محمود محيي الدين يكتب: وفاء للأطباء و هيئات التمريض ومعاونيهم

بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري _ ذكرتني هذه الملحمة التي يخوضها الأطباء و هيئات التمريض و معاونوهم حول العالم بأعز إنسان إلى قلبي — أبي الطبيب صفوت محيي الدين الذي كان جملة رجال في رجل واحد كما وصفته في مقال منشور منذ عشرة أعوام .

اختتم أبي حياته في عام 1982 بعد حياة ثرية مديراً للمعامل المركزية و أحد المتخصصين في العلوم البكتريولوجية و مكافحة الأمراض المعدية و الأوبئة، و عضواً بالبرلمان المصري، و مشرفاً على مزرعة الموالح التي ورثها عن والده، و راعياً لأرض أشقائه و أنسابه بكفر شكر، التي كان خادماً مخلصاً لأهلها و للعمل العام.

E-Bank

و لما كان يعرف قيمة الوقت و تنظيمه فقد خصص منه ما سمح له بالإشراف على المنافع العامة لعائلة محيي الدين مثل المضيفة و المدافن و ماكينة الري الرئيسية. و كان باراً بأقربائه لا ينقطع عن زيارتهم وودهم فضلاً عما كان يشهده التختابوش (أو المضيفة) من مئات الزائرين و أصحاب المطالب و المظالم يومي الخميس و الجمعة من كل أسبوع دون انقطاع حتى لقي ربه.

كانت أعمال و مشاغل والدي هي حرفه هواياته في الوقت نفسه، فقد كان يحترف ما يفعله مخلصاً و يجد فيه متعة و شغفاً. أما ولعه بالأدب و الفنون وعشقه للتاريخ فكانا له كالطعام و الشراب لا تكون الحياة بدونهما.

ربما كان هذا بفضل نشأته مع هذا الجيل الفريد الذي ولد بعد الثورة المصرية في عام 1919، ربما ما كان من إحسان تعليمه في عصر نهضة ساعية للاستقلال بنهل المعارف و الأخذ بأسباب العلم و تذوق الأدب- عصر حافظ و شوقي و “قم للمعلم وفه التبجيلا”، ربما كانت المعاصرة لفترة النضال الوطني في الأربعينيات من القرن الماضي، و تلاه من سنوات الآمال الكبرى، التي لم تنل من عزائم أصحابها إخفاقات و نكسات.

تابعنا على | Linkedin | instagram

كان أبي و صحبه، باختلاف تخصصاتهم، و خاصة الأطباء منهم، يحملون هذه السمات و الخصائص التي تميل إلى الموسوعية و تعدد الاهتمامات و المواهب، و التي أملت هذا التقدير البالغ للأطباء في مجتمعاتهم. و قد أحسن التعبير عن هذه الصفات الكاتب و الروائي عزت القمحاوي في مقاله الأخيرعن صورة الطبيب في الأدب.

و قد تلمست لمحات عن هذه الصورة الموصوفة إلى حد بعيد في حياة أبي، و كذلك في مسيرتي عمي و عمتي فقد كانا طبيبين أيضاً. عمي الدكتور فؤاد محيي الدين كان سياسياً محنكاً و خطيباً مفوهاً و تنفيذياً مخضرماً كمحافظ لثلاث محافظات كبار (الشرقية و الإسكندرية و الجيزة) و برلماني، و وزير للحكم المحلي و للصحة و لوزارات أخرى، ثم عمله كنائب أول لرئيس الوزراء و رئيس للوزراء حتى وافته المنية في مكتبه في عام 1984.

و وصف كتاب عنوانه “أربعون عاماً من النضال” تاريخ حياته و أسلوب عمله و أثر تكوينه العلمي كطبيب على حياته العملية رغم انجرافه إلى العمل العام. و لم يمنعه عمله التنفيذي و مشاغله في فترة حرجة من تاريخ مصر أن يقبل أن يكون وصياً علي و على شقيقي الأصغر بعد وفاة والدنا وفاءاً له و عملاً بما تقتضيه الأصول و الواجب. و قد كانت له معي بعض المواقف و النوادر قد يأتي الوقت لذكر بعضها.

أما عمتي الدكتورة ألفت محيي الدين فكانت من الرعيل الأول للطبيبات المصريات و تخصصت أكاديمياً في التحاليل الطبية، و كان لديها معمل تحاليل في منطقة وسط البلد بالقاهرة كنت أذهب إليه طفلاً في زيارات مع أبي أو لعمل التحاليل فأعجب بكل هذه القوارير و الأجهزة و الحقائب الطبية ذات الأدراج و الجيوب الصغيرة المقسمة هندسياً.

كانت زوجة لطبيب شهير بارع أيضاً هو الدكتورإبراهيم كمال الذي تخصص في الولادة و أمراض النساء، و كانت من هواياته المفيدة لنا جميعاً فن التصوير. فله يرجع الفضل في احتفاظنا لصور تجمع العائلة في زمن لم تكن فيه معدات التصوير ميسورة في كل يد، كشأنها الآن مدمجة في الهواتف المحمولة. و قد أنعم الله على عمتي ألفت رحمها بالذكاء و الحكمة و الكرم فكانت لأمي، خصوصاً بعد وفاة أبي، شقيقة كبرى و لي أماً ثانية.

و لم يكن هذا شأني وحدي فقد اتسع وقتها و رجاحة عقلها و كتمانها و حرصها على تحقيق الصالح لكي تكون المستشارة الأولى و الأخيرة في شئون حياة أبناء أسرتنا على اختلافها.

فتحية للأطباء و هيئات التمريض و معاونيهم، خط الدفاع الأول عن حياة الناس و صحتهم. واحتراماً لمن جعلهم الله سبباً في شفاء الناس. و تقديراً لمن لا يمكن أن توفي أقدارهم منح أو زيادات مستحقة في رواتب.

و إعجاباً بمن عرف الفضل لأصحاب الفضل فاصطفوا لفرق التطبيب وقوفاُ بتحية عسكرية في الصين، و صفقواً لهم من الشرفات في أسبانيا وإيطاليا و فرنسا، وغنوا لهم و لردائهم الأبيض، كما فعل في مصر الفنان المبدع مدحت الصالح من كلمات عمر طاهر، وألحان عزيز الشافعي، وتوزيع كريم عبدالوهاب:

تعبك على راسي وعلى عيني

يا نجم عالي يا قصر عيني

الرابط المختصر