بقلم د. محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ بدافع الرغبة في استمرار الهيمنة على سوق العملات الصعبة، ذكَّرتنا شبكة «رويترز» الإخبارية منذ أيام ببعض مبررات الإدارة الأمريكية الحالية بمساندة إصدار ما يعرف بالعملات المستقرة.
وأوضح ديفيد ساكس المكلف شؤون الذكاء الاصطناعي والمشفرات بالبيت الأبيض، بعد أيام من تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقاليد الحكم، أن الدعم المطلق للعملات المستقرة -المساندة بالكامل بالدولار – «من شأنه تأكيد سيطرة الدولار الأمريكي دولياً، وزيادة استخدام الدولار رقمياً، ومن خلال ذلك سيوجد طلب على الدولار بما يعادل تريليونات من مشتريات أذون الخزانة والسندات الأمريكية؛ ما من شأنه تخفيض أسعار الفائدة على الأجل الطويل».

وسعت الإدارة الأمريكية لإصدار التشريع المعروف الآن بقانون «جينيوس» بمعنى عبقري، وهو مختصر الحروف الأولى لتشريع هو الأول من نوعه للأصول الرقمية، والصادر في 17 يوليو من هذا العام بعنوان «إرشاد وتأسيس الابتكار الوطني للعملات المستقرة الأمريكية».
ومن المزايا الاقتصادية للعملات المستقرة انخفاض تكلفة المعاملات عبر الحدود، وسرعتها من دون الاعتماد على نظام السويفت، أو وسطاء نقل الأموال بتكاليفهم الباهظة وما يستغرقونه من وقت. ولكن، هناك مخاطر الدولرة من خلال هذه العملات المستقرة، حيث ستواجه البنوك المركزية رافداً جديداً للتدفقات المالية الأجنبية لا يخضع لسيطرتها، ويجعل إدارتها للسياسة النقدية أكثر صعوبة. كما أن هذه الأصول المالية المشفرة يمكن تداولها خارج القنوات المراقبة من البنوك المركزية.
فما بالنا وهذه العملات سيتم التوسع في إصدارها والطلب عليها، فكما يتنبأ ستيفن ميرين، العضو المعين مؤخراً من قِبل الرئيس ترمب في مجلس محافظي البنك الفيدرالي الأمريكي، بأن العملات المستقرة ستصل إلى ما بين تريليون و3 تريليونات دولار مع حلول عام 2030؛ ارتفاعاً من 300 مليار دولار في الوقت الراهن. هي أرقام لا يمكن تجاهلها بخاصة أن أغلب الاحتفاظ بها سيكون خارج الولايات المتحدة.
وتداول هذه العملات والاحتفاظ بها سيكون يسيراً عبر تكنولوجيا «سلسلة الكتل» أو البلوك تشين بحرية مطلقة بما يتجاوز نظم الدفع الوطنية وآليات تسوية المعاملات وقوانين سعر الصرف. وإذا لم تتنبه السلطات النقدية فستجد نظامها النقدي والمالي جزئياً ثم تدريجياً خارج نطاق سيطرتها، بما لا تجدي معه النظم المتقادمة لتقييد حركة رؤوس الأموال عبر الحدود معها نفعاً، بخاصة للبلدان التي عانت من الدولرة، لتراجع عملاتها المحلية في القيام بوظائفها في الاحتفاظ بقيمة النقود بسبب معدلات التضخم المرتفعة، وانخفاض الاعتماد عليها في حساب القيمة، وتسوية المعاملات.
فلطالما أكدت أن الخطوة الناجعة للتعامل مع العملات الصعبة بأنواعها، وكذلك أشكالها القديمة أو الجديدة، يجب أن تبدأ بألّا تكون العملة الوطنية سهلة في بلدان إصدارها أصلاً، فآفة العملات المحلية السهلة قد تفاقمت بالتوسع في الاستدانة، واشتعال التضخم ارتفاعاً وتراجع النمو بانخفاض الإنتاجية وتدهور التنافسية تشغيلاً واستثماراً وتصديراً.
وأعرف في المقابل العملة الصعبة، بغض النظر عن شكل إصدارها ورقياً كان أو رقمياً أو مشفراً بأنها عملة دولية التداول، لها قبول وقوة إبراء عبر الحدود. حقاً ارتفعت معدلات التضخم في الاقتصاد الأمريكي بعد موجة التيسير النقدي، مع تخوف من وقوعه في ركود بسبب السياسات الاقتصادية غير التقليدية والحروب التجارية، وما أصاب سوق العمل من ضحالة بعد تقييد حركة العمالة الوافدة، وضعف الارتباط بين النمو الاقتصادي والتشغيل، رغم ذلك كله فالدولار ما زال مسيطراً على معاملات الاقتصاد العالمي لأكثر من سبعة عقود. فنحو 90 في المائة من معاملات النقد الأجنبي تتم بالدولار، وكذلك تسوية المعاملات التجارية بما يتجاوز 70 في المائة في آسيا و95 في المائة في الأميركتين، فضلاً عن أن 58 في المائة من احتياطات البنوك المركزية ممثلة في أصول مالية دولارية.
وفي مستقبل العملات المستقرة جدل تحسمه الإجابة عن أسئلة مهمة، لا شك أنها ستشغل اهتمام البنوك المركزية وعموم الناس:
– هل يصدق وصف العملة بالمستقرة من دون اعتبار للاستقرار في المدى الطويل للعملة المساندة لها؟
– ألا ينبغي التمييز بين العملات المستقرة المقومة بالدولار وفقاً لتوفر الضمانات المساندة؟ فمنها ما هو مضمون بالكامل، ومنها ما هو مضمون جزئياً ومنها المتداول بلا ضمان.
– ما هو مستقبل عملات البنوك المركزية الرقمية، وعلاقتها بالعملات المستقرة؟
– ما هي احتمالات نجاح البنك المركزي الأوروبي في رقمنة اليورو، وإمكانية توسعه النقدي دولياً باعتبار اليورو العملة الثانية دولياً للاحتياطي، رغم تراجع تنافسية اقتصاده وفقاً لتقرير ماريو دراجي الشهير الذي وصف فيه الاتحاد الأوروبي بأنه يواجه أزمة وجودية؟
– ما هي آفاق تدويل اليوان أو الرينمينبي الصيني، بخاصة بعد تطوير تكنولوجية رقمنته وتشفيره والتوسع في المشاركات الدولية الثنائية لاستخدامه؟
– ما هو تأثير التوسع في العملات المستقرة على ودائع البنوك؟
– وما هو الأثر على تحويلات العاملين بالخارج؟
– ما هو تأثير التوسع في العملات المستقرة على احتكار ريع الإصدار النقدي من قِبل البنوك المركزية؟
– ما هي الآليات المتاحة للبنوك المركزية في ظل هذه المستجدات لإدارة السياسة النقدية، والانضباط المالي، والتحكم في التدفقات المالية الدولية؟
قد يتغير وضع الدولار مستقبلاً ويزاح عن عرشه كما أزيح الجنيه الإسترليني والغيلدر الهولندي عن عرشيهما من قبل، ولكن في الوقت الراهن ما زالت هناك هذه الهيمنة الدولارية التي يراهن أنصار الدولار على أن وثبة تكنولوجيا العملات المستقرة ستعززها، بما يتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة الحرجة في مقالات قادمة.











