام من هذا الاتفاق الملزم لسنا على المسار السليم بعد لاستنقاذ الأرض مما فعله بعض البشر من ضرر بالمناخ بانبعاثات متراكمة.

ويحتاج العمل المناخي إلى دفعة كبرى في قمة شرم الشيخ المقبلة حتى يوضع ملف التخفيف على معجلات تحفظ حرارة الأرض تحت 1.5 درجة فوق متوسطاتها مع بداية الثورة الصناعية الأولى، كما يحتاج ملف التكيف إلى إدراك أكبر لخطورته، كما يتطلب ملف الأضرار والخسائر تفعيلاً له من مستوى يقترب من العدم، ويحتاج هذا كله لعلاج ملف تمويل العمل المناخي من قصور موارده وقلة كفاءة آلياته وعدم عدالته.

أما عن المحظور الخامس فهو ذاته الذي احتفى روزلنج في كتابه بانخفاضه على مدار عقدين تقريباً، فقد شهد ارتفاعات في أعداد من يعانون من الفقر المدقع، بسبب تداعيات الجائحة ثم الحرب الأوكرانية. فاتجه خط الفقر المدقع إلى الارتفاع لأول مرة منذ أواخر التسعينات، فبدلاً من أن يصل عدد الفقراء إلى 581 مليون إنسان على النحو الذي كان مقدراً لعام 2022 ارتفع الرقم إلى 677 مليوناً، بما يخفض احتمالات تحقيق الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة وهو القضاء على الفقر المدقع بحلول عام 2030، ويسبب بدوره مشكلات اجتماعية وسياسية واقتصادية ليس أكثرها خطورة الهجرة غير الشرعية.

لم يكن روزلنج صاحب نبوءة أو مالكاً لبلورة سحرية مزعومة، فالرجل أمضى حياته ينادي بنشدان الحقيقة ونبذ الخرافة وساق هذه المحظورات الخمسة داعياً للتصدي لها. وذكر تحديداً أن انتشار الأوبئة والأزمات المالية والحروب العالمية من الصعب التكهن بها أو التنبؤ بزمن حدوثها لأنها شديدة التعقيد.

أما تغيرات المناخ وحالات الفقر المدقع فقد رأيناها رأي العين ونعلم كيفية مواجهتها، وأن السبيل لعلاجها هو التعاون الدولي. ولعل هذا من أسباب اتهامه بالتفاؤل الشديد لفرط ثقته بإمكانية التعاون الدولي الذي من شأنه حتماً أن يزيل آثار عدوان البشر على المناخ والطبيعة وعلى أنفسهم ولكن هذا التعاون المأمول لا يتحقق إلا بإرادة سياسية.

لعلك صديقي العزيز قد ازددت اهتماماً بأعمال هانز روزلنج، وقد تبدأ بمشاهدة محاضرته الشهيرة في سلسلة تيد أو غيرها مما هو متاح على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وأنت أكثر دراية بها مني. وختاماً؛ لك ولعالمنا أطيب الدعوات بالسلام!

 

الرابط المختصر