بقلم د. ماهر عشم رئيس شركة كومتريكس للتجارة الإلكترونية – عاش العالم الأسبوع الماضي في أجواء انتخابات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأعنف في التاريخ الحديث. حيث مرت التجربة في أجواء غير مسبوقة من وباء عالمي وصراعات عرقية وحزبية وعنف مسلح إلى آخره من أحداث معروفة جيدًا للجميع.
سبقت تلك التجرية بسنة تقريبًا وقبل انتشار وباء كورونا مناظرة عنيفة بين أنصار التصويت الإلكتروني والفريق الذي أصر على البريد التقليدي لاستناده إلى وثيقة ورقية في آخر الأمر. بدأ ذلك النقاش على خلفية المزاعم بالتدخل الإلكتروني لدول أخرى وتغيير النتائج في صالح أحد المرشحين. اشتد الاحتياج إلى نظام آخر بخلاف مراكز الاقتراع عند انتشار وباء كورونا وخوف الحكومات والجماهير من التزاحم الذي قد يؤدي إلى مزيد من الإصابات.
انتهى الأمر كما يعلم الجميع باستخدام البريد التقليدي المكمل لنظام إلكتروني يستخدم في إدخال وإحصاء الأصوات لكل مرشح. وانتهى الأمر أيضًا باتهام الفريق المؤيد للتصويت الإلكتروني الفريق الآخر الذي دعم البريد التقليدي بالتزوير في النتائج مستندًا إلى وقائع وشهادات لموظفي البريد.
لا أظن أنه بمقدور أحد أن يعرف حقيقة ما جرى بتلك الانتخابات ولا بعد عشرات السنين فكم من الأحداث المؤثرة التي مرت على العالم ما زالت مبهمة وغامضة. لكن ما استوقفني في تلك الانتخابات هو الرجوع إلى طريقة قديمة وتقليدية كادت أن تندثر في دولة رائدة في أبحاث وتطوير التكنولوجيا وبها الشركات التي تربعت على عرش الرقمنة بل وقادت العالم إليها.
التكنولوجيا بالتأكيد هي أقصر طريق إلى القضاء على الفساد والتزوير من ناحية لكن دائمًا ما تواجه خطر التدخل والغزو الإلكتروني من ناحية أخرى وهناك قراصنة محترفون في دول لها مصالح في تغيير مجريات الأمور إلى صالحها.
ذلك الجدل الدائر بين الرقمنة وبقاء الأمور على ما هي عليه عادة ما يحسم لصالح التحول الرقمي لكن بين الحين والآخر يستوقفنا انتصار الطرق القديمة في دولة رائدة مثل أمريكا لنسأل أنفسنا إذا ما كانت التكنولوجيا والتحول إليها مصيرًا حتميًّا ولي هنا عدة ملاحظات:
خاف الديمقراطيون من تغيير النتائج عبر القرصنة وخاف الجمهوريون من التزوير عبر البريد والنتيجة واحدة.
استغرقت عملية التصويت وعملية فرز الأصوات وقتًا أطول كثيرًا من الانتخابات السابقة.
لم تنجح إحدى الطريقتين في إقناع أنصار أي طرف في أمريكا أو العالم بنزاهتها.
نفس الإشكالية موجودة إذا أخذنا مثالًا آخر كالتعليم فوباء كورونا أجبرنا جميعًا العام الدراسي الماضي على استخدام التعليم الرقمي وكانت الإشكالية الكبري والجدل الدائر في جدواه بعيدًا عن أجواء المدارس والجامعات وإغفالًا إلى تأثير الخبرات المتراكمة من التعامل مع الزملاء والأساتذة في العملية التعليمية.
فمن ناحية لا يعرف المدرس إذا كان الطالب يستمع إلى الدرس أم لا وكثيرًا ما أطلب من طلابي بالجامعة عبر التطبيقات الإلكترونية عدم إقفال الكاميرات بالمحاضرة حتى أتمكن من التواصل معهم. وعادة ما يتخذ غير الراغب في المتابعة من رداءة خدمة مقدم الإنترنت حجة كي لا أتمكن من متابعته. هذا يتطلب من الأستاذ مجهودًا مضاعفًا لجذب انتباه الطالب الكامن في بيته وسريره واللذي يصارع من حوله كل المغريات التي تحثه على عدم التركيز مع المحاضر.
ومن ناحية أخرى تأتي إشكالية الاحتياج إلى الممارسة والتجربة في التعليم العملي كالطب والصيدلة والتربية البدنية إلى آخره. وأخيرا واجهنا إشكالية التقييم في الامتحانات ولجأت بعض المدارس إلى استخدام الأبحاث في التقييم مع استحالة معرفة إذا كان الطالب موضع التقييم هو صاحب البحث أم أنه لجأ إلى صديق أكثر خبرة للمساعدة أو استاجر من له القدرة على إخراج البحث الناجح.
من تلك التطبيقات– الانتخابات الأمريكية والتعليم الرقمي– وغيرها الكثير من التطبيقات الأخرى المالية والخدمية والتسويقية والشرائية أعتقد أن العالم في مرحلة انتقالية بين قديم تعود عليه وأتقنه وجديد أسهل وأسرع وأكثر كفاءة ولا يزال مليئًا بالمجهول والأمور العالقة التي لم تحسم بعد.
إنجاح التكنولوجيا يحتاج إلى الضمير الإنساني والأخلاقيات الصحيحة كأي تجربة أخرى. فبدون أمانة والتزام ورغبة في ما هو حق وصحيح لن تنجح أي تجربة ولن ينجح أي تطبيق. بل تحتاج الرقمنة إلى تلك الأخلاقيات بصورة أكبر لغياب الرقابة أو ضعفها . لذا فالرهان على نجاح المنظومة هو رهان على الأخلاقيات الإنسانية أولًا وأخيرًا.
لا أعتقد أن التكنولوجيا الحديثة قادرة على إلغاء الجانب الإنساني تمامًا فلا ينبغي أن ننسى أنها من صنعه ولن تستطيع أن تمحي وجوده أو الاحتياج الدائم إليه. كما أنها لن تستطيع إشباع الرغبة الإنسانية في التواصل إذ إنها تستطيع إشباع اثنتين فقط من الحواس الخمس السمع والنظر. فهي ناقصة دون التجربة الإنسانية وإن كانت مكملة لها وميسرة لكثير من أمورها.
لا أدعي معرفة المستقبل لكن لدي يقين بأنه لا معاصرة دون أصالة ولا يمكن للأخيرة أن تمحو الأولى.
اضغط لتحميل العدد السبعون من نشرة حابي
خصم خاص بنسبة 50% على خدمات بوابة حابي