د. محمود محيي الدين يكتب.. عن المستفيقين في «ضحى الغد»
بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ من حِكم العرب ما تردد على ألسنة من خبر الأزمات والكوارث فساق دروسها شعراً وجزلاً لعل من جاء بعدهم يتعظ بها، ومنها ما قاله الفارس دريد بن الصمة منتقداً قومه؛ لعدم استجابتهم لتحذيره وعدم التحسب لعدوهم والاستعداد له، في بيت من قصيدة يرثي فيها أخاه:
أمرتهمُ أمرِي بمنعرجِ اللّوَى

فلم يستبينوا النُّصحَ إلَّا ضُحَى الغَدِ
تذكرت هذه الكلمات أثناء مشاركتي في الاجتماعات السنوية للبنك وصندوق النقد الدوليين، التي انعقدت في العاصمة الأميركية واشنطن. وقد سبق الاجتماعات وصاحبها، ثم تلاها، حديث مفعم بالقلق على مستقبل الاقتصاد العالمي، وبعض رسالات التشجيع ومحاولات الطمأنة عن مرونته واستيعابه الصدمات. وتكررت دعوات لقيادات الدول من أجل التعاون والتنسيق أكاد لا أرى لها من مستجيب. فأنى لهذه الدعوات أن يتحقق مرادها بين فرقاء الصراعات الجيوسياسية؟ فمن ناحية، هناك بعض أهل الغرب المتشبثين بالمكانة العليا، بدافع من مقومات تراكمت لصالحهم عبر الزمن، تحت شعارات «نحن أولاً»، وإن أضافوا لها مؤخراً توضيحاً، ظنوه مفيداً، بأن هذا لا يعني «نحن وحدنا»، ومن ناحية أخرى يبزغ بعض من أهل الشرق باقتصادات أحسنت إدارتها استثماراً في البشر، وامتلاكاً لعمادات التقدم في العصر الراهن من تحول رقمي واستعداد لمستجدات الذكاء الاصطناعي، وانتقال مدروس نحو الاقتصاد الأخضر.
وعندما تتوالى موجات الارتفاع في أسعار الأسهم بما يتجاوز مقومات شركاتها ربحية، من دون مراجعة أو تصحيح، يكثر الحديث عن فقاعات قد تؤدي عند انفجارها إلى أزمات في أسواق المال. وتجري اليوم مقارنات بين انفجار فقاعة شركات التكنولوجيا المعروفة بـ«دوت كوم» في العاشر من مارس (آذار) 2000، بعد تضخمها في التسعينات من القرن الماضي بفعل عمليات احتيال ومضاربات منفلتة، وأسعار أسهم الشركات المشهورة «بالسبعة الرائعين» – وهي شركات التكنولوجيا الكبرى «مايكروسوفت، وميتا، وأمازون، وأبل، وإنفيديا، وغوغل، وتسلا». والحديث عنها في رهان إذا ما استطاعت هذه الشركات أن تحقق وعدها بزيادة الإنتاجية بدافع من الذكاء الاصطناعي تتوافق مع سباق الأسعار المتزايد عليها، وإلا ستتكرر مشاهد الأزمة على هذا النحو: زيادة شرهة في الأسعار، تُضخم الفقاعة، فتنفجر محدثة دوياً بمقدار انتشار المضاربين عليها بأموال غيرهم اقتراضاً، بما يحدث أزمة سيولة، ومن ثم تتوالى فصول الأزمة، وفقاً لعمقها بتداعيات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
وعندها سيعاود المعلقون بالتنويه عن الكتاب العمدة للأزمات المالية، الذي ألفه الاقتصادي تشارلز كندلبرغر في عام 1978، بعنوان «هوس، وذعر وانهيارات». ثم يباريهم معلقون آخرون بأنهم رأوا الأزمة قادمة قبل غيرهم، مستندين إلى ما يعرف بأن الأسواق قد أدركتها «لحظة مينسكي» الفارقة بين صعود الأسواق حتى نقطة بدء انهيارها. وهذه اللحظة منسوبة للاقتصادي هايمان مينسكي التي وصف بها انتقال قطاع المال من الاستقرار للهشاشة ثم الأزمة بفعل المضاربات الممولة بالاستدانة التي تُضخم من الفقاعة حتى انفجارها.
إذن، حتى لا تنفجر الفقاعات، وإذا انفجرت فلا تحدث أزمة كسابقاتها، فالأمر منوط ببعدين: الأول، أن تتوالى المكاسب الحقيقية من زيادة الإنتاجية والكفاءة المتحققة بالذكاء الاصطناعي، والتي يذهب الاقتصادي جاسون فورمان إلى أنها عوضت خسائر الاقتصاد الأميركي بفعل الحرب التجارية المشتعلة. الآخر، استيعاب دروس الأزمة المالية العالمية لعام 2008 فيما يتعلق بقواعد الرقابة الحصيفة على البنوك، وأن الحوائط المانعة من انتقال انفجار الفقاعات إلى البنوك المسؤولة عن وسائل الدفع والاستقرار النقدي تم تحصينها. وأن ما نراه من مشكلات ومخاطر في أسواق الائتمان الخاص، كسقوط شركة إقراض السيارات «تراي كولور»، شركة قطع غيار السيارات «فيرست براندز»، هي استثناءات تجري مخاطرها على السطح كفئران هائمة لا تنال من أعمدة البناء. وفي هذه الأثناء، فصعود الذهب ما هو إلا تغير تشفع له ظروف اللايقين المؤججة بالصراعات الجيوسياسية ورد فعل لتسليح الدولار.
فإذا ما كان الأمر على هذا النحو، فما الذي يستحق الانتباه إليه فعلاً من قِبل بلداننا النامية، والذي يستوجب الاستنفار وتحذير من اعتادوا الاستيفاق في ضحى الغد؟
– أولاً، الارتفاع المستشري للديون السيادية في البلدان المتقدمة وارتفاع تكاليف خدمة الديون في البلدان النامية؛ وقد أدى استفحال الاستدانة في البلدان المتقدمة إلى أن تخصص لها مجلة «الإيكونوميست» غلافها هذا الأسبوع تحت عنوان «طوارئ الديون القادمة»، وإن كانت لم تعِر بالاً لأزمة مديونية البلدان النامية التي أفردتُ لها مقالات عدة على هذه الصحيفة الغراء، مظهِراً خطورتها على التنمية والتعليم والصحة والاستقرار الاجتماعي، وموضحاً سبل علاجها بما في ذلك الأحد عشر مقترحاً لمجموعة عمل الأمم المتحدة.
– ثانياً، الاختلال الديموغرافي حول العالم بشيخوخة التركيبة السكانية في بلدان أوروبية واليابان، وشبابيتها المحمودة في بلدان نامية ولكنها تهدر بقصور الاستثمار في البشر.
– ثالثاً، استمرار الحروب الاقتصادية، ولا أقول التجارية فحسب، وتداعياتها على من لا يستعد لها بنهج لتوطين التنمية والاندراج في الإقليمية الجديدة بمزيد من التجارة والاستثمار والتعاون التكنولوجي.
– رابعاً، تهافت معدلات النمو وقصورها عن توليد فرص العمل اللائق، وزيادة الدخول المساندة لمستوى معيشة يصون الطبقة الوسطى ويستنقذ الذين يعانون الفقر المدقع.
– خامساً، انحسار فرص التقدم بالتخاذل في الاستثمار في الاستعداد للتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي ومقومات الاقتصاد الأخضر المستدام.
هذه الأمور الخمسة لا تحتمل إهدار الزمن بأفعال من أتقنوا «فن عمل لا شيء». وفي هذا تفصيل يتناوله مقال قادم.