مدحت نافع يكتب: صدمة البترول الفيروسية

ربما يتعامل المضاربون على العقود المشتقة أكثر من أهل الصناعة الراغبين في تأمين تعاملاتهم المستقبلية

aiBANK

بقلم د. مدحت نافع رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية _ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كنا ندرس مادة شيقة اسمها “اقتصاديات البترول” وكان من أبرز ما تعلمناه من تاريخ تعدين البترول واقتصادياته ما يعرفه العالم من صدمة البترول الأولى والثانية ( عامي 1973 و 1979) والتي تعكس ارتفاعات كبيرة في أسعار البترول متأثرة بظروف حرب أكتوبر والثورة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط (الأغنى باحتياطيات النفط الخام).

إضغط لمتابعة جريدة حابي على تطبيق نبض

E-Bank

ثم ما عرف بصدمة البترول العكسية والتي بدأت مع عقد الثمانينيات وانخفضت خلالها أسعار النفط من 35-40 دولارًا للبرميل إلى ما دون 10 دولارات للبرميل! بنسبة انخفاض تصل إلى 70% …لم تكن الكتب والمقالات البحثية قد هضمت بعد ما فعله عقد التسعينيات من القرن الماضي، والذي شهد ارتداد الأسعار من نحو 17 دولارًا للبرميل إلى 36 دولارًا لينخفض مجدداً في 2001 إلى نحو 20 دولارًا للبرميل.

ما شهده العالم خلال الأيام السابقة وتحديداً في 20 أبريل 2020 من تراجع حاد في بعض عقود النفط الآجلة والمستقبلية وبالتأكيد في أسعار السوق الحاضرة هو بمثابة صدمة عكسية حادة، اسمحوا لي أن أصك لها اسماً مميزاً وهو الصدمة الفيروسية viral shock ذلك لأني قد تنبأت بأسعار النفط السلبية على صفحتي الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي منذ 18 مارس الماضي،

ولأن عقود النفط -خاصة غرب تكساس- تسليم شهر مايو قد شهدت لأول مرة في تاريخها أسعاراً سالبة تعني ببساطة أن تكلفة تخزين النفط أصبحت عبئاً على حامل العقد وأن التسليم المادي للسلعة محل العقد لن يكون ممكناً إلا لو قدّم بائع السلعة لمشتريها ثمناً مناسباً، يحمله على قبول شراء سلعة لا يطلبها أحد! بالفعل تجوب السفن المحمّلة بالنفط البحار والمحيطات بحثاً عن مشترٍ دون جدوى. تغص مواقع التخزين حول العالم بما يفوق قدرتها من النفط، ولا يلبي أصحابها مزيداً من الطلبات الجديدة.

أما المستهلك الأهم للنفط فهو في حالة شلل شبه تام. العالم كله قد أغلق الكثير من المصانع، وقيّد حركة النقل، وأوقف العديد من الأنشطة الاقتصادية المستهلكة للنفط ومشتقاته، الأمر الذي تراجعت معه توقعات النمو العالمي إلى سالب 3%، هذا القدر من الركود الذي يمكن مع مزيد من التداعيات الناتجة عن جائحة “كورونا” أن يزداد عمقاً، لتسود حالة من الكساد الحاد اقتصادات العالم.

في أسواق المشتقات ومنها عقود الخيارات التي تعطي الحق في الشراء أو البيع لسلعة معينة أو أصل معين، والعقود المستقبلية والتي تفرض التزامًا بالبيع والشراء، وكذلك العقود الآجلة (الأقل تنظيمًا ونمطية) التي يتم تداولها خارج المقصورة…عادة ما تكون عقود المشتقات “السلعية” بمثابة وثيقة تأمين لحامل العقد ضد تقلبات الأسعار وتلك الوثيقة لها ثمن مستقل وسوق مستقلة في البورصات.

كلما تحركت أسعار السلع محل العقد بعيدًا عن توقعات حامل العقد المشتق، فإن سعر العقد في سوقه الثانوية يكون في غير مصلحته. أما إذا اقتربت توقعاته من التحقق فإن سعر “وثيقته التأمينية” يكون في أعلى مستوياته.

ربما يتعامل المضاربون على العقود المشتقة أكثر من أهل الصناعة الراغبين في تأمين تعاملاتهم المستقبلية، لكن هؤلاء المضاربين الذين لا يرغبون أبدًا أن ينتهي العقد في حوزتهم عند اقتراب أجل استحقاقه، ولا شأن لهم بالتسليم المادي للسلعة محل العقد، هم مجرد طرف في عملية البيع والشراء، فإذا اضطروا إلى بيع عقودهم الآجلة بالسالب، فإن هذا يعني أن طلبات الشراء (من جانب المضاربين الآخرين أو حتى المستهلكين للنفط) منعدمة، وهو مؤشر خطير على تراجع النشاط الاقتصادي بصفة عامة.

حينما كنت في زيارة إلى سنغافورة وماليزيا عام 2007، بغرض دراسة كيفية إنشاء سوق للمشتقات في مصر، كان في بورصة سنغافورة عقود متداولة على زيت النخيل (الماليزي) لم يتم تنفيذها ماديًّا أبدًا، أي لم تشهد ما يعرف بالـ physical delivery للسلعة محل العقد، لأنه عند اقتراب العقد من التنفيذ يقترب سعره من الصفر، ذلك كون سعر السلعة في السوق الحاضرة هو سعر التنفيذ، فماذا يحدث عادة لطرف العقد الذي أوشك أجل استحقاقه أن يفرض عليه التزامًا بالاستلام أو التسليم المادي للسلعة؟ العقد يتم تنفيذه نقدًا أو مد أجله فيما يعرف بالـ rollover .

الأمر الذي دعاني في سياق آخر أن أؤكد على أن البورصة المصرية عليها أن تفكر بعيدًا عن السوق الحاضرة، لأنه عادة ما يسودها التنفيذ المادي، لكن هذا له حديث آخر. أعود إلى سنغافورة التي كانت بورصتها في حالة ترقّب كبيرة لحدث نادر، وهو أن عقدًا واحدًا لمشتقات زيت النخيل سيحين أجل تسليمه ماديًّا لأول مرة منذ بدء إصداره منذ سنوات!

الذي شهدته أسواق البترول من تقلبات حادة وانهيارات للأسعار، هوّن البعض منه بزعم أن النفط الأمريكي منفصل تمامًا عن خام برنت (الأهم كمرجعية لتسعير النفط)، وزعم البعض الآخر أن اقتراب العقد من الاستحقاق هو السبب الوحيد في تلك الصدمة، وأن المضاربين هم من تسببوا فيها ولا شأن للعقود آجال يونيو وما بعدها بتلك الصدمة..!

هذا الكلام غير المختص يتجاهل تمامًا علاقات الارتباط بين السلع القابلة للاستبدال، وقنوات العدوى المالية، وتداعيات تراجع النشاط الاقتصادي، وعلاقة أسعار المشتقات بأسعار السلع محل العقود…وقد جاء الرد سريعًا على تلك المزاعم في اليوم التالي بل في الجلسة التالية لتداول عقود يونيو من ذات الخام، وأسعار خام برنت التي تراجعت بشكل حاد على أثر جلسة 20 أبريل المشار إليها.

ألّا يتم مد أجل العقد نتيجة تشبّع السوق فهذا مؤشر سلبي. أن يصبح طرف العقد الملزم بالشراء للسلعة محل العقد في موقف لا يجد منه جدوى من شرائها ولو حصل على نقود مقابل شرائها، لأنه ببساطة لا يجد من يستخدمها أو يتحمل تكلفة تخزينها، فهذا مؤشر سلبي. أن تكون السلعة محل العقد شديدة الارتباط بسلع أخرى، وبديل شبه تام لها فهذا مؤشر سلبي وقناة للعدوى إلى أسواق وسلع أخرى.. فإذا كانت السلعة وقود النمو الاقتصادي الأهم فإن قنوات العدوى تتعدد وتخلق جائحة أخرى اقتصادية.

فرصة استغلال الاقتصاد المصري للتراجع العالمي الحاد في أسعار النفط ومشتقاته وتكلفة الطاقة كبيرة، خاصة إذا تم تخطيطها على نحو رشيد

ولأن مصر تمر بظروف استثنائية مناطها إعادة بناء وهيكلة الاقتصاد على أسس أكثر رسوخًا خلال ثلاثة أعوام ماضية، كانت تكلفتها الاجتماعية كبيرة ومرهقة. ولأن توقعات النمو للاقتصاد المصري (بصورة استثنائية في منطقتها وربما في العالم) تأتي مشفوعة بحجم السوق، وفرص النمو المحفز بالإنتاج وليس الاستهلاك فقط.

وتعد تكلفة الطاقة العائق الأبرز أمام هذا النمو، ولأننا نريد اقتصادًا إنتاجيًّا وليس ريعيًّا خاصة مع تفضيل الناس للسيولة وضعف الثقة في جميع مخازن القيمة حتى الذهب (وبالتأكيد العقار الذي يعد الاستثمار فيه نشاطًا اقتصاديًّا عقيمًا) …لكل ما سبق فإن فرصة استغلال الاقتصاد المصري للتراجع العالمي الحاد في أسعار النفط ومشتقاته وتكلفة الطاقة كبيرة، خاصة إذا تم تخطيطها على نحو رشيد.

الرابط المختصر