الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تعيد رسم ملامح النظام الاقتصادي العالمي
سي إن بي سي_ عاد مسؤولو المالية العالميون إلى بلدانهم بشيء من الارتياح إزاء ما أظهره الاقتصاد العالمي من قدرة مفاجئة على الصمود أمام سلسلة الصدمات السياسية خلال الأشهر التسعة الأولى من الولاية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لكنهم في الوقت نفسه منهكون بسبب حالة عدم اليقين المستمرة التي تكتنف المستقبل.
فعندما اجتمع وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية في واشنطن في أبريل نيسان الماضي في أول اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي نصف السنوية لهذا العام، كان القلق واضحاً بشأن الرسوم الجمركية الجديدة التي أعلنها ترامب تحت مسمى «يوم التحرير».

وبعد ستة أشهر، خلال الاجتماعات التي اختُتمت لتوها في أكتوبر تشرين الأول، تراجع القلق ليحلّ محله شعور بالإرهاق والحذر من أن المشهد السياسي ما زال بعيداً عن الاستقرار.
وقال نائب محافظ بنك تايلاند، بيتي ديسياتات: «لقد كان الأمر مرهقاً للغاية منذ “يوم التحرير” بالنسبة لصنّاع السياسات، سواء في محاولة فهم ما يجري أو صياغة السياسات المناسبة والتواصل مع الجمهور بشأنها. لقد كانت حالة عدم اليقين صعبة جداً».
وقال مسؤول في الوفد الياباني الذي شارك في الاجتماعات بواشنطن لرويترز: «يبدو أن الاقتصاد العالمي أكثر مرونة مما كنا نعتقد قبل عدة أشهر، لكن لا مجال للاسترخاء في ظل هذا الكم من أوجه عدم اليقين».
وأضاف: «كان هناك قدر كبير من النقاش حول حالة الغموض هذه».
وقد تجسدت تلك المخاوف خلال أسبوع من الشدّ والجذب بين الولايات المتحدة والصين، بعدما ردّ ترامب على القيود الجديدة التي فرضتها بكين على تصدير المعادن النادرة بإعادة فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة.
تصاعد التوترات التجارية بين الصين وأمريكا
أدّى تصاعد التوترات مجدداً بين أكبر اقتصادين في العالم إلى تركيز اهتمام مئات صُنّاع السياسات المشاركين في الاجتماعات، في وقت تزداد فيه وتيرة التحركات نحو إقامة ترتيبات تجارية جديدة خارج نطاق الولايات المتحدة والصين.
وقالت كريستالينا جورجيفا، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، إنها نادراً ما شهدت مثل هذا القدر من التفاعل البنّاء في الاجتماعات نصف السنوية لمسؤولي المال والبنوك المركزية.
وأضافت خلال مؤتمر مصرفي عُقد السبت: «ربما يعود ذلك إلى أن مستوى عدم اليقين مرتفع للغاية بحيث لا يترك مجالاً للعروض المسرحية، وربما لأن العديد من الدول أدركت الآن أن التعاون الدولي، الذي اعتادت اعتباره أمراً مسلّماً به ويساعدنا على تحقيق نتائج أفضل، لا ينبغي اعتباره كذلك بعد اليوم».
وأشارت جورجيفا ومديرة منظمة التجارة العالمية نغوزي أوكونجو-إيويالا إلى أن من الإشارات الإيجابية أن التوترات الأميركية – الصينية، رغم حدّتها، لم تتحول إلى حرب تجارية شاملة، لافتتين إلى أن العديد من الدول تسعى في المقابل إلى تعزيز علاقاتها الثنائية والإقليمية.
قالت نيكولا ويليس، وزيرة المالية في نيوزيلندا، لوكالة «رويترز» إنها تتوقع أن يزداد زخم هذا الاتجاه في ظل تزايد حالة عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي على مستوى العالم.
وأشارت إلى أن من اللافت أن الاتحاد الأوروبي بات يسعى الآن إلى الارتباط باتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، وهي اتفاقية تجارة حرة تضم 11 دولة عضواً.
وأضافت ويليس في مقابلة مع «رويترز»: «جميع تلك العلاقات التجارية قوية جداً، والرسائل التي نتلقاها من شركائنا تشير إلى رغبتهم في البناء عليها وتوسيعها، لا السير في الاتجاه المعاكس».
من جانبها، قالت رانيا المشاط، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي في مصر، خلال فعالية السبت، إن تعزيز التعاون الإقليمي يُعدّ «نتيجةً مباشرة» للتطورات العالمية الأخيرة، لكنه سيظل عاملاً أساسياً في المرحلة المقبلة.
الإصلاحات ضروروية في كل مكان
سلّطت التطوّرات الأخيرة الضوء على الضغوط التي يعانيها الاقتصاد العالمي، بما في ذلك استمرار الاختلالات الخارجية «المفرطة»، ومستويات الدَّين القياسية تقريباً، والمخاوف المتزايدة بشأن قطاع التمويل غير المصرفي، إضافةً إلى الاضطرابات الناتجة عن تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وقال أندرو بيلي، محافظ بنك إنكلترا، إن من الضروري إجراء نقاشات صريحة، في ضوء فشل المجتمع الدولي سابقاً في اكتشاف — ثم وقف — تطورات الرهن العقاري عالي المخاطر التي فجّرت الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2009.
وشدّد بيلي على أهمية الشفافية في عالمٍ تسوده التعقيدات والترابط الوثيق بين قطاعات المصارف والتأمين والتمويل الخاص، قائلاً في ندوة نظمها «مجموعة الثلاثين» يوم السبت: «من واجبنا أن نرفع الغطاء ونرى ما الذي يجري فعلاً. لقد شهدنا بالفعل بعض الأحداث مؤخراً وعلينا أن نتساءل: هل هي حوادث منفردة أم أنها نذير خطر مبكر؟».
من جهتها، أعربت كريستالينا غورغييفا، مديرة صندوق النقد الدولي، عن قلقها من «التقييمات المبالغ فيها» للأسواق، بعد تحذير الصندوق في وقت سابق من الأسبوع من أن المستثمرين أصبحوا مفرطي الثقة رغم المخاطر المتزايدة، بما في ذلك الحروب التجارية والتوترات الجيوسياسية والعجز المالي الحكومي الكبير، مما يزيد احتمال حدوث «تصحيح فوضوي» في الأسواق.
وقالت غورغييفا إنها أنهت أسبوع الاجتماعات بقائمة طويلة من المهام، من بينها مراجعة آليات مراقبة الصندوق لاقتصادات الدول وتقييم مستويات ديونها، فيما شدّدت نغوزي أوكونجو-إيويالا، المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، على الحاجة الملحّة إلى إصلاحات في المنظمة.
وقالت أوكونجو-إيويالا: «علينا تنويع التجارة العالمية، فقد ساعدت التجارة كثيراً من الدول، حتى وإن لم تكن نتائجها متوازنة وخلّفت أخرى وراءها». وأضافت: «نحتاج إلى إصلاح الأجزاء التي لا تعمل، وعلينا أن نعيد تصوّر العولمة — لا يمكننا الاكتفاء بما كان عليه الوضع في الماضي».
تصاعد مخاطر المناخ
اتفق المسؤولون على أن تغيّر المناخ يشكّل ربما أكبر تهديدٍ يواجه العالم، على الرغم من تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة في الأمم المتحدة التي وصف فيها القضية بأنها «خدعة».
وأُثير الموضوع خلال اجتماع لجنة التوجيه في صندوق النقد الدولي يوم الجمعة، حيث قال محافظ البنك المركزي في جنوب إفريقيا، ليسيتيا كغانياغو، إن مخاطر المناخ باتت دون شك قضية «ذات تأثيرات كلية حرجة» ولها انعكاسات كبيرة على قطاع التأمين، والأسس الاقتصادية، والاستقرار المالي.
وقال كغانياغو في مؤتمر «مجموعة الثلاثين»: «في المفاوضات التجارية، يمكنك أن تنسحب وتجد شريكاً آخر، أما في قضية المناخ، فعندما تنسحب من المفاوضات، فإن الكوكب بأسره يسخن — وسنعاني جميعاً من العواقب».