بقلم د. محمود محيي الدين النائب الأول لرئيس البنك الدولي نقلا عن الشرق الأوسط _ يتواتر الحديث عن ركود اقتصادي شامل بعد سنوات من استمرار تراجع معدلات النمو الاقتصادي عالمياً واستمرار التعرض لمشكلات متوالية تنوعت بين حروب تجارية، وتراكم للديون العامة والخاصة، وتقلبات ومخاطر جيوسياسية.
وجددت المخاوف من الركود تلك الصدمة المستجدة مع تفشي العدوى بفيروس كورونا. تأتي هذه المتغيرات السلبية في إطار اتجاهات عامة تشكل عالما جديدا بأوزان اقتصادية وسياسية تختلف عما كان عليه الحال إبان اندلاع الأزمة المالية في عام 2008 وما أعقبها من تباطؤ مستمر في الأداء الاقتصادي.
حقاً تسببت الأزمة المالية في حالة مضنية من الركود الاقتصادي، كان من الممكن أن تصل إلى كساد كبير مشابه لما تعرض له العالم في الثلاثينيات من القرن الماضي لولا تدخل البنوك المركزية والمؤسسات المالية الدولية للحيلولة دون ذلك بتكاليف باهظة.
وكالعادة مع كل حالة من حالات الركود تتبارى التحليلات المتداولة في محاولات للتنبؤ بشكل الركود. هل سيكون مثلاً على شكل حرف V وفيه يكون تراجع معدل النمو الاقتصادي حاداً، ولكن سرعان ما يتحسن الوضع بارتفاع سريع لمعدل النمو، على نحو ما حدث في عام 1990 ثم في عام 2001 في بعض الاقتصادات الغربية إذ لم يستغرق التباطؤ شهوراً لم تتجاوز العام؛ أم يكون الركود متخذاً لشكل حرف U فيبطؤ معدل النمو ويستقر عند القاع لفترة قبل أن يتم التعافي في الأداء الاقتصادي، مثلما حدث في فترة السبعينيات في الولايات المتحدة.
أما أسوأ أشكال الركود فهو ما يأتي على شكل حرف L وفيه تتراجع معدلات النمو بحدة في زمن قصير ثم تستقر في القاع لفترة طويلة، على شاكلة ما حدث في اليابان منذ التسعينيات. يتوقف الأمر في كل حالة على مدى استجابة القطاعات الاقتصادية لإجراءات السياستين النقدية والمالية، وكذلك الإصلاحات الأعمق في هيكله ومؤسساته، وهي أكثر صعوبة وتكلفة من النواحي الاجتماعية والسياسية ولا يلجأ لها القائمون على الاقتصاد إلا عزماً أو اضطراراَ.
ومن الخطأ أن يتم التعامل مع الركود وتبعاته برؤية قصيرة المدى بمعزل عن التطورات الاقتصادية والسياسية عالمياً ومدى تأثيرها على كل دولة مستقبلاً. فقد انتهى ما يسمى بالعالم الثاني بعد تهاوي النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي مع سقوط حائط برلين في عام 1989.
وذهب روبرت زوليك، الرئيس الأسبق للبنك الدولي، في كلمة ألقاها في مركز وودرو ويلسون في عام 2010. أن عام 2009. شهد زوال ما يسمى بالعالم الثالث بفضل بزوغ عدد من الدول النامية والاقتصادات الناشئة بعد الأزمة المالية العالمية كقوى اقتصادية مؤثرة ومراكز للنمو المتصاعد؛ بما يجعلنا بصدد عالم متعدد الأقطاب بكل ما يترتب على ذلك من آثار سياسية.
فالتحولات الاقتصادية يترتب عليها حتماً تحولات سياسية ترتبط بها. ويبرهن على ذلك بتغيرات متدرجة في النظام الدولي متعدد الأطراف وبزيادة الأهمية النسبية لمجموعة العشرين، التي تضم عدداً من القوى الاقتصادية الجديدة، مقارنة بمجموعة الدول السبع.
وأضيف أن ما يتعرض له العالم حالياً، ليس مجرد حالة من حالات الركود أو إحدى مراحل الدورات الاقتصادية، ولكنها أعراض لتغيرات شديدة الأثر أُطلق عليها «المربكات الكبرى» ستؤدي لتغيرات هامة في الأنشطة الاقتصادية وترتيبات النظام الدولي المتعارف عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وتتمثل هذه المربكات الكبرى في تغيرات شديدة الأثر الاقتصادي والاجتماعي داخل الدول وبين بعضها البعض، ويتطلب التعامل معها موارد ضخمة وأولويات في الإنفاق والاستثمار العامين، وتوجها مختلفاً في أولويات السياسات العامة. وأوجز هذه المربكات في ثمانية1
1) تحولات في معدلات زيادة السكان مع زيادة في توقعات الأعمار عند الولادة مع شبابية التركيبة السكانية في بلدان الجنوب وميلها إلى الشيخوخة في بلدان الشمال، وما يترتب عليها من متطلبات للاستثمار في البشر خاصة فيما يتعلق بالتعليم والرعاية الصحية ونظم الضمان الاجتماعي2
2) آثار شديدة لتغيرات المناخ على الحياة والنشاط الاقتصادي والهجرة والاستقرار، واحتياجات التصدي لها من استثمارات تحتوي آثارها سواء للتوقي منها أو التوافق معها3
3) سرعة وتيرة الانتقال للحضر ومتطلباتها التنظيمية لمنع العشوائية وزيادة البطالة وما تستلزمه من استثمارات ضخمة في البنية الأساسية.4
4) انتشار النزاعات والصراعات وما يترتب عليها من خسائر إنسانية مروعة ومتطلبات منعها والتعامل مع تداعياتها.5
5) تفشي الأوبئة المعدية والأمراض المتوطنة والمزمنة، وأعباء تدبير تكلفة الوقاية والعلاج.6
6) التغير المستمر في مركز الجاذبية الاقتصادية عالمياً وتحوله تجاه الشرق بفعل الثقل النسبي للسكان وقطاعات النشاط الاقتصادي، وسبل التفاعل مع هذا التغير بين شد وجذب مستمرين خاصة فيما يتعلق بالعولمة وتدفق حركة التجارة والاستثمار والعمل.7
7) أوضاع أسواق السلع الرئيسية كالأغذية والطاقة والذهب والخامات والبورصات المالية المرتبطة بها وبأسهم الشركات المتداولة، واتجاهات أسواق السندات والديون وتقلبات العائد عليها وفقاً لجهات الإصدار ومدى قراءتها وتأثرها بالسياسات النقدية والمالية.8
8) ما يترتب على ما يطلق عليه بالثورة الصناعية الرابعة وتأثيرها على أسواق العمل والتجارة ورؤوس الأموال، ومستلزمات إتقان علومها والتواكب معها ببنية متطورة للاقتصاد الرقمي ومستحدثات تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي. ويرتبط بذلك تبني سياسات متكاملة للتعامل مع البيانات والحقوق والالتزامات المرتبطة بها خاصة فيما يتعلق بالأمن والخصوصية وحقوق الملكية.
وفي العصر الرقمي، وارتباطاً بالنقطة الأخيرة، لا يمكن إغفال دور الفاعلين الجدد في الاقتصاد. فمنهم ما يتخطى حدود الدولة بشكل غير مسبوق؛ فشركات التكنولوجيا الكبرى على سبيل المثال لا يقتصر طموحها على توسع في الأسواق عبر الحدود أو جلب لمزيد من الأرباح لملاكها. فمستخدمو منتجات بعض هذه الشركات الكبرى والمتعاملون على شبكاتها يتجاوزون نصف سكان المعمورة وأرباحها تتجاوز أحجام اقتصادات دول. ومدفوعة بهذه القوة من النفوذ في الأسواق والنشاط الاقتصادي أصبحت هذه الشركات متداخلة ومؤثرة في اتخاذ القرار وقواعد الرقابة بأشكال مختلفة. ومن هذه الشركات ما يدعى اليوم في محافل كانت قاصرة على ممثلي الحكومات مثل مؤتمرات الأمن والاستراتيجية الدولية.
وإذا تابعنا الأسلوب الذي تبناه زوليك بإشارته إلى عام 1989 كعام نهاية لما يسمى بالعالم الثاني، وبعده بعقدين جاء عام 2009 كعام زوال لمسمى العالم الثالث، ومع إدراج تأثير المربكات الكبرى في الاعتبار فما الذي يمنع عام 2029 مثلاً أن يكون عام انقضاء لما يُسمى العالم الأول، وذلك بعد نهاية العالم الثالث بعقدين وفقاً للتقسيم القديم؟
وفي كل الأحوال فإننا بصدد عالم تتشكل معالمه وقواعد ألعابه السياسية والاقتصادية وفقاً لقدرات تعامل دوله مع إرث قديم يتشبث به قدامى اللاعبين وإمكانيات جديدة يكتسبها ذوو القدرة على التعامل مع مستجدات العصر ومربكاته الكبرى، سواء كانوا من اللاعبين الجدد القادمين بعنفوان للمنافسة أو بعض القدامى من دائمي التطور والمثابرة. ولهذا يجب أن تأتي قواعد التعامل مع دورات الاقتصاد وأزماته في إطار سياسة منضبطة، لا تقتصر على إجراءات متناثرة قصيرة الأجل لدفع معدلات النمو بل وفقاً لنهج متكامل للتقدم والتنمية.