محمود محيي الدين يكتب.. رسالة ختام «باكو» إلى من لا يهمهم الأمر!
بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط .. في ظل الأجواء الجيوسياسية المحتدمة في عالمنا المعاصر، أمسى أفضل ما تنتهي إليه المؤتمرات الدولية هو وصفها بأنها «أفضل من المتوقع وأقل من المأمول»، وقمة المناخ التي انفّضَّ جمعها منذ أيام في باكو، عاصمة أذربيجان، خير مثل لهذا الوصف.
فالقمة التاسعة والعشرون عُقدت عليها آمال كبار لتحديد الالتزام الدولي الجديد لتمويل العمل المناخي في البلدان النامية، وانتهت إلى اتفاق على مبلغ 300 مليار دولار من التعهدات السنوية حتى عام 2035، ووصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش اتفاق باكو بأنه «يمكن البناء عليه»، مؤكداً ضرورة أن تُحوَّل هذه الالتزامات إلى تمويل متدفق في توقيتاته دون نقصان.
الأرقام المطلقة للتمويل الدولي، لا ينبغي أن تدهش أحداً، وإن ارتفعت في مجملها. فالرقم تبرز أهميته بمقارنته بما كان عليه، والأهم ما جرى من تطور في الاحتياجات الفعلية الراهنة والمستقبلية إليه للعمل المناخي. والرقم الجديد هو ما سيتم العمل به بعد نهاية العمل برقم المائة مليار دولار سنوياً، الموروث من قمة كوبنهاجن لعام 2009.
ثم جُدد التعهد بذات الرقم في قمة باريس في 2015 مع التزام مشدَّد بأن يتدفق التمويل من البلدان المتقدمة كاملاً دون نقصان من 2020 حتى 2025، لكن جاء التمويل المستهدف متأخراً عامين، وفقاً لتقرير صدر في شهر مايو (أيار) الماضي عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
وتتحدى مراكز بحثية ومنظمات مستقلة، مثل «أوكسفام»، منهجية حساب المبالغ المتدفقة لما فيها من ازدواج وتكرار محاسبي، وخلط بين العمل المناخي ومجالات أخرى. كما عانى هذا الرقم منذ بدايته من غموض لمحتواه. فقد ظن الكثيرون من البلدان النامية عند بداية الإعلان عن هذا الرقم أنه مكون من منح وتمويل ميسر طويل المدى؛ فإذا به خليط من تدفقات متنوعة يغلب عليها القروض.
كما أن رقم المائة مليار ظهر في وقت الإعلان عنه بوصفه مبلغاً ضخماً. ولم يكن المجتمع الدولي على علم بعد بحجم الفجوات المطلوب تجسيرها لتخفيض الانبعاثات الضارة بالمناخ، أو للتكيف مع آثاره المدمرة للحياة وأسباب المعيشة، على النحو الذي عرضته في المقال السابق عن «رسائل باكو».
وقد شاركت مؤخراً في تقارير عدة عن تمويل العمل المناخي، جعلتني أصفه بأنه «غير كافٍ، وغير كفءٍ، وغير عادلٍ». أما أنه غير كافٍ فهو ما أكدته تقارير متوالية للمجموعة المستقلة رفيعة المستوى للخبراء في تمويل المناخ. أصدر رؤساؤها المشاركون: عمار بتاتشاريا، وفيرا سونجويي، ونيكولاس ستيرن، بياناً أكدوا فيه أن الهدف هو الوصول إلى تمويل خارجي يبلغ 1.3 تريليون دولار سنوياً حتى عام 2035، على أن يوجَّه هذا التمويل إلى البلدان النامية بخلاف الصين. وأن الرقم المتفق عليه في باكو يقل كثيراً عن الحد الأدنى للتمويل العام الميسر الذي قدرته المجموعة بمبلغ 390 مليار دولار سنوياً، بما يتطلب حشداً أكبر وأسرع للتمويل، وتيسير الحصول عليه وزيادة نوعية التمويل، وتخفيض تكلفته.
ويؤكد النداء الأخير ما ذكرته من قبل عن أن الأمر لا يقتصر على معضلة عدم كفاية التمويل، ولكن يمتد إلى البعد الثاني المتعلق بكفاءة التمويل بمعنى مدى يُسر الحصول عليه في فترات مناسبة منذ طلبه من مصادره، وهو ما يستغرق شهوراً ممتدة قد تصل إلى سنوات.
أما البعد الثالث، فهو عدم العدالة، فتمويل العمل المناخي مركَّز في بلدان معينة دون غيرها، كما أنه منحاز إلى مجالات التخفيف مثل الطاقة الجديدة والمتجددة، ولا يلتفت بالقدر ذاته إلى مجالات التكيف مثل حماية الشواطئ والتصدي للتصحر وانحسار الغابات، ونظم المياه والزراعة التي تهدرها آثار التداعيات المناخية. أما أبرز مظاهر انتهاك قواعد العدالة فيتجلى في اضطرار البلدان النامية إلى الاستدانة، بتكاليف باهظة، لعلاج أزمات لم تتسبب فيها.
ما العمل إذن؟
– عدم الاعتماد على سماوات لا تُمطر ذهباً أو فضة أو على وعود بتمويل سخيّ ميسَّر، وتفعيل آليات المحاسبة والمكاشفة والمتابعة.
– عدم الإفراط في افتراض أن الاستثمارات الخاصة ستأتي لكل أوجه العمل المناخي، فهي ستتوجه حيث ميزان العائد مع المخاطر المحسوبة في مجالات الطاقة الجديدة والمتجددة، وما زال إسهامها لا يزيد على 3 في المائة في مجالات التكيف.
– مراجعة حسابات حشد التمويل الخاص لمشروعات المناخ من خلال التمويل العام، فالأرقام التي نشرتها مؤخراً صحيفة «الفاينانشيال تايمز» تذكر أن التمويل الخاص زاد فقط من 14 مليار دولار في عام 2021 إلى 22 مليار دولار في عام 2022.
– التعجيل بجهود تطوير أسواق الكربون، خصوصاً بعد تعديلات باكو فيما يتعلق بالمادة السادسة، التي يقدَّر أنها ستطور سوقاً للائتمان الكربوني قد يصل إلى 250 مليار دولار مع حلول عام 2030.
– الاستعداد للقمة الثلاثين في البرازيل من خلال برامج عمل تنفيذية لجذب الاستثمارات من خلال خطة «الإسهامات المحددة وطنياً» للعمل المناخي؛ فالخطط القائمة في نماذجها القديمة لا تصلح أصلاً لهذا الغرض.
– تطوير قدرات التعامل مع مستجدات العالم الجديد، بعد انعزال فرق التفاوض الوطنية بعضها عن بعض. وهناك مناسبتان مهمتان لاختبار القدرة على التآلف بين ملفات العمل الدولي: الأولى في الرياض التي ستستضيف الشهر القادم المؤتمر السادس عشر للاتفاقية الأممية لمكافحة التصحر، ثم في إسبانيا في يونيو، حيث يُعقد المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، الذي يُعقد كل عشر سنوات.