بقلم محمود محيي الدين الخبير الاقتصادي المصري نقلا عن الشرق الأوسط _ كلما مر عام على اليورو كعملة للاتحاد الأوروبي، منذ مولده في عام 1999، تذكرنا بأنه مشروع سياسي في الأساس يأتي التزاماً في إطار للوحدة الأوروبية التي صممت ترياقاً لمائة سنة من الحروب المدمرة بين دولها تخللها فترات سلام متهافت. صدر اليورو مفتقداً للمقومات الاقتصادية والمؤسسية لاستقراره واستدامته؛ فالوحدة النقدية يلزمها وحدة في الرقابة المالية، وليس مجرد تنسيق بين أجهزتها، كما تتطلب نظاماً موحداً لحماية الودائع، وفي المقام الأول فهي تستوجب وحدة في السياسات المالية العامة وليس فقط تشاوراً غير ملزم لوزرائها ومعدي الموازنات الوطنية. وهذه المستلزمات الأولية للوحدة النقدية تحتاج إلى متابعة ورقابة سياسية، بمعنى سلطات أعلى للبرلمان الأوروبي على حساب البرلمانات الوطنية، وهنا تبرز اعتبارات السيادة الوطنية مقابل الاتحاد الإقليمي.
وتأتي الأزمات فتختبر مدى صمود اليورو لأنوائها مثلما فعلت به من قبل الأزمة المالية العالمية في عام 2008، فوجدته عارياً من غطاء المالية العامة لضبط التحويلات بين دوله وتحديد أولويات الأنفاق. ولم يكن لموازنة الاتحاد الهزيلة أن تحصل إيرادات ضريبية أو تصدر سندات. فأخذ البنك المركزي الأوروبي على عاتقه مهمة الدفاع عن اليورو وفقاً لسياسة لخصها ماريو دراجي، رئيس البنك السابق، في كلمات «القيام بكل ما يلزم» للتصدي للأزمة، وهو ما تم بتكاليف باهظة.
واليوم تتحدى الوحدة الأوروبية ذاتها، وليس وحدتها النقدية فقط، عاصفة «كورونا» الكاملة ذات الأزمات المركبة المصاحبة لانتشارها بأبعادها الإنسانية والاقتصادية والمالية، بما في ذلك تفاقم مشكلات المديونية. وللتصدي لهذه الأزمة قادت ألمانيا وفرنسا تنفيذ فكرة تأسيس صندوق للتعافي قوامه 750 مليار يورو بما يعادل 5 في المائة من الناتج المحلي الأوروبي يقوم على فكرة التضامن بالاقتراض الجماعي لأول مرة باسم الاتحاد، والإنفاق من موارده من خلال قروض ميسرة مقدارها 360 مليار يورو، ومِنح لا ترد مقدارها 390 مليار يورو. وسيعطي هذا الصندوق إمكانية للموازنة الموحدة للإنفاق بنحو 1.8 تريليون دولار على مدار سبع سنوات لمواجهة تبعات الوباء والكساد المصاحب له، بما اعتبر خطوة في طريق طويل نحو وحدة المالية العامة. وبعد مفاوضات مضنية تمت الموافقة على الصندوق وآليات عمله في اجتماع لقادة الاتحاد وُصف عن حق بالتاريخي في الحادي والعشرين من يوليو؛ وإن كان ذلك كله ما زال في انتظار الموافقات البرلمانية للدول الأعضاء، وهو أمر يصعب التكهن بنتيجته في ظل حالات الاستقطاب والتنافر السياسي.
وقد بدأت التكهنات والمضاربات على مستقبل سعر الصرف بين الدولار واليورو وإعادة تقييمهما وفقاً للمعطيات الجديدة في الأجل القصير. وفي الأجل الأطول هناك الأهم، ألا وهو مستقبل اليورو مقابل الدولار كعملة احتياطي، خاصة مع بزوغ مقترحات وترتيبات جديدة لتسوية المدفوعات الدولية، منها ما يستند إلى دور متصاعد لليوان الصيني، وأخرى تدعو للارتكاز على سلة عملات أو وحدات حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، فضلاً عن المناداة بزيادة مكون الذهب في الاحتياطي للنقد الأجنبي، وهو اتجاه متصاعد منذ سنوات.
والعودة للجذور التاريخية للوضع الحالي للنظام النقدي الدولي تعين على فهم الواقع واستشراف احتمالات المستقبل. فقد بدأ الدولار في تمتعه بمصداقية كعملة دولية في العشرينات من القرن الماضي، ذلك عندما عجز الجنيه الإسترليني عن الوفاء بالتسوية الفورية للمدفوعات الدولية في فترة ما بين الحربين واضطراب النظام النقدي لبريطانيا. ثم تحققت للدولار الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان الاقتصاد الأمريكي في حالة أفضل بعد الحرب من الاقتصادات المنافسة. ثم جاءت اتفاقية بريتون وودز بترتيبات أعطت للدولار امتيازاً بجعله عملة احتياطي دولي قابل للتحويل بمقدار 35 دولاراً للأوقية من الذهب (السعر الآن 1940 دولاراً!).
كان الاقتصادي فون ميزيس، رائد المدرسة النمساوية، من معارضي ترتيبات بريتون وودز فيما يتعلق بامتياز الدولار، لاحتمالات سوء استغلاله بالتوسع في الإصدار النقدي للدولار. وظهرت مؤشرات أولية لعدم إمكانية استمرار هذا الامتياز مع نهاية الخمسينات. وقد كان من تلاميذ فون ميزيس الاقتصادي جاك روف، مستشار الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول الذي عارض استمرار هذا الامتياز وعبّر عن ذلك في مؤتمر صحافي في عام 1965، واصفاً نظام الصرف الذي رتبته اتفاقية بريتون وودز بـ«المستغل والخطير»، ناصحاً بالعودة لنظام نقدي يعتمد على الذهب. وفي عام 1970 صدر تقرير فيرنر نسبة لرئيس حكومة لوكسمبورغ، بناءً على توصية بإعداده من القمة الأوروبية. وشرح التقرير خطة من ثلاث مراحل لإيجاد عملة موحدة لأوروبا في خلال عشر سنوات، ولكن لم ترَ هذه الخطة النور بضغوط أمريكية.
ومع ارتفاع معدلات التضخم الأمريكية ، بزيادة المعروض النقدي في بداية السبعينات، اهتزت الثقة في نظام التحويل التلقائي للدولار إلى الذهب، وتوالى خروج الدول من نظام صرف بريتون وودز، وكان منها ألمانيا (الغربية وقتها) ثم سويسرا وغيرهما مطالبين بتحويل ما تحوزه من دولار إلى ذهب كما يقضي الاتفاق. وفي عام 1971 قررت إدارة الرئيس الأميركي نيكسون، التي كانت تعاني بلاده من ركود مصاحب بتضخم وتراجع في التنافسية الدولية لمنتجاتها لصالح المنتجات اليابانية والأوروبية، بتعليق التحويل التلقائي للدولار إلى ذهب. وتم إغلاق «نافذة التحويل التلقائي» من الدولار إلى الذهب. وبرر نيكسون في خطاب متلفز لشعبه القرارات التي اتخذها، بعد استشارة خمسة عشر من كبار مساعديه، بأنها للحفاظ على عملتهم. وقرر زيادة التعريفة الجمركية على الواردات بمقدار 10 في المائة لحماية المنتجات أميركية الصنع، مهدئاً من روع مشاهديه بأن هذه الإجراءات سترفع سعر الواردات، لكنها ستحمي المنتج المحلي وتحافظ على سعره.
أما الامتياز الفياض فهو التعبير الذي استخدمه جيسكار ديستان، الذي رأس فرنسا في الفترة من 1974 حتى 1981، في وصف المزايا التي يتمتع بها الاقتصاد الأمريكي بفضل تسوية النسبة الأكبر من المعاملات الدولية بالدولار. وجعل هذا الاقتصاد الأميركي قادراً على تمويل عجز الموازنة العامة والحساب الجاري لميزان المدفوعات بتدفق مستمر لرؤوس الأموال إليه. ويزيد ريع الإصدار للعملة الأمريكية بتزايد نمو الطلب الدولي عليها؛ فكل حامل للدولار الأمريكي مقرض لاقتصادها.
وقد عاد مشروع العملة الموحدة في عام 1989 بتقرير السياسي الفرنسي جاك ديلور أثناء رئاسته للمفوضية الأوروبية، كتتويج للسوق الأوروبية الموحدة وحرياتها الأربع المتضمنة حرية انتقال السلع ورؤوس الأموال والخدمات والعمالة. ودعم هذا التوجه الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا ميتران والمستشار الألماني السابق هيلموت كول بالدفع بأن هذه الإجراءات مجتمعة من شأنها الوصول بأوروبا إلى اتحاد فيدرالي لا يختلف عن المعمول به في الولايات المتحدة؛ كان هذا هو الطموح الأوروبي وقتها.
بدأ العمل الفعلي بالعملة الموحدة في عام 2002، واعتمدتها 12 دولة من الأعضاء في الاتحاد، وتبعتها 7 دول أخرى لتشكل فيما بينها دول نطاق اليورو. ويتعامل به 340 مليوناً من المقيمين في هذا النطاق الجغرافي، بالإضافة إلى ست من غير الدول الأعضاء. ورغم أن اليورو هو ثاني أكبر عملة في العالم من حيث الحجم والتجارة في العالم، فإنه يحتل المرتبة الأولى من حيث التداول عالمياً لأوراقه النقدية وعملاته المعدنية التي يصدرها البنك المركزي الأوروبي.
وإذا كان بقاء عملة اليورو متمتعة بالقبول هو المقياس الأعلى للنجاح، فإن هذه التجربة الكبرى للوحدة النقدية قد نجحت، حتى الآن، وذلك وفقاً لوصف الاقتصادي المخضرم باري أيكنغرين، الأستاذ في جامعة بيركلي الأمريكية. ونتذكر معه أيضاً بأنه في عالم الاقتصاد والاستثمار والتمويل لا تضمن مؤشرات الماضي نتائج المستقبل، وإلا استمرت عملات أخرى كانت معتمدة دولياً، ثم انحسرت واختفت بعد تراجع القوى الاقتصادية والسياسية المساندة لها. واليوم، لن تجد لعملات أصدرتها إمبراطوريات وقوى كانت عظمى، أي أثر دال عليها وعلى ما كانت عليه من شأن إلا في بعض المتاحف وكتب التاريخ.
إضغط لتحميل العدد السابع عشر من نشرة حابي
خصم خاص بنسبة 50% على خدمات بوابة حابي