حابي
جمالات شيحة… مزيج من الحكايات ترسمه ملامحها المصرية الأصيلة، جابت محافظاتها وقراها شرقًا وغربًا، وخرجت بزيها الفلكلوري إلى خارج نطاق مصر بالعديد من الدول العربية، حاملة تراثًا فلكلوريًّا تغنت به وأيقنته، كالماء يجري من بين شفتيها دون أن يمسسه نشاز أو افتعال.
اكتفت بجمهور عريض شديد الخصوصية، كلما أخذته الهموم انطلق للبحث عن اسمها عبر “اليوتيوب” أو “ساوند كلاود” وغيرها، ليلتقط أنفاسه عندما ينتهى البحث إلى “على ورق الفل دلعني,
حقًّا الدلع الذي طلبته العظيمة جمالات شيحة حصل عليه جمهورها، ولأول مرة تكذِّب المثل الشائع “فاقد الشيء لا يعطيه” فهي التي طلبت ذلك الدلع دلعتنا جميعًا، بصوت لم يشبهه صوت، والتحدي الأكبر أن تلك الأغنية الأشهر لها غناها الكثير من المطربين الشعبيين إلا أنها تفوقت عليهم جميعًا.
بدايتها في عالم الغناء تشبه رحلة كوكب الشرق أم كلثوم، والتي كانت تعشقها جمالات وتحفظ أغانيها وترددها في بدايتها، حيث بدأت قصتها من الموالد، واكتشفها رائد الفن الشعبي زكريا الحجاوي الذي سبق وكان وراء صعود نجمي خضرة محمد خضر وفاطمة سرحان، فكان له الكثير من الفضل فى ظهور مواهب أثرت آذاننا عبر عقود من الزمن.
ربما للوهلة الأولى قد تتخيل تلك السيدة من إحدى محافظات الصعيد فهي التي أتقنت الغناء باللون الصعيدي ونغماته المتميزة، إلا أن مولدها كان في محافظة الشرقية عام 1933 -وقد قدمت أغنية بعنوان “أنا شرقاوية”- وفي الثانية عشرة من عمرها اكتشف والدها موهبتها في الغناء، وتجول معها هي وشقيقتها في الموالد والأفراح في السادسة عشرة من عمرها لتلقي على مسامع جمهورها ما ذخرت به ذاكرتها في أفراحهم وموالدهم.
“العين والليل” إن لم تسمعهما منها فإنك لم تسمعهما من قبل، فلها طريقتها الخاصة في أداء هاتين الكلمتين اللتين تبدوان في غاية البساطة، إلا أن الشجن الذي تمنحه لهما يجعل للأمر مذاقًا خاصًّا، ولم تخلُ أغنية لها من هذه البداية المميزة، يتبعه موال له ثقل حتى تغوص بعد ذلك في أجواء الأغاني التي قدمتها على مدار ما يقرب من 60 عامًا.
ومن قلب مولد “سيدي أبو مسلم” كان اللقاء بينها وبين زكريا الحجاوي وخضرة محمد خضر، لتبدأ حياتها الفنية في طريقها للنور بعد أن طلب الحجاوي من والدها الاستقرار في القاهرة، لتكون منطقة شعبية أخرى في انتظارها وهي إمبابة منذ عام 1961.
كان زكريا الحجاوي الذي طاف البلاد من أجل اكتشاف فناني التراث المصري قد أسس فرقة الفلاحين للغناء الشعبي في عام 1955، وفقًا لرغبة الكاتب الكبير يحيى حقي الذي كان حينها مديرًا لمصلحة الفنون، والهدف من تلك الفرقة وقتها هو تمثيل مصر في دولة الصين، وبالفعل قامت تلك الفرقة التي ضمت أفضل الأصوات الشعبية من مختلف أنحاء المحروسة وكان من بينهم الشقيقتان جمالات ورضا شيحة.
ظلت الفرقة تقدم تراثها الشعبي لسنوات، قد يتصور البعض أنها اختفت بعد رحيل الحجاوي إلا أنها في الحقيقة تعتبر في الوقت الراهن من أشهر الفرق الفنية التابعة لوزارة الثقافة وهي فرقة “النيل للآلات الشعبية” والتي تحولت لهذا الاسم منذ أن أدارها المخرج عبد الرحمن الشافعي عام 1975، وكان الحجاوي قد تركها في عام 1970 لظروف سفره، وظلت خلال الخمس سنوات هذه بإدارة قامت بتسريح العديد من الفنانين ولم تقدم شيئًا.
تجولت شيحة مع الفرقة في العديد من المسارح المصرية والعربية والأجنبية، كما كانت للفرقة مشاركات صعبة في وقت حرب الاستنزاف لتشجيع الجنود في محافظتي الإسماعيلية والسويس حيث كان صوت الغناء ممزوجًا بأصوات الرصاص.
سافرت جمالات شيحة إلى العديد من الدول العربية والأجنبية لتنشد تراثًا مصريًّا أصيلًا، فى تونس والأردن ولبنان والمغرب والجزائر والولايات المتحدة الأمريكية واليابان وفرنسا وبلجيكا ولندن وألمانيا، وغيرها من الدول، كما قدمت للتلفزيون المصري العديد من الأوبريتات ومن بينها “خيال المآتة” و”سعد اليتيم” وغيرها من الأغاني المتنوعة.
لجمالات شيخة مشاركات مع محمد محيي في ألبومه “مظلوم” عام 2008 وعلي الحجار بدويتو “الهوى يبلي”، وكان للموسيقار الكبير فتحي سلامة دور آخر في مسيرة جمالات شيحة حيث قدم معها ألبوم “رسيني” في بداية الألفية الثالثة لتتألق معه بنوع جديد عليها من الموسيقى في فرقة “شرقيات” وطافت من خلاله أيضًا العديد من البلدان وقدَّما سويًّا أكثر من 30 حفلًا فنيًّا.
حصلت جمالات شيحة على العديد من التكريمات والجوائز من قطاعات وزارة الثقافة التي كانت حاضرة في فعالياتها الفنية بقوة من بينها المجلس الأعلى للثقافة وصندوق التنمية الثقافية وهيئة قصور الثقافة.
جمالات شيحة التي رثت ابنها بأغنية “رسيني” التي تقول كلماتها :”رسيني يا ساقية عذاب.. فين اللي راح فين اللي غاب.. قوليلي راحوا فين.. وأشكي الغياب لمين” لم تغب عنا بتراثها وفنها الذي سيظل باقيًا وإن لم تجمعه شركة إنتاج واحدة في ألبوم وظل مبعثرًا عبر المواقع الإلكترونية، فى انتظار أن يجمعه أحد المهتمين بالتراث الشعبي.